الكويت الاخباري

السلطة الفلسطينية وجدوى الإصلاح في ظل الإبادة والضم - الكويت الاخباري

تقترب حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية على قطاع غزة من نهاية عامها الثاني، بموازاة استهداف ممنهج ومتسارع لا يقل خطورة في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة، في مسعى من الاحتلال لفرض واقع يصفه بحسم الصراع.

في المقابل، تبرز العديد من الخطوات من قبل القيادة السياسية الفلسطينية ممثلة بالسلطة، تحت عنوان "الخطوات الإصلاحية"، مثل الدعوة إلى إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية العام الجاري.

تأتي هذه الخطوات استجابة للضغوط التي تمارس عربيا وإقليميا ودوليا على الفلسطينيين، في ظل وعود بحل الدولتين دون أن تترجم إلى قرارات فعلية على الأرض، تجبر الاحتلال الإسرائيلي على القبول بها، أو منح الفلسطينيين أملا حقيقيا بتتويج مسيرتهم للوصول إلى الاستقلال.

على العكس، فإن كل هذه الوعود تأتي في ظل حالة قضم ومصادرة للأرض، وفرض سيادة إسرائيلية تنذر باستحالة إقامة أي كيان سياسي فلسطيني على أرض الواقع.

خبراء أجمعوا على أن السلطة الفلسطينية تمتلك خيارات عدة لمواجهة الضعوط الدولية ووقف حرب الإبادة في غزة (وكالات)

ما هو المطلوب فلسطينيا؟

في ظل كل ذلك، ينشر موقع الجزيرة نت بالتعاون مع مركز رؤية للتنمية السياسية آراء مجموعة من النخب السياسية والخبراء، في محاولة لتحديد الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها السلطة الفلسطينية لمواجهة كل هذه التحديات.

وقد تم استعراض الآراء من خلال المحاور والأسئلة التالية:

ما هي خيارات السلطة الفلسطينية لمواجهة خطط الإبادة الجماعية في غزة ومخططات الضم في الضفة؟ ما هي أهداف قيادة السلطة الفلسطينية من إطلاقها ما يسمى خطوات الإصلاح، وآخرها الدعوة لانتخابات المجلس الوطني في ظل شروط فرضتها على من يريد المنافسة في هذه الانتخابات؟ ما الذي يمنع السلطة الفلسطينية من الدعوة إلى حل نفسها لفرض تحد أمام المجتمع الدولي لوقف خطط الاحتلال؟ ما المطلوب فلسطينيا العمل عليه كأولويات في ظل مخططات الاحتلال؟ هل أصبح مطلب الوحدة الفلسطينية أمرا بعيد المنال؟

إعلان

ويمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:

تعاملت السلطة بسياسة النأي بالنفس خشية من دفع ثمن لا تستطيع تحمله في هذه المرحلة، وهذا تقدير خاطئ لسياسات الاحتلال وأهدافه الآن. لدى السلطة خيارات كثيرة لو رغبت بذلك، أولها تعزيز الجبهة الداخلية الفلسطينية لأن جميع الفلسطينيين في دائرة الاستهداف، ولأن الاحتلال يسعى لشطب القضية الفلسطينية برمتها. تقف السلطة الفلسطينية أمام اختبار وجودي لا يتعلق بجدوى أدوارها التقليدية فقط، بل بمشروعية بقائها بصيغتها الراهنة. "التكيّف" مع إجراءات الاحتلال واعتماد الحراك الدبلوماسي الدولي، جزء من خيارات السلطة لامتصاص مخططات الاحتلال، في ظل عدم القدرة على دفع ثمن المواجهة المباشرة. الدعوة لانتخابات المجلس الوطني هي ترجمة للضغوط الدولية التي تسعى لتأهيل السلطة للمرحلة والظروف الجديدة، لتتناسب مع دورها في المرحلة القادمة. ما يجري اليوم ليس حربًا على غزة، بل محاولة علنية لإعادة تعريف القضية الفلسطينية برمّتها، من قضية تحرر وطني إلى أزمة إنسانية وسكانية، يُعاد ترتيبها وفق اشتراطات الاحتلال. ليس المطلوب الذهاب لخيار حل السلطة، بل تعديل وتغيير وظيفتها بما يحقق الأهداف التي أسست عليها، والمتمثلة في التأسيس للدولة من خلال التنمية والبناء المؤسساتي. كل ما كان قبل هذه الحرب من أدوات أصبح فاقدا لجدواه، والمطلوب شيء مختلف ومتغير، وخاصة البقاء على الأرض وعدم الغياب كليا، ويجب أن تأخذ الدعوة لمفهوم الوحدة ذلك بالاعتبار. هناك غياب لتصور واضح لما بعد السلطة، وانعدام ثقة في إمكانية بناء بديل جامع يعيد ترتيب الصف الوطني. الأولوية الآن فلسطينيا لوقف حرب الإبادة بغزة، ومنع تحويل مخططات الاحتلال بالضفة والقدس إلى واقع، والدعوة لانتخابات مجلس وطني الآن تمثل قفزا على هذه الأولويات.

