الكويت الاخباري

"ملجأ الزمن".. رحلة أدبية فلسفية في دهاليز الذاكرة الأوروبية! - الكويت الاخباري

 

كتبت بديعة زيدان:

 

تقدم رواية "ملجأ الزمن" للكاتب البلغاري غيورغي غوسبودينوف، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية (البوكر) للعام 2023، تجربة سردية وفكرية فريدة.
تستكشف الرواية، الصادرة بالترجمة العربية عن دار الآداب في بيروت، بترجمة لنيديليا كيتايفا، علاقة الإنسان المعاصر بالماضي، وتأثير الذاكرة المتلاشية على تشكيل الهوية الفردية والجماعية في عالم يواجه أزمة وجودية.
تدور أحداث الرواية حول فكرة مبتكرة ومقلقة في آن واحد: إنشاء "عيادات للماضي"، يقودها شخصية غامضة وكاريزمية تُدعى "غاوسطين".
هذه العيادات مصممة خصيصاً لمرضى ألزهايمر وفقدان الذاكرة، حيث يتم إعادة بناء عقود زمنية غابرة بأدق تفاصيلها. كل طابق في العيادة يمثل عقداً زمنياً مختلفاً، من أربعينيات القرن الماضي وصولاً إلى تسعينياته، مُزوداً بكل ما يميز تلك الفترة من أثاث، وموسيقى، وروائح، وحتى أخبار الصحف والمجلات، بهدف توفير بيئة مألوفة للمرضى، أو بمعنى أدق "ملجأ زمني" يساعدهم على استعادة شذرات من ذاكراتهم، وبالتالي الشعور بأمان، ولو بشكل جزئي.
يتعاون الراوي، وهو كاتب وصديق قديم لـ"غاوسطين"، في هذا المشروع، فيصبح "صياداً للماضي"، يجوب العالم لجمع تفاصيل الحياة اليومية من أزمنة مختلفة، لكن سرعان ما يتجاوز المشروع هدفه العلاجي، إذ يبدأ الأصحاء باللجوء إلى هذه العيادات هرباً من حاضرهم المضطرب والمخيف، باحثين عن عزاء في حنين منظم ومُصنّع.
يصل هذا الهروب الجماعي إلى ذروته، عندما تقرر الدول الأوروبية إجراء "استفتاء على الماضي"، حيث تختار كل دولة عقداً زمنياً بعينه، لتعود للعيش فيه، وهنا يتحوّل الماضي من ملاذ شخصي إلى ساحة للصراع الأيديولوجي، وتصبح الذاكرة أداة سياسية خطيرة، ما يهدد بإطلاق "وحوش كامنة" في القارة العجوز.
تتفوق "ملجأ الزمن" في كونها أكثر من مجرد رواية. إنها عمل فلسفي مُقنّع يستكشف ببراعة أزمة الهوية في العصر الحديث، حيث يستخدم غوسبودينوف فكرة العيادة كاستعارة مركزية لتشريح مفاهيم مثل: النوستالجيا، والذاكرة، والتاريخ.
الرواية تقدم نقداً عميقاً لكيفية استهلاك المجتمعات للماضي، ففكرة الاستفتاء تكشف بأسلوب ساخر ومأساوي عن خطورة تحويل التاريخ إلى سلعة انتخابية، وكيف يمكن للحنين الجماعي أن يصبح قوّة تدميرية، عبر شخصيات مؤثرة مثل "السيد ن"، الذي يسعى لاستعادة ماضيه بمساعدة العميل السري الذي كان يراقبه، كما تطرح الرواية أسئلة جوهرية حول طبيعة الذاكرة، ما إذا كانت سجلاً دقيقاً للواقع أم بناءً مستمراً يتأثر برغباتنا ومخاوفنا.
يتبنى غوسبودينوف أسلوباً سردياً متشعباً وغير خطّي، يعكس طبيعة الذاكرة المتقطعة، حيث تتألف الرواية من خليط سردي خاص يمزج القصة الرئيسية، بحكايات فرعية قصيرة، وتأملات فلسفية، ومقتطفات تبدو كأنها من مقالات أو أبحاث.
هذا البناء السردي الفسيفسائي قد يبدو مُشتتاً للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة يخدم ببراعة الفكرة الرئيسية، حيث يجعل القارئ شريكاً في عملية تجميع شظايا الذاكرة والتاريخ.
لغة غوسبودينوف تتميز بشعريتها وقدرتها على التقاط التفاصيل الحسيّة الدقيقة، فالروائح، والأصوات، وملمس الأشياء تصبح بوابات زمنية تعيد إحياء عوالم غابرة، ويساعد الروائي في ذلك تنقله بسلاسة بين السخرية اللاذعة والتأمل الحزين، ما يمنح الرواية إيقاعاً فريداً وعمقاً إنسانياً.
وهذه السمة الجوهرية تشكل روح رواية "ملجأ الزمن"، بحيث عمل غوسبودينوف على تطويع اللغة لتصبح أداة حسية وشعرية، بحيث تبرز اللغة كبوابة زمنية، عبر استحضار الماضي بالحواس، فلا يكتفي الروائي البلغاري بوصف الماضي، بل يجعله ملموساً وقادراً على اختراق حواس القارئ، ناقلاً التفاصيل الحسية الدقيقة للشخصيات إلى القارئ.
