الكويت الاخباري

عاشوراء في طهران.. من الشعائر إلى سرديات الهوية الوطنية - الكويت الاخباري

في لحظة ما بعد الحرب، وسط تحولات سياسية واجتماعية متسارعة، تحولت مراسم عاشوراء هذا العام في إيران إلى مشهد مركّب يتقاطع فيه الديني مع الوطني، والطقسي مع السياسي. فعلى وقع المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، أعادت الدولة والمجتمع توظيف رمزية كربلاء لبناء خطاب موحِّد يركّز على الشهادة والوفاء والانتماء إلى الوطن.

وبينما ارتفع منسوب التفاعل الشعبي في الشارع الإيراني، بدت عاشوراء هذا العام وكأنها لا تُستعاد فقط بصفتها مناسبة دينية، بل كأداة لإنتاج سرديات حديثة عن التضحية والمقاومة، تستجيب للظرف السياسي المستجد.

مشاهدات من غرب طهران

وفي العاشر من محرم، زارت "الجزيرة نت" مراسم عاشوراء في المنطقة الخامسة غرب العاصمة طهران، وهي منطقة تسكنها الطبقة المتوسطة وتتميز بالحضور النشط في المناسبات الدينية والوطنية.

الموكب الذي شهدته المنطقة كان بتنظيم "موكب سالار شهيدان"، الذي أُسس عام 1996 على يد محمد جان فضا، ويديره اليوم مع شقيقه وزوجته، في نموذج عائلي مما يطلق عليها "الخدمة الحسينية".

يقول محمد جان فضا إن "موكبنا ليس مجرد مجلس عزاء، بل منصة ثقافية واجتماعية. نُحيي عاشوراء، نعم، لكننا أيضا نوزع مساعدات ونسهم في الإفراج عن سجناء معسرين. نعمل مع كل الفئات، من أطفال بعمر 3 سنوات إلى الحاج أحمدي البالغ من العمر 84 عاما، الذي لا يزال يخدم في قسم الضيافة".

والمميز هذا العام كان مزج هذه المراثي الدينية بأناشيد وطنية، في استجابة لدعوة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي طلب من المنشدين تضمين اسم إيران في النوحات، في محاولة واضحة لربط الرموز الدينية بالهوية القومية، خصوصا بعد التصعيد الأخير مع إسرائيل.

وبثّ التلفزيون الرسمي مقطعا من الليلة العاشرة من محرم، يظهر فيه المنشد الشهير محمود كريمي وهو يؤدي أنشودة "إي إيران" أمام حضور كثيف، في مشهد يعبّر عن دمج متعمّد بين الحماسة الوطنية والرمزية الدينية.

"نذر الطعام" ظهر كأحد أبرز رموز التكافل والتلاحم الاجتماعي في المناسبة (الجزيرة)

الحرب تترك أثرها

عاشوراء هذا العام لم تكن بمنأى عن السياسة؛ الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل تركت بصماتها على المزاج العام والمحتوى الرمزي للمراسم.

إعلان

قال مسعود إسماعيلي، أحد المشاركين في الموكب: "في الحرب الأخيرة، لم يكن الشعب موحدا تماما. المتدينون ساندوا الحكومة، بينما القوميون لم يعارضوها، لكن لم يدعموها علنا. أعتقد أن الدولة رأت في عاشوراء فرصة لتعزيز الوحدة".

وفي الاتجاه نفسه، قال الرادود مرتضى ترامشلو: "أكبر درس يمكن أن نتعلمه من يوم عاشوراء هو أن نكون دائما في صف المظلومين، وألا نكون ظالمين أبدا. لا نخضع للظلم أو للقوة (…) نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعمّ السلام في جميع أنحاء العالم، وأن تعيش الدول مع بعضها بعضا في صداقة ومحبة. نحن مستعدون لبذل أرواحنا حتى آخر قطرة دم في سبيل وطننا إيران، وسنبقى ثابتين وراسخين من أجل وطننا حتى آخر لحظة".

يرى مراقبون أن هذا الدمج بين الخطاب الحسيني والخطاب القومي يعكس تحوّلا في وظيفة الطقس الديني، من وعظ أخلاقي إلى خطاب تعبوي معاصر، يُستخدم لإعادة تأكيد الهوية الوطنية في لحظات التهديد أو الصراع.

الحرب الأخيرة مع إسرائيل أثّرت بشكل مباشر على محتوى شعارات عاشوراء (الجزيرة)

نساء في قلب الاحتفالات

برز الحضور النسائي بشكل لافت هذا العام، ليس فقط في إعداد الطعام أو دعم اللوجستيات، بل في التنظيم والمشاركة التربوية المباشرة.

قالت مينا طاهري، ربة منزل من الحي، إن "عاشوراء ليست للبكاء فقط؛ هي لحظة تربية وتكافل".

الأطفال أيضا شاركوا بملابس رمزية مثل زي "علي الأصغر"، وأسهموا في توزيع الطعام على الزائرين. وفي بعض المواكب، أشرفت النساء على الإدارة والتنظيم، ما يشير إلى توسع متزايد في أدوارهن داخل المجال الديني الطقسي.

الطعام كرمز تكافلي

واحدة من أبرز سمات عاشوراء في إيران هي "نذر الطعام"، حيث تُطهى وجبات ضخمة وتوزع مجانا على المشاركين.

قال الحاج أحمدي، طاهٍ متطوع، إن "كل شيء هنا يتم بنيّة. نطبخ قورمه سبزي، وقيمة، وآش نذري. من لا يستطيع الطبخ يساعد في التنظيف أو التوزيع. عاشوراء توحّد الناس حتى من دون كلمات".

من الشعائر إلى الهوية

في السياق الإيراني، لم تعد عاشوراء مجرد طقس ديني سنوي، بل تحوّلت إلى منصة رمزية لإنتاج خطاب يتجاوز الدين نحو قضايا العدالة والكرامة والمقاومة، يتكيّف مع كل لحظة سياسية ومع كل تحدٍ تواجهه البلاد.

تقول زهرا عسكري، طالبة جامعية: "أنا لا أمارس الطقوس الدينية طوال العام، لكن عاشوراء شيء آخر. أشعر أنها تخصني رغم كل شيء".

 الحضور النسائي برز بشكل واسع في التنظيم والتربية والدعم اللوجستي (الجزيرة)

"عشاء الغرباء": ذاكرة الفقد

مع غروب شمس العاشر من محرم، استعدّ الأهالي لمراسم "عشاء الغرباء"، وهي لحظة شعائرية تمثّل ذروة الفقد، إذ تُستحضر فيها رمزيا لحظة ما بعد استشهاد الإمام الحسين وأصحابه.

تُطفأ الأضواء، تُوقد الشموع، وتُتلى مراثٍ حزينة حول خيم رمزية تمثل ما تبقى من معسكر الحسين، حيث النساء والأطفال يسيرون من كربلاء إلى الشام مشيا، حسب الرواية الشيعية.

عاشوراء في إيران اليوم لم تعد فقط مناسبة دينية، بل أضحت مشهدا اجتماعيا سياسيا يتجدد كل عام بلغة المرحلة. من الحسينيات إلى الشوارع، ومن المآتم إلى الأناشيد الوطنية، تتفاعل طقوس كربلاء مع السياق المعاصر، لتصوغ سرديات جديدة عن الفداء والمقاومة والهوية.

إعلان

أخبار متعلقة :