مع فجر الثلاثاء 8 يوليو/تموز 2025، كانت إسرائيل على موعد مع صدمة أمنية مدوية شمال قطاع غزة، حين نفذت المقاومة الفلسطينية كمينا مركبا في منطقة بيت حانون أدى إلى مقتل وجرح نحو 20 جنديًا إسرائيليًا، في هجوم يُعد من أعنف وأدق الضربات منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وسمع سكان مدينة عسقلان دوي "الانفجار الكبير" وفق ما نقلته المواقع الإسرائيلية التي قالت إن أحد المصابين ضابط كبير.
وقال الإعلام الإسرائيلي -الذي تحدث عن العثور على جثث محترقة تماما لجنود فقدوا في الكمين- إن هذا الحدث من أصعب الأحداث التي تعرض لها الجنود منذ بداية الحرب.
ولم يتوقف الكمين عند أبعاده الميدانية، بل فجر ارتدادات واسعة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وأربك حسابات القيادة السياسية، وأعاد طرح سؤال مصيري: هل أدخلت المقاومة الفلسطينية إسرائيل مرحلة "كسر الردع" فعليًا؟ وما موقع هذا التحول في خريطة الحرب والمفاوضات معا؟
ثغرة استخبارية في الجيش
أظهر كمين المقاومة الفلسطينية حجم التآكل في البنية العملياتية للجيش الإسرائيلي، حيث تكررت الشهادات داخل الإعلام الإسرائيلي عن "فشل استخباري ذريع" سمح للمقاومة بزرع عبوات وتفخيخ مناطق دخول الجنود دون كشف مبكر.
ويرى المحلل العسكري رون بن يشاي -في تقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن هذا الكمين في بيت حانون تمّ التخطيط له مسبقاً بذكاء، وهو يكشف تقصيرًا في الرقابة الجوية والاستخباراتية رغم وجود طائرات مسيّرة إسرائيلية في السماء.
كما نقلت قناة "كان 11" الإسرائيلية عن ضابط ميداني في لواء ناحال قوله "الجنود وقعوا في كمين ناري مركّب.. العبوة الناسفة الأولى فجّرت المدرعة، وبعدها أُطلقت قذائف على ناقلة الجنود وجرافة دي 9، ثم استُهدف فريق الإخلاء.. لم نتوقع هذا السيناريو المتعدد المراحل".
إعلان
وأشار التقرير اليومي للجيش الإسرائيلي إلى 5 قتلى، وقرابة 17 جريحًا، بينهم ضباط. ولا يزال البحث جارياً عن 3 جنود مفقودين، وسط أنباء عن احتمال خطفهم من قبل كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ويتبع الجنود المستهدفون قوة من كتيبة 97 "نتساح يهودا" التابعة للواء "كفير" وبحسب التحقيقات الأولية فقد كانت تعبر الطريق سيرا على الأقدام وتم تفجير لغمين فيها عن بعد.
قيادة سياسية على وقع الانقسام والتخبط
بدأت القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي تحقيقا في الحادث، كما تم إطلاع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو (المطلوب للجنائية الدولية) على إفادة بالحادث خلال وجوده بالبيت الأبيض، حسب ما نقله الإعلام الإسرائيلي.
وسارع مكتب نتنياهو للدعوة إلى عقد جلسة طارئة للمجلس الوزاري المصغر، وسط تقارير إعلامية تفيد بانقسام داخلي حول شكل الرد المطلوب، حيث يدفع وزراء اليمين المتطرف، مثل وزيريْ الأمن إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريتش نحو رد انتقامي واسع شمال غزة، في حين تُبدي قيادات عسكرية تحفظها على التصعيد خشية توسع الخسائر.
ونقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مصادر أمنية قولها "الهجوم جاء في توقيت سياسي حساس يتقاطع مع المفاوضات في الدوحة، والتصعيد الميداني قد يجهض أي تقدم تفاوضي حول الرهائن".
وقد حمل زعيم المعارضة يائير لبيد رئيس الوزراء نتنياهو مسؤولية استمرار "الفشل القيادي" مشيرًا إلى أن "العقيدة السياسية للحكومة فقدت توازنها أمام مقاومة تعرف متى تضرب" مضيفًا "بعد خان يونس، قلنا إن الجيش بحاجة لإعادة تقييم، وها نحن نُفاجأ ببيت حانون.. من التالي؟ عسقلان؟".
