في زقاق ضيق بقلب المدينة العتيقة في تونس، حيث تبدو الحكايات منقوشة على الجدران، تقع ورشة محمد بن ساسي. هناك، محاطا بكنوز مهترئة من الكتب القديمة والمخطوطات التي تعود إلى قرون مضت، يقضي الرجل السبعيني أيامه في مهمة تبدو كأنها سباق ضد الزمن؛ إعادة الحياة إلى الورق الميت.
طوال أكثر من 5 عقود، تنقل "عم محمد" بين ورشات أسوار المدينة القديمة، حاملا أسرار مهنة تجليد الكتب اليدوية التي تعود جذورها إلى ما يقارب ألف عام. اليوم، أصبح الحرفي الوحيد في العاصمة الذي لا يزال يمارس هذا الفن العتيق، حارسا أخيرا لبوابة تكاد أن تغلق إلى الأبد.
داخل ورشته التي تشبه عيادة أكثر منها مكان عمل، يرتدي محمد سترته البيضاء وينغمس في طقوسه اليومية. بين يديه، لا تتحول الأوراق المتناثرة والكتب المتهالكة إلى مجرد أغلفة صلبة، بل تولد من جديد. بالنسبة له، تتجاوز المسؤولية مجرد إنقاذ الكتب من الاندثار، لتصبح مهمة مقدسة لحماية التراث، والحفاظ على المعرفة، ونقلها إلى الأجيال القادمة.
يقول لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) بصوت يملؤه الشغف إن "الأمر أشبه بشيخ مسن ومريض، لذلك أحب التعامل مع الكتب كما يتعامل الطبيب مع مرضاه". وبالفعل، نجحت يداه في إنقاذ ما لا يحصى من المخطوطات النادرة والكتب القيمة من التلف الكامل.
فن الصبر والدقة
تتجلى على جدران الورشة قصاصات من الصحف والمجلات، إلى جانب جوائز التقدير والشهادات التي توثق مسيرة محمد ساسي منذ سبعينيات القرن الماضي. وفي مدخل الورشة، تقف آلة ضغط حديدية ثقيلة تعود إلى القرن 19، شاهدة صامتة على تاريخ المكان.
يعتمد "عم محمد" على أدواته التقليدية فقط، رافضا أي تدخل للتكنولوجيا أو المعالجة الرقمية، فعمله يجب أن يظل حرفيا ويدويا بالكامل. ويشرح قائلا إن "هذه المهنة معقدة وتحتاج إلى مهارات وجهد كبير، وهي الوحيدة القادرة على إصلاح هذا النوع من التلف والحفاظ على تلك الكتب المهمة".
وعملية التجليد اليدوي، وإن كانت بطيئة ومكلفة مقارنة بالتجليد الآلي، لم تتغير كثيرا منذ القرن 15. تبدأ بتمرير الخيوط لتشكيل العمود الفقري للغلاف، ثم تخاط الملازم المجمعة إليها، وتخاط أطواق الزينة في الأعلى والأسفل. بعد ذلك، تكسى أغلفة الورق المقوى بالجلد الطبيعي الفاخر غالبا، قبل أن تدمغ عليها الكلمات والزخارف. والنتيجة هي كتب تمتاز بالمتانة والجمال، تصل إلى حد اعتبارها أعمالا فنية قيمة.
إعلان
بين كنوز ورشته، تنتشر مخطوطات أرسلتها المكتبة الوطنية للترميم، وروايات وخرائط ومراجع علمية، ومصاحف قرآنية عتيقة، وكتب دينية قادمة من باكستان والهند. أغلبها يعاني من تآكل السوس الذي يهددها بالموت البطيء، ويتعين على الحرفي الخبير معالجتها بعناية فائقة قبل فوات الأوان.
بفخر المنتصر، يتذكر محمد أحد أصعب التحديات التي واجهها، حين تسلم من المكتبة الوطنية مرجعا موسوعيا ضخما من القرن 19، كان هدية من ملك فرنسا إلى باي تونس. يقول: "كان في حالة يرثى لها، وقد أعدت له الحياة من جديد".
دفاع مستميت في وجه العصر الرقمي
رغم أن عمله لا يقتصر على الكتب القديمة، بل يشمل تجهيز مطبوعات جديدة، فإن التحدي الأكبر الذي يواجهه "عم محمد" هو استمرارية مهنته في ظل الاجتياح الرقمي وتراجع الإقبال على القراءة في تونس.
تشير الإحصاءات إلى أن معدل قراءة التونسيين لا يتجاوز كتابا واحدا في العام، وأن نسبة الشباب بين القراء لا تتعدى 18%، وهو مؤشر مقلق يعزوه كثيرون إلى ضغوط الحياة وسيطرة البدائل التكنولوجية.
لكن محمد بن ساسي يرفض هذه النظرة السوداوية، وبنبرة الواثق يقول: "لا يخلو كل منزل من كتاب على الأقل، وهناك من يملك مكتبات خاصة ويحتفظ بالمئات، بل الآلاف من الكتب النادرة والقديمة".
ويستمر في دفاعه المستميت عن الورق: "يفضل كثير من الباحثين ورجال القانون استخدام المراجع الورقية لأنها أكثر دقة ومصداقية، ولا تتطلب شبكات تغطية ولا أموالا أو تراخيص رقمية للحصول على المعلومات المطلوبة كما هو الحال على شبكة الإنترنت".
عندما ينتهي من ترميم كتاب ويعيده كما لو أنه صدر للتو، ينتابه شعور عارم بالفخر والسعادة، وهو شغف يعادل إيمانه بأن الكتب ستظل باقية ما دام الإنسان موجودا.
يعتقد محمد راسخا أنه لو قدر له أن يعمل 3 قرون، فلن ينتهي من إصلاح كل الكتب التي تحتاج إلى عنايته. ويختم حديثه بعبارة قاطعة تلخص فلسفته: "حتى لو استمر العالم في استخدام أحدث التقنيات الرقمية، فإن الكتاب لن يموت".
أخبار متعلقة :