الكويت الاخباري

العولمة وتشكيل الرواية الصحافية في زمن الحروب - الكويت الاخباري

وداد طه

18/8/2025-|آخر تحديث: 19:00 (توقيت مكة)

المعلومات اليوم تتخطى الحدود، ولم تعد الأخبار والصحافة بشكل عام ابنة مكانها الأول أو محصورة في إطارها المحلي فحسب. ففي زمن العولمة، تنتقل الحكايات بسرعة الضوء، تعبر القارات والشاشات، وتصلنا غالبا وقد ارتدت ثوبا آخر غير الذي خرجت به من بيئتها الأصلية.

العولمة، وهي هنا تعرف كظاهرة متعددة الأبعاد (اقتصادية، وتكنولوجية، وثقافية)، أعادت تشكيل إنتاج الأخبار ونشرها في زمننا، زمن الحروب والأزمات، بحيث تتداخل الروايات العالمية مع المحلية، وتفرض وكالات الأنباء العالمية روايات تعكس تعقيد الواقع الميداني. وبمعنى آخر، وجدت الصحافة -وهي ابنة لحظتها السياسية والاجتماعية- نفسها أمام مشهد جديد؛ مشهد تتداخل فيه قوة السوق وإيقاع التكنولوجيا وحساسية الثقافات المحلية في إنتاج رواية واحدة.

تحاول هذه المقالة مقاربة تأثير العولمة على السرد الصحفي عبر منظورين: اجتماعي يشرح ديناميات القوة والتمثيل، وأنثروبولوجي من خلال تفاعل الثقافات في صوغ الرواية.

الشبكات الإعلامية الكبرى تتحكم في مسار القصص فنجد أحيانا أن قضية محلية تتحول إلى خطاب عالمي عن حقوق الإنسان (شترستوك)

الإطار النظري.. العولمة بين الاقتصاد والثقافة والتقنية

للعولمة أبعادها الاقتصادية التي تتمثل في هيمنة الوكالات الدولية، إذ إن 80% من الأخبار العالمية تنتج عبر وكالات فرانس برس ورويترز وأسوشيتد برس، إلى جانب منصات مثل بي بي سي وسي إن إن، مما يتحكم في أولويات التغطية الإخبارية ويؤدي إلى تنميط الرواية. وإلى جانب ذلك، فإن تآكل الصحافة المحلية وانكماش التمويل يحدان من قدرتها على تقديم روايات معمقة.

تتحكم هذه الشبكات الإعلامية الكبرى في مسار القصص، فنجد أحيانا أن قضية محلية -كمعاناة حي صغير تحت القصف- تتحول إلى خطاب عالمي عن حقوق الإنسان، بينما يضيع صوت هذا الحي في أحيان أخرى وسط ضجيج الأخبار العاجلة.

أما الأبعاد الثقافية والاجتماعية فتتجلى في صعود نموذج إخباري غربي يصدر عالميا، يهمش السرد المحلي ويعيد تشكيله وفق معايير غربية وقوالب عالمية. ومن قصص اللاجئين إلى حركات مثل Black Lives Matter وMe Too وصولا إلى التحقيقات الاستقصائية العابرة للقارات، يظهر بوضوح أن الحدود بين المحلي والعالمي أصبحت أكثر هشاشة.

إعلان

تتمثل إحدى القضايا المحورية في هيمنة التمثيل؛ إذ يصور إعلام الجنوب العالمي غالبا بوصفه مصدرا للشهادات، لا كصانع للروايات. ويظهر البناء الاجتماعي للأخبار عبر ملاحظة اختزال الصراعات المعقدة -كالحرب السورية- في سرديات مبسطة تلائم الجمهور الغربي، كما يظهر أيضا من خلال ديناميات القوة التي تمنح دول الشمال العالمي السيطرة على تدفق المعلومات.

ومن منظور أنثروبولوجي، يلحظ المتابع أثر النسبية الثقافية في مقاربة الأخبار، إذ يختلف مفهوم الموضوعية بين الثقافات. وكمثال حي، يمكن أن نجد اختلافا عميقا بين تغطية الإعلام الغربي لحرب غزة وتغطية الإعلام العربي لها، من حيث توصيفها وأرقامها ودقة قصصها والتعابير والمصطلحات المستعملة.

أما البعد التقني، فإن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها أدوات نشر فورية، قد أسهمت في نشوء "صحافة المواطن". فاليوم تكتب القصص في دمشق أو الخرطوم أو غزة، لكنها تقرأ في نيويورك أو طوكيو أو جوهانسبرغ في اللحظة نفسها. كما أن "صحافة البيانات" -من خلال توظيف الخرائط التفاعلية مثلا في تغطية أزمات اللاجئين- تعد مفيدة، لكنها قد تجرد معاناتهم من بعدها الإنساني.

