الكويت الاخباري

"الجدة الصغيرة".. ملكة الطرب وموسيقى الأونياغو الزنجبارية - الكويت الاخباري

في صباح هادئ من أيام حي شانغاني العتيق في زنجبار ووسط أزقة ضيقة تتجول فيها رائحة البحر، ونوافذ خشبية نصف مغلقة على همسات الموج وصوت نباح كلاب بعيد، اختفت أيقونة الطرب السواحلي "القرنفلة السوداء" كما يلقبها عشاق صوتها.

بعد قرنٍ من الحياة، غابت عن الأنظار فاطمة بنت بركة، المعروفة باسم "بي كيدودي" أو "الجدة الصغيرة" بالسواحلية، تلك المرأة التي غزلت أيامها بصوتٍ أجشّ لا يُنسى، وروحٍ مرحةٍ لا تهدأ.

زنجبار، أرخبيل هندي يُعرف بـ"جزيرة التوابل"، اشتُق اسمه من "بر الزنج" وارتبط بالتجارة والهجرات الإسلامية منذ القرن الأول الهجري. خضعت للاحتلال البرتغالي والبريطاني، واستقلت كسلطنة عام 1963، ثم تحولت إلى جمهورية بعد ثورة 1964، واتحدت مع تنجانيقا لتشكّل تنزانيا.

تسلّل خبر اختفائها كشرارة في هشيم، فأوقد نارًا من الأسئلة والظنون. جاب الأصدقاء والمعجبون أزقة زنجبار الضيقة، يفتشون عن ظلٍ أو همسة، لكن المدينة بقيت صامتة كأنها ابتلعت سرّها.

وبعد أيام من الترقب، انقلب المشهد على شاشة التلفاز الوطني: رجل مجهول، بوجهٍ غريب ولهجة صارمة، يزعم أنه ابن أخيها، أعلن أنه "اختطفها" ليحميها من "استغلال" رفاقها الموسيقيين، متوعدًا بمنعها من الغناء إلى الأبد. وبقيت زنجبار معلّقة بين وجع الغياب وأملٍ يتشبث بعودتها، كأنها أغنية لم تُكتمل.

هكذا فجأة اختفت كيدودي داخل الجزيرة التي احتضنت حياتها وفنها، اختفت كنز زنجبار الوطني ورمزها الثقافي.

اختفاء بي كيدودي ألهم فيلمًا وثائقيًا جديدًا للمخرج آندي جونز، الذي عاد إلى زنجبار عام 2012 بعد انقطاع أخبارها، ليكتشف أنها محتجزة من قبل ابن أخيها بزعم حمايتها من الاستغلال. الفيلم بعنوان "أطلقتُ النار على بي كيدودي" يوثّق رحلتها من الفقر إلى العالمية، وانكشاف مصيرها الغامض.

من أزقة زنجبار إلى قلوب الملايين

وُلدت فاطمة بنت بركة في قرية مفاجيمارينو بزنجبار قبل أوانها وبجسدٍ ضئيل، فحملت اسمًا يعني "الشيء الصغير جدًا" بالسواحلية، وتحول لاحقًا إلى أيقونة فنية. رغم غياب تاريخ ميلادها الرسمي، يُعتقد أنها كانت أكبر مغنية متجولة في العالم، وقالت في لقاء صحفي "ولدت في زمن الروبية".

إعلان

بدأت الغناء في موانئ زنجبار مرتدية ملابس بسيطة، في وقت كان فيه والدها يبيع جوز الهند غير مدرك أن ابنته ستغدو رمزًا للطرب السواحيلي.

المغنية الزنجبارية بي كيدودي (مواقع التواصل الاجتماعي)

قادها شغفها بالغناء إلى بيت "ستي بنت سعد"، حيث كانت تسترق السمع وتحفظ الألحان خفية، لتبني ذاكرة موسيقية استثنائية. واجهت حياة صعبة بعد انفصال والديها وزواجها المبكر في الثالثة عشرة، لكنها تمردت وهربت لتواصل مسيرتها الفنية، وظل الغناء عشقها الأبدي، خاصة أنها لم تُرزق بأطفال.

أتقنت "بي كيدودي" ألوانًا غنائية متعددة، من التراث الزنجباري إلى العربية والجاز، وأبدعت في أداء أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب. بصوتها الجميل، كسرت قيود الفقر والتهميش، وخلّدت اسمها كأيقونة زنجبارية لا تُنسى.

شاهدتهم يسخرون من غنائها وملابسها

في عام 1985 أو 1986، التقت مريم حمداني لأول مرة بـ"بي كيدودي" وسط مشهد مؤلم من سخرية الناس من غنائها وملابسها، لكنها رأت فيها صوتًا ذهبيا لم يره أحد. بدعمها، انضمت كيدودي إلى فرقة "النجوم المتلألئة"، وانطلقت في مسيرة فنية أبهرت الجمهور المحلي والعالمي، لتُلقب بملكة الطرب وموسيقى الأونياغو، وتنهال عليها الجوائز.