واضح أن السلطة الفلسطينية اختارت سياسة النأي بالنفس عما يجري على الأرض، بدلا عن التركيز على الخيارات التي تعزز الصمود، وتعمل على توحيد الجهود لمواجهة المخططات الإسرائيلية.

هذا يجعل من خياراتها حتى اللحظة غير فاعلة من جانب، ولا تشكل حالة تعزيز للصمود من جانب آخر؛ بل هي حالة من التكيف مع الحقائق والواقع الذي يفرضه الاحتلال على الأرض، مما جعلها تخشى من معارضته بشكل عملي، وتفضّل التصريحات والمواقف الدبلوماسية التي لا تكلفها الثمن الكبير.

فحتى الدعوة لانتخابات المجلس الوطني، لا يمكن أن يبنى عليها كخطوة فعالة وعملية، وإنما النية عدم إجراء الانتخابات، بدليل أن المرسوم الرئاسي الذي صدر حول الدعوة لانتخابات المجلس الوطني، تضمّن اشتراطات للمشاركة، متمثلة بالالتزام ببرنامج منظمة التحرير والشرعية الدولية.

وهذا يتعارض مع مضمون ومفهوم الانتخابات، التي يفترض أن تكون حرة ونزيهة، وتعكس حاجة المجتمع وتطلعاته، لا أن تنساق وراء ما يفرض علينا من الاحتلال، أو من الأطراف الدولية، وهذا يمثل حالة إذعان وإقصاء، ولا يندرج ضمن مفهوم الإصلاح.

باعتقادي أنه لن تكون هناك انتخابات، بل عملية تعيين تحت تبرير أن الظروف الحالية لا تسمح بالانتخابات، وهذا سيكون على حساب مفهوم الوحدة، لأن السلطة الآن تخشى من دفع ثمن الوحدة الداخلية الفلسطينية.

 

أما إمكانية أن تذهب السلطة لحل نفسها كخيار للمواجهة، فهذا لن يحدث، لأنه لا يوجد سلطة تحل نفسها، فالسلطة الفلسطينية قائمة على مبدأ مراكز القوى بداخلها، والمعادلات السياسية الداخلية والمصالح، وستواجه هكذا خطوة برفض من داخل السلطة نفسها.

إعلان

المطلوب اليوم ليس بالضرورة حل السلطة، وإنما تغيير شكلها ووظائفها، فالسلطة قامت بعد اتفاقيات أوسلو على أساس التمهيد لبناء كيان سياسي ومؤسسات فلسطينية تمهيدًا لبناء الدولة، لكن ما جرى أن السلطة ابتلعت المنظمة ومؤسساتها، وهذا يتعارض مع جوهر إقامتها.

ويمكن تحقيق إعادة بناء وظيفة السلطة من خلال إعادة توزيع الموازنة؛ لتعزيز الأسس التي يمكن تقويتها لا تقويضها، بما يحقق حالة التنمية لمواجهة مخططات الاحتلال، لأنه إذا ما انهارت السلطة في لحظة المواجهة مع الاحتلال، عندها يمكن للشعب الفلسطيني أن يخلق بدائل لتعزيز حالة الصمود، من خلال تفعيل اللجان والنقابات التي تتولى دور إدارة الحالة الفلسطينية.

