بينما تحتاج معظم الكائنات الحية للهواء لتعيش، تزدهر بكتيريا تعرف باسم "كلوستريديوم ثيرموسيلوم" بلا أكسجين في بيئات خانقة لا تحتملها غيرها.
وتعيش هذه البكتيريا في أمعاء البشر، وتوجد بكثافة في وحل قاع المحيط، تمارس مهامها من دون كلل، في تكسير مادة السليلوز التي تُكوّن جدران الخلايا النباتية.
والمعروف منذ نحو قرن من الآن أن هذه البكتيريا لا تفعل ذلك بشكل عشوائي، إذ تعتمد في مهمتها على صبغة صفراء لامعة أطلق عليها العلماء اسم "ياس".
لكن التركيب الجزيئي لهذه الصبغة العجيبة، والذي يمنحها هذه الوظيفة، ظلّ لغزا كبيرا إلى أن تمكن الفريق العلمي في معهد لايبنتز ومعهد ماكس بلانك في ألمانيا من كشف السر الذي تخفيه هذه الصبغة الصفراء.
التوجيه الذكي
وخلال الدراسة المنشورة بدورية "أنجيوانديت كيمي إنترناشونال أديشون"، نجح الباحثون باستخدام أحدث تقنيات التحليل الطيفي والتجارب الجينية، في اكتشاف أن هذه الصبغة تحتوي على مركبات أطلقوا عليها اسم "سيلوكسنثينات".
تقوم هذه المركبات بدور "التوجيه الذكي"، إذ ترتبط بشكل انتقائي بألياف السليلوز (المادة النباتية الصلبة)، وتساعد في توجيه إنزيمات التحلل (السليلاز) مباشرة إلى مواقع وجود السليلوز، وهذا التوجيه الدقيق يُعزز من كفاءة تحويل السليلوز إلى سكريات، يمكن لاحقا تحويلها إلى وقود حيوي مثل الإيثانول.
لكن ما أدهشهم أكثر هو أن هذه المركبات لا تساعد فقط على إنتاج الوقود الحيوي مثل الإيثانول، بل تملك تأثيرا مضادا خفيا ضد بعض البكتيريا الموجبة الغرام، بما في ذلك سلالات مقاومة للمضادات الحيوية، وهذا يمنحها ميزة تنافسية، إذ يمكنها حماية مصدر غذائها (السليلوز) من البكتيريا الأخرى التي قد تحاول استغلاله، وهذا ما يجعلها هدفا واعدا للأبحاث في مجالي الطاقة الحيوية وتطوير مضادات حيوية جديدة.
إيقاظ الكنوز النائمة
هذا الإنجاز ليس وليد المصادفة، فقد جاء ضمن مشروع علمي طموح يُدعى "أنوكسيجين"، معني باكتشاف مركبات حيوية جديدة من بكتيريا تعيش في بيئات خالية من الأكسجين، عبر تفعيل مسارات وراثية خاملة.
إعلان
ويقود المشروع البروفيسور كريستيان هيرتفيك الذي يشرح في بيان صحفي رسمي من معهد لايبنتز قائلا إن "كثيرا من البكتيريا اللاهوائية تخبئ في جيناتها القدرة على إنتاج مركبات فعالة طبيا، لكنها لا تفعل ذلك إلا في ظروف نادرة، وهدفنا هو إيقاظ هذه المسارات الجينية واكتشاف ما يمكن أن تقدمه لنا".
ويرى الباحثون أن هذه الصبغة التي لطالما حيّرتهم ما هي إلا بداية لسلسلة من المركبات التي قد تحدث ثورة في الطب والصناعة، وربما في مستقبل ليس ببعيد سيكون الوقود الذي يُشغل مركباتنا أو الدواء الذي يُعالج أمراضنا قد خرج من أحشاء بكتيريا قديمة، تسكن في الظل، وتعرف كيف تنجو من دون أكسجين.
أخبار متعلقة :