وتصاعدت عمليات المقاومة الفلسطينية بشكل كبير خلال الأسابيع الماضية، وأدت لمقتل وإصابة عشرات الجنود والضباط في مناطق مختلفة بالقطاع الفلسطيني.
وكان يونيو/حزيران الماضي هو الأكثر دموية في صفوف جيش الاحتلال حيث قتل 20 جنديا وضابطا خلاله وأصيب آخرون، وهو ما أكدته وسائل إعلام إسرائيلية الأسبوع الماضي.
الموقف الأميركي والإقليمي بين الإنذار والاحتواء
تزامن كمين بيت حانون مع الحراك السياسي للتوصل إلى تفاهم يضمن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
ولم تعلق الولايات المتحدة بشكل فوري على الحدث، إلا أن صحيفة هآرتس الإسرائيلية أشارت إلى أن "إدارة ترامب بعثت برسالة" إلى تل أبيب تطلب "التهدئة وتجنب التصعيد" مضيفة أن واشنطن لا ترى مصلحة في عملية عسكرية واسعة في الشمال قد تعقّد مسار التفاوض.
وفي السياق ذاته، نقلت قناة الجزيرة عن مصادر دبلوماسية قولها "لن تنجح أي وساطة إذا استمرت إسرائيل في سياسات القتل والتهرب من الاستحقاقات الإنسانية.. المقاومة تملك أوراق ضغط ميدانية".
أما القاهرة، فتبنت صمتا حذرا، مكتفية بتكثيف التنسيق الأمني مع غزة وتل أبيب، في مؤشر على القلق من انفلات الوضع الميداني.
كسر عقيدة الردع
قرأت المقاومة نجاح الكمين بوصفه نقطة تحوّل في مسار الحرب الطويلة، فقد أصدرت كتائب القسام بيانًا مقتضبًا قالت فيه "في عملية نوعية في بيت حانون، نجح مجاهدونا في استهداف قوة صهيونية متوغلة.. ولن نكشف كل التفاصيل الآن" في تلميح إلى امتلاكها أوراقاً لم تُعلن بعد.
إعلان
وأشارت تحليلات إعلامية قريبة من المقاومة إلى أن هذه العملية ليست معزولة، بل جاءت ضمن تكتيك "الكمائن الممتدة" أي تكرار الهجوم في منطقة واحدة عبر مراحل لخلخلة قدرة جيش الاحتلال على الثبات.
كما أن توقيت العملية، بالتوازي مع مساعي التهدئة، يُفهم في سياق السعي لتقوية الورقة التفاوضية للمقاومة، خصوصًا إذا ثبت وجود أسرى أحياء بيدها.
ويتساءل كثيرون في الأوساط الإسرائيلية اليوم: هل فقد الجيش زمام المبادرة؟ وهل باتت المقاومة الفلسطينية تملي جدول الاشتباك؟
ونقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن مسؤول أمني بارز أن "ما يجري منذ بداية يوليو/تموز يشير إلى خلل في عقيدة الردع، حيث أصبحت المقاومة تختار الزمان والمكان، وتفشل إسرائيل في احتوائها سريعاً".
ومن جانبهم يرى خبراء فلسطينيون أن "الردع الحقيقي ليس في الصواريخ بل في منع العدو من التمركز والبقاء الآمن في الميدان" وبهذا المعنى فإن كمين بيت حانون أعاد تعريف الردع من مفهوم الضربات الجوية إلى قدرة الاستنزاف الميداني.
وليس كمين بيت حانون ضربة ظرفية، بل إنه تطوّر إستراتيجي يعكس تصعيداً مدروساً من قبل المقاومة الفلسطينية، في ظل بيئة تفاوضية حساسة.
وفي المقابل، تواجه إسرائيل، التي عجزت عن فرض معادلة الردع رغم مئات الغارات والاقتحامات، اليوم، مأزقًا ثلاثي الأبعاد، يتمثل بفقدان الجنود، واهتزاز الثقة الشعبية، وضغوط الحلفاء الدوليين.
وتبدو المقاومة في وضع هجومي واثق، يستثمر الميدان والوساطة في آن، لرسم ملامح نهاية الحرب وفق شروط أكثر عدالة.
أخبار متعلقة :