منذ اليوم الأول بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قال نبيل أبو ردينة "إن السلطة ليس لها علاقة بما يجري في غزة"، بالتالي فقد أخذت السلطة الفلسطينية موقف النأي بالنفس تحت ذرائع كثيرة، منها عدم القدرة، أو الاتفاقيات الموقعة، أو ألا تتحول الضفة إلى غزة.

هذه الذرائع كلها، وبعد عامين من الحرب، أُسقطت بشكل أو بآخر، لأن ما يجري بالضفة، وتحديدا في مخيمات الشمال، وتعزيز الاستيطان، غيّر كل شيء. السلطة لديها خيارات كثيرة لو رغبت بذلك، لكنها عزفت عن الذهاب إليها.

فمثلا الخيار الرئيسي الذي كان يمكن العمل عليه، والذي يجب أن ينبع من القناعة بأن الكل في دائرة الاستهداف، التجهّز لمواجهة مخططات الضم من خلال تعزيز وتقوية الجبهة الداخلية، ومنح المجال للمقاومين بالعمل، والعمل على توحيد الموقف الفلسطيني من خلال الحوارات.

لكن للأسف هذا الخيار لم ترغب به السلطة، وبقيت تسوّق ذات الموقف الذي تريده، حتى وصل الحال إلى توافق توجهات السلطة مع مطالب الاحتلال بسحب سلاح المقاومة، والإذعان لمطالب إبعاد جزء من الشعب الفلسطيني عن المشاركة في القرار، من خلال الشروط التي وضعها الرئيس محمود عباس لمن يريد المشاركة بالانتخابات المقبلة.

فيما يتعلق بالدعوة لانتخابات المجلس الوطني، تأتي منفصلة عن الواقع، فلا يمكن فهم الإعلان عنها في ظل حرب الإبادة في غزة، وعنف المستوطنين والتهويد الذي يجري بالقدس والضفة. والأولوية يجب أن تكون لوقف حرب الإبادة وإغاثة المجوّعين.

مواجهة التوسع الاستيطاني ومشاريع الضم والاحتلال ينبغي أن تكون أولوية للسلطة بحسب سياسيين (الأناضول)

إضافة إلى ذلك، فإن استبعاد كل من يختلف بموقفه السياسي مع منظمة التحرير والشرعية الدولية، يعني فعليا استبعاد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني عن المشاركة بالانتخابات، علما أن كل فلسطيني هو عضو طبيعي في منظمة التحرير، ومن حقه ممارسة ما يريد وفقا لقناعته السياسية.

كان بالإمكان العودة لنتائج الحوارات التي جرت على مدار سنوات طويلة، وآخرها وثيقة بكين وبمشاركة الجميع، والذهاب لانتخابات شاملة، رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، بظروف غير الظروف الحالية.

إذا كان هناك اعتقاد لدى السلطة أن هذه الانتخابات ستكون بمثابة ورقة اعتماد لتأهيلها والقبول بها للدخول إلى مرحلة سياسية جديدة يتحدث عنها الأميركان وغيرهم، فهذا يعتبر حالة وهم، لأن الولايات المتحدة، وخلفها الدول الأوروبية، هي شريك أو على الأقل توفر مبررات للحرب على غزة، ولا يهمها حالة الإصلاح الفلسطينية بقدر ما ترغب في إحداث تغيير تحت دافع الابتزاز السياسي.

فالإصلاح يأتي فقط بقرار وبرغبة وطنية فلسطينية، وليس خضوعا لاشتراطات، وهذا ما حصل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات قبل اغتياله.

السلطة الفلسطينية هي نتاج اتفاقات مع الاحتلال والأميركان، كان الهدف منها التأسيس للوصول للدولة، لكن للأسف لم نصل للدولة، بل تآكلت السلطة، وقرار حلها ليس فلسطينيا، واليوم يراد لها من الأميركي والإسرائيلي حصر دورها في مراكز المدن، وضمن رؤى محدودة جدا.