وهنا نراه يتعاطى مع الروائح كذاكرة أساسية، فالذاكرة الشمّية، كما يصورّها غوسبودينوف، هي الأقوى والأكثر ارتباطاً بالماضي السحيق، ويظهر هذا بوضوح عندما يتحدث الراوي عن مهمته كـ"صياد للماضي"، حيث يدرك أن الماضي يختبئ في مكانين: أوقات ما بعد الظهر والروائح، فرائحة الستينيات تتجلي عند وصف الشقة، حيث لا يكتفي الراوي بتصوير الأثاث فحسب، بل يستحضر رائحة البيرة التي كانت تُستخدم لمسح الغبار عن أوراق نباتات الزينة، وهي تفصيلة صغيرة لكنها تعيد خلق جو منزلي كامل من تلك الحقبة، بينما تحضر رائحة الثمانينيات، عبر وصف الراوي لذلك الخليط بين رائحة الأسفلت الحاد والصمغ الذائب تحت الشمس مع رائحة البترول.
ولا تغفل الرواية الأصوات وملمس الأشياء، ففي هذا السرد المغاير، تُصبح الأشياء المادية في الرواية أكثر من مجرد ديكور، بحيث تتحول نواقل للذاكرة الجسدية، ومثالاً على ذلك ما يمكن وصفه بـ"ملمس الطفولة"، عندما يدخل الراوي غرفة الأطفال التي تحاكي الستينيات، فيكون فعله الأول إلقاء نفسه على السرير، ليشعر بـ"دغدغة أوبار غطاء السرير" الأصفر. هذا الفعل الجسدي المباشر يختزل المسافة الزمنية، ويعيده إلى سن الثامنة على الفور.
تكمن عبقرية غوسبودينوف في قدرته على موازنة الأفكار الثقيلة واللحظات الحزينة مع سخرية لاذعة وذكية، حيث يَحُول دون انزلاق الرواية نحو السوداوية المطلقة، فهذا التزاوج بين اللغة الحسية التي تجعل الماضي نابضاً بالحياة، والتأرجح المستمر بين السخرية والتأمل، يمنحان "ملجأ الزمن" عمقها الإنساني، فالرواية لا تقدّم أفكاراً مجردة عن الذاكرة، بل تغوص في التجربة البشرية للزمن، بكل ما فيها من جمال مؤلم، وضحك مبكٍ، وحنين إلى ما لا يمكن استعادته بالكامل.
على الرغم من أن البنية غير التقليدية للسرد قد تشكل تحدياً لبعض القراء، إلا أنها جزء لا يتجزأ من جماليات العمل وقوته، لذا فإن "ملجأ الزمن" ليست رواية تُقرأ بسرعة، بل هي دعوة للتأمل في علاقتنا المعقدة مع الزمن الذي مضى، والزمن الذي نعيشه.
وعلى عكس الروايات التي تعتمد على التشويق وتتابع الأحداث، تكسر "ملجأ الزمن" الإيقاع السردي التقليدي عن عمد، حيث البنية هنا لا تسير بخط مستقيم، بل هي أقرب إلى شبكة عنكبوتية من الذكريات والأفكار والحكايات، وهذا بحد ذاته يجبر القارئ على التوقف والتفكير.
وهنا نلاحظ تقنيات من قبيل "التشظي والمقاطعة"، حيث تتألف الرواية من فصول قصيرة، وقصص داخل قصص، واستطرادات فلسفية، وحواشٍ نظرية، فعلى سبيل المثال، يتوقف السرد الرئيسي عن "غاوسطين" والعيادة، لينقلنا الراوي إلى تأمل مطوّل حول قصيدة للشاعر ويستن هيو أودن عن الأول من أيلول 1939. هذا التوقف ليس مجرد استطراد، بل هو دعوة للقارئ للتفكير في كيفية تداخل التاريخ الكبير (الحرب)، مع التفاصيل الشخصية الصغيرة (الصداع والخيانة في الحلم)، ما يعكس صميم علاقتنا بالزمن.
وفي إطار "النظرية داخل السرد"، يدمج غوسبودينوف فقرات تبدو كأنها من كتابات "غاوسطين" النظرية، مثل: "لم يخترع أحد بعد قناع غاز للحماية من الزمن"، أو "الإنسان هو آلة الزمن الوحيدة التي نمتلكها". عبارات كهذه لا تدفع الحبكة إلى الأمام، بل توقفها لتقدم أطروحة فكرية، محولةً القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك نشط في الحوار الفلسفي.
وتنتقل الرواية ببراعة من هذا التأمل الشخصي إلى طرح أسئلة كبرى حول الذاكرة الجماعية والتاريخ، فالفكرة الساخرة والمأساوية حول إجراء استفتاء لاختيار عقد زمني للعودة إليه هي ذروة هذه الدعوة للتأمل، بحيث تجبر القارئ على مواجهة علاقة مجتمعه بالتاريخ.
وهنا لا يعود الأمر مجرد حنين فردي بريء، بل يتحول إلى قرارٍ سياسيّ، بشكلٍ أو بآخر، ما يدفع القارئ لإيقاف فعل القراءة تماماً، والشروع في التفكير بإسقاط حادثة الاستفتاء على بلده، وأي حقبة كان شعبه سيختار، ومبررات الاختيار، وتبعاته سلباً وإيجاباً.
في نهاية المطاف، "ملجأ الزمن" رواية جريئة ومبتكرة، تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات. إنها عمل أدبي مهم يعالج قلق العصر الحديث من المستقبل عبر الهروب إلى الماضي، ويؤكد أن الذاكرة، بكل تناقضاتها، قد تكون الأكثر إيلاماً والأكثر إنسانية في الوقت ذاته، ما يجعل الرواية ليست مجرد سرد قصصي، بل أيضاً رحلة فلسفية تغوص في أعماق القلق المُعاصر، تاركةً القارئ في مواجهة أسئلة وجودية كبرى.

 

أخبار متعلقة :