في ضوء ذلك، تغدو العولمة واقعا يوميا يفرض نفسه على غرف الأخبار. فقد أعادت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الطريقة التي تكتب وتقرأ بها الأخبار؛ فلم يعد الصحفي وحده صاحب الصوت، بل انضم إليه المواطن العادي الذي يوثق بكاميرا هاتفه، والمنظمات العابرة للحدود التي تضع معاييرها الأخلاقية الخاصة.

وهنا تكمن المفارقة، فالعولمة تمنح الصحافة فرصة للوصول إلى جمهور أوسع، لكنها في الوقت نفسه تهدد أصالتها إذا لم تنتبه إلى التمثيل العادل والوعي الثقافي. المستقبل، كما يبدو، سيكون ملكا لمن يستطيع أن يزاوج بين الدقة والإنصاف، وبين الحكاية المحلية وروحها الإنسانية.

شبكة الإنترنت ووسائل التواصل تعزز "صحافة المواطن" حيث تُكتب القصص محليا وتُقرأ عالميا لتصل إلى جمهور متنوع فورا (شترستوك)

دراسة حالة.. العولمة في الميدان

تظهر تغطية الأزمات المحلية -مثل تغير المناخ وقضايا اللاجئين- كيف يعاد تأطير القصة محليا وعالميا.

فالحركات العالمية مثل Black Lives Matter وMe Too تمثل قضايا محلية تحولت إلى روايات عالمية.

أزمة اللاجئين: تحولت القضية من مأساة إنسانية إلى تهديد للأمن القومي الأوروبي. الحرب على اليمن: فقد ركزت الرواية الدولية على بعد الصراع الإقليمي، بينما أولت التغطيات المحلية اهتماما أكبر بمأساة المجاعة وتدمير البنى التحتية. التعاون الاستقصائي الدولي: حيث جمعت مشاريع كبرى مثل Panama Papers صحفيين من مختلف القارات.

التحديات والفرص.. نحو صحافة متوازنة

من التحديات التعميم والتحيز، واختزال الصراعات في ثنائيات (ضحايا في مقابل جناة). كما تتمثل التحديات في التحيزات الثقافية والسياسية في اختيار القصص وصياغتها، بالإضافة إلى خطر فقدان الأصالة في السرد لمصلحة معايير إعلامية معولمة، والإشكاليات ذات الطابع الأخلاقي للنشر في سياقات حساسة. ومن الجوهري في هذا الصدد الإشارة إلى فقدان السياق، أي حذف التعقيدات التاريخية والثقافية.

إعلان

ومن الفرص التعاون بين الثقافات في التغطية الحربية، والابتكار في أشكال السرد الصحفي (وسائط متعددة)، واستثمار التكنولوجيا للوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تنوعا. كما يمكن توظيف أحد أشكال الصحافة المعولمة، وهو صحافة التعاون، في مبادرات مثل Worldcrunch لترجمة التقارير المحلية. وأخيرا، يعد توظيف التكنولوجيا الداعمة -كالذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعددة اللغات- من أبرز الأدوات المستقبلية المتاحة.

الصحافة في عالم بلا حدود

العولمة ليست مجرد سياق خارجي للصحافة، بل هي قوة فاعلة تعيد تشكيل طبيعة السرد الإخباري، وبخاصة في الحروب حيث تتقاطع مصالح سياسية واقتصادية وثقافية. ربما يمكننا أن نقول إن العولمة حولت السرد الصحفي إلى ساحة صراع تبنى فيها الحقائق أثناء عبورها من ممرات اقتصادية وثقافية.

إن فهم الأبعاد الاجتماعية والأنثروبولوجية للعولمة يمكّن الصحفيين والباحثين من إنتاج تغطيات أكثر توازنا وعدالة، تجمع بين المعيار المهني والحساسية الثقافية. والتحدي الأكبر هو تطوير أطر أخلاقية عابرة للثقافات تحمي التعددية وتوازن بين القوة والمسؤولية.

وإذا ما تطلعنا إلى المستقبل الصحفي في عالم معولم، سنرى أنه يعتمد على قدرة الصحافة على المزج بين التكنولوجيا الحديثة والرواية الأصيلة، وعلى تعزيز التعاون العابر للحدود لخدمة الحقيقة. والسؤال هو: كيف يمكن للصحافة أن تكون جسرا لا منصة هيمنة؟ وهل ذلك ممكن؟

أخبار متعلقة :