خيارات السلطة الفلسطينية لمواجهة الإبادة الجماعية في غزة ومشروع ضم الضفة الغربية، لا تتجاوز الاعتماد على الوسطاء، وممارسة الضغوط الدولية السياسية والدبلوماسية، وتحاول السلطة التكيّف أو امتصاص الحملات والممارسات الإسرائيلية، وتسعى للتلويح بما يسمى بالمقاومة الشعبية، التي لم تشكل حالة قوية حتى الآن. لهذا السبب، هوامش السلطة ضيّقة في مواجهة الخطط الإسرائيلية.

إعلان

الدعوة لانتخابات المجلس الوطني هي ترجمة للضغوط الدولية والاستحقاقات المحلية، بهدف تأهيل السلطة للمرحلة والظروف الجديدة القادمة، والتحديات المحيطة بها، لهذا السبب، الانتخابات هي محاولة لإرضاء الطلبات والضغوط، وهي إعادة إنتاج لنظام يراد له أن يكون مناسبا للمراحل القادمة، التي يأخذنا إليها مستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

أما المطلوب عمله، فالواضح أن كل ما تم من جهد دبلوماسي سابق، قد تجاوزته الأحداث. المطلوب الآن شيء مختلف ومتغير، أهم الأولويات هي البقاء على الأرض وعدم الغياب كليا، وهذا يتطلب أساليب وعقليات وأدوات جديدة، ويحتاج الكثير من النقاش، فالبقاء والصمود أمر فضفاض وغامض، وهو بحاجة إلى خطط وتفاصيل، وليس هروبا من الواقع.

هذه الحرب غيرت السلوك والأولويات والمفاهيم، فوسط الدعوات لتغييب حماس عن الساحة، وتكييف السلطة مع الشروط الجديدة، يبدو الحديث عن الوحدة الوطنية مختلفا، وبالتالي يجب البحث عن صياغة جديدة للنجاح، وعدم التفكير بذات المنهجية السابقة، فكل مرحلة لها وجوهها وقياداتها ومعطياتها.

إن أي مطالبة لإصلاح السلطة هي ذر للرماد في العيون، فالمطلوب هو تغيير في السلطة وتغيير في منظمة التحرير، ودون ذلك سيكون مضيعه للوقت، فالسلطة تعتبر نفسها محايدة، أو متفرجة، وحتى أنها لم تكتف ببيانات الشجب والاستنكار، بل أصبحت تتخذ مواقف تسهل على الاحتلال سياساته من خلال تبني خطاب يهاجم المقاومة، والدعوة لسحب سلاحها.

بالتالي لا يمكن التعويل على موقف السلطة، فلا خيارات لديها في هذا الجانب. حتى فيما يجري بالضفة، فإن السلطة تمارس دور المحايد، فماذا فعلت تجاه قرار الكنيست بضم الضفة، وتهجير ما يزيد عن 35 ألف مواطن من مخيمات الشمال، وماذا فعلت تجاه جرائم المستوطنين من قتل وحرق وتدمير في قرى رام الله؟، فلا رهان على السلطة لتكون ضمن أي مواجهة.

أما بشأن الدعوة لانتخابات المجلس الوطني، فهذا مطلب فلسطيني منذ 16 عاما، ولم تتم الاستجابة له. ما يجري اليوم ليس له علاقة بانتخابات حقيقية وإنما ترسيخ النظام القائم، وإعادة إنتاجه.

الأولوية الفلسطينية تتعلق بوقف العدوان على غزة، ووقف جريمتي الإبادة والتجويع، وكذلك الأمر وقف حالة التدمير والتهجير التي تجري بالضفة، وليست الأولوية الآن الذهاب إلى الانتخابات، خصوصا أن من عطل الانتخابات في العام 2021، عندما كان بالإمكان إجراء الانتخابات هو الرئيس أبو مازن.

اليوم نحن أمام فرز؛ فمن جهة هناك من وقف إلى جانب الحقوق الوطنية ودافع عنها وقاوم الاحتلال، ومن جهة أخرى هناك من فرط بهذه الحقوق، فالمعيار ليس الحديث عن الوحدة فقط، بل من يعمل من أجل هذه الوحدة؛ لكي يطبقها بشكل حقيقي على الأرض.