القرنفلة السوداء صوت نساء زنجبار

في الثقافة السواحيلية، تُعد "أونياغو" طقوسًا موسيقية تُمارس قبل الزفاف واحتفاءً ببلوغ سن الرشد للفتيات. برزت بي كيدودي وبي نغوالي كمغنيات بارزات في هذا اللون الفني.

امتلكت القرنفلة السوداء مواهب متعددة: موسيقية، وفنانة حناء، وطبيبة بالأعشاب. بدأت الغناء في سن العاشرة، وهربت من زواج مبكر إلى تنجانيقا، حيث انضمت لفرق الطرب.

عادت إلى زنجبار في الأربعينيات، واستقرت في حي شانغاني. وفي الثمانينيات، نالت شهرة وطنية بظهورها التلفزيوني المتكرر.

مزيج موسيقى الطرب السواحلي

نشأت موسيقى الطرب في زنجبار أواخر القرن التاسع عشر كمزيج من التأثيرات الأفريقية والعربية والهندية والفارسية، وتُؤدى في المناسبات الاجتماعية، خاصة حفلات الزفاف، باستخدام آلات كالعود والقانون والكمان. تتميز بطابع سردي وشعري، وتُغنى بالسواحلية حول الحب والحياة.

تعتمد هذه الموسيقى على المقامات الشرقية كنظام لحني يمنحها طابعًا فريدا من خلال ترتيب النغمات والوقفات.

غنت بي كيدودي بالعربية إلى جانب فرق زنجبارية ومصرية، وشاركت كبار المطربين العرب مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم. وفي التسعينيات، خاضت تجربة مزج الجاز بالطرب، مؤكدة تفرد هذا اللون الموسيقي الذي يجمع بين المقامات الشرقية والتأثيرات الأفريقية المحلية.

على مدى عقود، جابت كيدودي العالم من زنجبار إلى أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، وشاركت في مهرجانات دولية ونواد ثقافية، وكانت صوتًا حاضرا في المشهد الموسيقي العالمي.

حصلت على جائزة "وومكس" عام 2005، التي وصفتها بأنها "رمز ثقافي ومرشدة للأجيال"، كما نالت ميدالية الفنون والرياضة في تنزانيا عام 2012، وترشحت لجوائز الموسيقى التنزانية عام 2011. واحتُفي بها في فيلمين وثائقيين وبودكاست بثته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2023، ولا تزال موسيقاها مصدر إلهام للفنانين المعاصرين في تنزانيا.

رحيل "الجدة الصغيرة"

في مساء كئيب من عام 2013، انطفأ صوت بي كيدودي تاركة خلفها صمتًا يثقل الذاكرة، وإرثًا موسيقيا يئن بالحياة. لم تكن تسعى إلى الأضواء، بل كانت تسير في الظلال، تغني للمنسيين، وتسكب من حنجرتها المبحوحة عزاءً للفقراء والجوعى والمهمشين.

إعلان

كانت حياتها قصيدة حزينة، نسجتها من دخان السجائر ونبض الطبول، ومن كأس مرٍّ كانت ترتشفه لتغني أكثر صدقا. ورغم نظرات اللوم، بقيت بي كيدودي صوتًا لا يُشبه أحدا، صوتًا يواسي، يداوي، ويُشعل شمعة في عتمة القهر.

رحلت لكن أنينها لا يزال يتردد في الأزقة وفي صدور من وجدوا في غنائها ملاذًا من الألم، ونافذة صغيرة نحو الفرح.

ودّعها المئات بقلوب مثقلة بالحزن، يتقدّمهم الرئيس التنزاني السابق جكايا كيكويت في جنازة رسمية حملت ملامح الاحترام والوفاء. لم تكن مجرد فنانة، بل صوتًا للمنسيين، فبكى رحيلها الأطفال والنساء والفقراء الذين وجدوا في أغانيها عزاءً وكرامة.

دُفنت بي كيدودي في قرية كيتومبا، حيث سكنت الأرض كما سكنت القلوب، تاركة خلفها إرثًا موسيقيا وإنسانيًا لا يُمحى، يستحق أن يُروى ويُحتفى به.

وفي إحدى مقابلاتها الأخيرة، همست بكلمات مؤثرة، قالت:
"أنا لا أغني كي أُصفّق، بل كي لا ينام الجائع دون أن يشعر أن أحدًا يغني له".

وأضافت: الموسيقى حياتي، إذا توقفت عن الغناء، فكيف يتوقعون مني البقاء؟

ماتت "الجدة الصغيرة" بعد هذا التصريح ببضعة أشهر فقط.

رحلت كما يرحل النسيم في آخر الليل، تاركة خلفها عبق تبغها المفضل يتسلل في الزوايا، وصدى ضحكتها يتردد في الذاكرة كأنها ما زالت تهمس للحياة بأغنيتها الأخيرة.

أخبار متعلقة :