تقف السلطة أمام اختبار وجودي لا يتعلق بجدوى أدوارها التقليدية فقط، بل بمشروعية بقائها بصيغتها الراهنة. ما يجري اليوم ليس حربًا على غزة، بل محاولة علنية لإعادة تعريف القضية الفلسطينية برمّتها، من قضية تحرر وطني إلى أزمة إنسانية وسكانية، يُعاد ترتيبها وفق اشتراطات الاحتلال.

تبدو السلطة عالقة بين انسداد الأفق السياسي من جهة، وضغوط دولية تحاصر أي محاولة انفكاك من مسار التسوية من جهة أخرى. ومع ذلك، لا تزال تطرح سردية الإصلاح وإجراء انتخابات للمجلس الوطني.

دعوات الإصلاح، رغم ما تحمله من شعارات التجديد، تطرح تساؤلات جدية حول الهدف الحقيقي منها، فهل تسعى إلى استعادة المشروع الوطني، أم إلى تكييف بنية النظام السياسي مع الأمر الواقع الجديد؟ حيث تنفصل غزة عن المعادلة، وتُدار الضفة وفق حدود ما يسمح به الاحتلال.

في المقابل، تبدو الخيارات البديلة أكثر جدية وإن بدت أكثر كلفة. فإعلان فشل مشروع السلطة بشكل صريح، والدعوة إلى حلّها كخطوة سياسية ضاغطة، قد يشكّل لحظة فاصلة تُربك حسابات الاحتلال والمجتمع الدولي على حد سواء. ومع ذلك، لم تُقدم القيادة على هذه الخطوة، ليس فقط بفعل الضغوط الخارجية، بل أيضًا لغياب تصور واضح لما بعد السلطة، وانعدام الثقة في إمكانية بناء بديل جامع يعيد ترتيب الصف الوطني.

حل السلطة الفلسطينية نفسها يبقى خيارا للضغط على المجتمع الدولي لا يخلو من المخاطرة (الجزيرة)

ورغم هذا التردد، فإن الزمن لا ينتظر. فالمطلوب الآن ليس فقط إعادة تعريف وظائف السلطة، بل إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني برمّته.

إعلان

يجب أن يتحول الاهتمام من الحفاظ على الكيان الإداري، إلى استنهاض أدوات الفعل الوطني، من توحيد التمثيل السياسي بين الضفة وغزة والشتات، إلى تفعيل المقاومة الشعبية، إلى تدويل الجرائم الإسرائيلية على أسس قانونية لا تفاوضية، وصولًا إلى إعادة بناء منظمة التحرير كمرجعية جامعة قائمة على الشراكة، لا على التفرد والاحتواء.

في خضم هذا كله، تظل الوحدة الفلسطينية شرطًا لا غنى عنه، لا بوصفها حلا مثاليًا، بل كإطار ضروري لمواجهة التفكيك الشامل الذي تتعرض له القضية.

السلطة الفلسطينية، إذا أرادت أن تبقى فاعلًا لا عبئا، عليها أن تخرج من موقع المتفرج إلى موقع المشتبك، وأن تتصالح مع مهمتها الأصلية: التعبير عن طموح شعب تحت الاحتلال، لا عن منطق إدارة أزمته وفق شروط الاحتلال.

عند الحديث عن دور "القيادة الرسمية الفلسطينية"، فقيادة السلطة هنا هي نفسها قيادة المنظمة، ولو دققنا أكثر سنجد أننا نتحدث عن فريق قيادي وليس عن هيئات قيادية، أي أننا نتحدث عن المتنفذين وأصحاب القرار، وليس عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أو المجلس المركزي والمجلس الوطني، ولا عن اللجنة المركزية لفتح، ولا عن الحكومة.

وعلى الرغم من وجود تداخل بين هذه الهيئات والشخوص، فإن الهيئات يبدو أنها آخر من يعلم، فهي إما مشلولة أو مغيّبة، أو يجري استدعاؤها عند الحاجة لنيل مصادقتها على توجهات مقررة أصلا.

يمكننا تقييم دور السلطة من خلال مواقفها السياسية المعلنة، كما من خلال خطواتها العملية، وأقول بكل أسف إن مواقفها السياسية العامة، كانت تتراوح بين الشلل والعجز، أو الاكتفاء بإصدار مواقف لفظية ومناشدات مجردة.

وفي بعض الأحيان صدرت مواقف بالغة السلبية والضرر عن قيادة السلطة، وصلت إلى حد الدعوة إلى محاسبة قيادة المقاومة، والادعاء بأن المقاومة هي التي منحت إسرائيل ذرائع لتنفيذ حرب الإبادة، والأنكى من ذلك القيام بحملات قمع في الضفة، مثل الحملة الأمنية في جنين، وتنفيذ اعتقالات سياسية بشكل واسع.

مما سبق نستنتج أن دور السلطة في مواجهة حرب الإبادة، كان محدودا بل وسلبيا، وهي التي امتنعت عن تنفيذ قرارات الإجماع الوطني في ظروف كانت أكثر ملاءمة، أو لأن السلطة محكومة بعقلية أنها مطالبة بإثبات جدارتها وحسن سلوكها لكي يتم قبولها، مع أن الأحداث تثبت أنه كلما أظهرت السلطة استعدادا للتنازل والتكيف مع المخططات الجارية، كلما تعرضت لمزيد من الضغوط، كما نرى في ممارسات إسرائيل في الضفة.

حين نتحدث عن الإصلاح يجب أن نشير إلى مصدرين لهذه الدعوات، وهما مصدران متناقضان ومتنافران. فهناك الدعوات الصادرة عن قوى وفصائل ومؤسسات المجتمع المدني، وشخصيات فلسطينية وهيئات أهلية وأكاديمية، وكلها دعوات تطالب ببناء الوحدة الوطنية، ودمقرطة مؤسسات منظمة التحرير، وترتيب البيت الفلسطيني.

ولكن هناك في المقابل دعوات أخرى على شكل ضغوط أميركية وأوروبية تدعو لإصلاح من نوع آخر، وهو إصلاح يلبي الشروط الأميركية الأوروبية، القريبة بل المتطابقة مع الشروط الإسرائيلية، من قبيل إصلاح المناهج، والمالية العامة ومنع التحريض، واختيار نائب رئيس، ومكافحة الفساد (مع أن الفساد مسكوت عنه إذا كان في صالح تعزيز السيطرة الإسرائيلية).

من الواضح أن إسرائيل لن توافق على إجراء الانتخابات في القدس، فضلا عن استحالة إجرائها في غزة، وكذلك الحال في الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، وخاصة الأردن وسوريا ولبنان.

فيما يتعلق بخيار حل السلطة، أعتقد أنه غير واقعي أو منطقي؛ لأن خيار حل السلطة قد يضر الشعب الفلسطيني أكثر مما يحرج إسرائيل والمجتمع الدولي، وإسرائيل بالمناسبة لديها خيارات جاهزة كي تستخدمها بدائل للسلطة، من قبيل عصابات أبو شباب، أو بعض الأطراف الإقليمية أو العربية، وحتى إمكانية التعامل المباشر مع مجالس محلية بلدية وقروية منتخبة.

وهناك اتجاه يتنامى في صفوف اليمين الإسرائيلي يدعو صراحة إلى تقويض السلطة، مع أن الاتجاه المركزي في إسرائيل ما زال يريد سلطة ضعيفة خاضعة، تعفيه من أعباء التعامل مع ملايين الفلسطينيين.

بتقديري المطلوب حاليا تغيير وظائف السلطة وليس حلها، أي حصر وظائف السلطة في الجوانب الخدمية، وبمعزل عن الدور الوطني والسياسي والمفاوضات التي يجب أن تكون من اختصاص منظمة تحرير موحدة تضم الجميع.

خبراء يستبعدون إمكانية إجراء انتخابات للمجلس الوطني في القدس وغزة (الأناضول)

والمطلوب هنا جملة من الخطوات والإجراءات، بعضها سياسي مركزي، وبعضها عملي تنفيذي، ويمكن البدء بتنفيذ الجوانب العملية الملحة الواردة في اتفاق بكين، وأبرزها تفعيل هيئة إصلاح، والتي يمكن أن تضطلع بدور الهيئة القيادية المؤقتة للمنظمة التحرير وإعادة بنائها تحضيرا للدعوة لانتخابات شاملة.

أما بالنسبة للإجراءات، فأعتقد أن الأولوية القصوى هي لوقف حرب الإبادة، وإغاثة شعبنا في غزة، واضطلاع قيادة المنظمة بدور رئيسي في الجهود من أجل وقف الحرب وإغاثة غزة، وذلك على قاعدة توافق وطني تستند لقرارات الحوار وليس لشروط تعجيزية.

من الخطوات العملية إعادة الاعتبار لدور الحركة الجماهيرية، من خلال تنظيم فعاليات موحدة في كل المحافظات، وتركيز الجهود على مواجهة انفلات المستوطنين وعربدتهم، ونصرة غزة وإغاثتها، بالإضافة لقضايا القدس والمستوطنات واللاجئين، وقضايا الحريات العامة والديمقراطية، وهي مهام تفرض نفسها على تجمعات شعبنا في الشتات أيضا.

ومن المهام الملحة كذلك، إعادة بناء جميع الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية والعمالية على أسس ديمقراطية صحيحة، بعيدا عن أشكال "التواطؤ" بالكوتا.

لا أعتقد أن من حقنا كمثقفين أو محللين أو ناشطين، أن نتخلى عن مطلب الوحدة الضروري والحيوي، صحيح أن هناك عقبات جدية تعترض الوحدة، ولكن تحقيق الوحدة في حد ذاته، هو عملية نضالية تراكمية مستمرة، وهي ليست مرهونة، ولا ينبغي أن تكون مرهونة، بقناعات الأطراف المختلفة، بل هي مسؤولية كل القوى المجتمعية والأهلية، وليست مسؤولية الفصائل فقط.

أعتقد أن السلطة أفقدت نفسها كل الخيارات، ووضعت نفسها بعيدة عن القدرة على المناورة، فمن عمق حالة الانقسام الذي كان قائما، هو عدم تنفيذ اتفاق بكين، فقد كان بمثابة الفرصة التي كان يمكن من خلالها دعوة العالم للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الواحد والموحد، وبرنامج سياسي مقاوم متفق عليه.

ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح؛ لأن واقع الحال والصراعات الداخلية طغت على المأساة والوجع. وبالتالي أفقدت السلطة ومنظمة التحرير والقوى المنضوية تحتها تعددية الخيارات.

أيا كانت المحاولات الفلسطينية لإيجاد نظام سياسي جديد، فإنه يبقى هناك معيق أساس متمثل في الاحتلال الإسرائيلي. فما أطلقه نتنياهو بمعارضة حكم فتح أو حماس، يؤكد أن لا وجود في عقلية الاحتلال لأي جسم أو مظلة سياسية فلسطينية، وهذا الموقف للأسف مدعوم من قبل الدول الغربية التي تدعم الاحتلال.

لست مع خيار حل السلطة بهذا التوقيت، لأنه سيمنح فرصه للاحتلال لتبرير أي فعل يريد، بل علينا أن نحميها ونقويها، فنحن أمام أشكال متعددة من الكفاح بما فيها الكفاح السياسي والدبلوماسي، فالعالم اليوم يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وبالتالي فإنه بدلا من أن نلغي السلطة يجب أن نستخدمها كرافعة معترف بها.

المطلب الأساس والوحيد الآن، ليس أن يتحد الفلسطينيون بالمعنى التنظيمي، بل الاتحاد بالمعنى السياسي على برنامج وطني، وبالشعار الذي يمكن أن يشكل عنوانا لهذه المرحلة، فهو بحاجة إلى برنامج وطني سياسي كفاحي يوحد الجميع.

هذا يمكن أن يكون رافعة للعمل السياسي، وبشكل مواز للعمل الكفاحي، ودعوة المجتمع الدولي والضغط عليه لتنفيذ خطوات فاعلة ضد الاحتلال. ودون أن نكون بهذه الصورة وبهذا البرنامج، فإننا سنكون أمام كارثة، فالإرادة الوطنية الفلسطينية هي التي يمكن أن تمنحنا القدرة على أن نخطو إلى الأمام، ما عدا ذلك سنبقى مشتتين وتائهين، ونتلقى كل هذه الضربات والاستهدافات.

أخبار متعلقة :