الكويت الاخباري

هل يحرك اجتماع زيورخ رياح التسوية في السودان؟ - الكويت الاخباري

سادت حالة من الارتياح العاصمة السودانية المؤقتة بورتسودان حينما انتشر على نطاق واسع في الـ29 من يوليو/تموز الماضي خبر أنّ الحكومة الأميركية ألغت اجتماع مجموعة الرباعية حول الأزمة السودانية الذي كان من المقرر أن يستضيفه وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو في واشنطن، ولم تعلن الخارجية الأميركية سبباً لإلغاء الاجتماع الذي بلغت تحضيراته صياغة البيان المشترك الذي كان سيصدر عنه.

ووجد ذلك القرار ارتياحاً كبيراً في بورتسودان، وتناوله الفضاء السياسي والإعلامي السوداني بكثير من التفاؤل الحذر، حيث ينظر البعض -وخاصة في الفريق الحاكم- إلى الرباعية دائماً بأنّها جزء من المشكلة، ولن تكون جزءا من الحل، فهي التي صنعت بدفع غربي الاتفاق الإطاري الذي كان سبباً رئيسياً في تسميم المناخ السياسي السوداني، واشعال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع يوم 15 أبريل 2023.

وقد أحدث قرار إلغاء اجتماع دول الرباعية (أميركا ومصر والسعودية والإمارات) حالةً من التنفيس تجاه موقف واشنطن فلم يقدر أحد حينئذٍ بأنها تتنامي لتصل إلى لقاء مباشر بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان والمبعوث الأميركي الخاص لأفريقيا والشرق الأوسط مسعد بولس، والذي جرى بمدينة زيورخ في سويسرا يوم 11 أغسطس/آب الجاري.

ورغم أن الحكومة السودانية لم تعلن شيئاً عما حدث، فإن تسريبات سبقت موعد اللقاء بيومين دفعت بأقدار من الرضا عما تمّ، إذ توافقت التسريبات عما يتوافق مع اتجاهات الرأي العام السوداني في أي تفاوض بشأن الحرب.

ورأى كثيرون من مراقبي الشأن السوداني أن هذا اللقاء فتح كوةً ظلت مغلقة لزمان طويل في جدار العلاقات السودانية الأميركية، وربما يفتح بذلك ثغرةً في الطريق المسدود.

ويمكن النظر في ذلك من الزوايا التالية:

إزالة الرباعية من سدّ قناة التواصل المباشر بين واشنطن والسودان، إذ كانت حجاباً يوصد أي تواصل مباشر بينهما، وأصبح بلقاء زيورخ إمكانية التواصل المباشر والحديث كفاحاً بين دولتين. ويتراجع بهذا المكان الذي كانت تحتله الرباعية دون تفويض شعبي غير استغلال حالة الضعف الذي اعترى البلاد بعد إسقاط الرئيس البشير.  اللقاء مكَّن السودان لأول مرة من تقديم سردية سودانية حول الحرب لأميركا بلا حواجز، وأتاح للأخيرة الاستماع مباشرة لهذه السردية دون فلترة أو تشويش، ولهذا استطاع الجنرال البرهان أن يقدم رواية كانت محجوبة ومشوشا عليها من الرباعية. وفق مصادر مقربة من الاجتماع حسب جريدة "السوداني" فإنّ البرهان قدم ملفا "أمنياً" شاملاً يوثق تورط دول إقليمية وأخرى من خارج الإقليم في دعم ما أسماها مليشيا الدعم السريع بالسلاح والتمويل والتدريب، وفتح مطاراتها لنقل الأسلحة والعتاد والمساعدات الأخرى. وتضمن الملف أدلة دامغة على تجنيد عشرات الآلاف من المرتزقة من الدول الأفريقية وغيرها. وتحدث البرهان باستفاضة عن جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الدعم السريع ضد المدنيين العزل. وتضمن الملف توثيق مسارات مئات الرحلات الجوية التي هبطت في مطارات أفريقية تحمل على متنها أنواعاً مختلفة من الأسلحة والعتاد (السيارات القتالية الحديثة، المدافع والذخائر، أنظمة الدفاع الجوي والإمدادات الغذائية والدوائية) مبيناً تورط 8 عواصم إقليمية ودولية في تأجيج الحرب. أودع البرهان بملفه الذي وضعه أمام الفريق الأميركي رؤيته حول نهاية الحرب، وما أعلن عنها أن "مليشيا" الدعم السريع لا مستقبل لها بالسودان سياسياً أو عسكرياً، وتستل هذه الكلمات من خارطة الطريق السودانية التي سبق أن أودعت مجلس الأمن الدولي، وأحيطت بها علماً منظومات إقليمية ودولية، داعياً إلى تفكيك هذه المليشيا وتسريح عناصرها، ومحاكمة قادتها. كما طلب البرهان من المجتمع الدولي الضغط على الدول التي تشعل الحرب لتكف أذاها عن السودان. أميركياً، ظهرت في الاجتماع تطورات في لغة الخطاب الأميركي تجاه السودان برسم الاختبار، فاللغة التي كانت تتسم دائماً بالتهديد والوعيد استذكرت من تأريخ العلاقة ما تراه إيجابياً، فقد أشارت التسريبات إلى أن المبعوث الأميركي أشاد بالتعاون التاريخيّ بين واشنطن والخرطوم في مجالات مكافحة الارهاب الدولي والإقليمي وملفات الاتجار بالبشر، والهجرة غير النظامية، وتهريب المخدرات والتطرف. وتتصاعد هذه الأيام عناوين محاولات الدفع بها إلى الفضاء الإعلامي للحرب وإلصاقها بالسودان، ولربما تشكل الإشادة الأميركية بالتعاون التاريخيّ مع السودان مصدات ترد عن السودان سهام الاتهامات المحتملة.
أمام مقر تقديم الوجبات (تكايا) بمدينة الفاشر التي تحاصرها قوات الدعم السريع (منظمة نفير الطوعية)

وأضاف الوفد الأميركي التأكيد على الدور المحوري للسودان في استقرار منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، مشدداً على أهمية التعاون بين البلدين حسب تسريبات نشرتها صحيفة "السوداني". وفي أجواء اللقاء أطلق المبعوث الأميركي تصريحات على منصة إكس أدان فيها عمليات قتل المدنيين التي (يُزعم) -حسب نص التغريدة- أن الدعم السريع قد ارتكبها في مخيم أبو شوك للنازحين بمدينة الفاشر شمال دارفور، وأضاف "نظل نشعر بقلق بالغ إزاء تدهور الأوضاع والتقارير عن أعمال عنف تمارسها قوات الدعم السريع ضد المدنيين في أوساط مدينة الفاشر ومحيطها، ونطالب بالسماح الكامل وغير المقيد بوصول المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين بما في ذلك توفير ممرات آمنة للفارين من العنف".

وكان يمكن اعتبار هذه التصريحات في سياقها من أقوى ما صدر عن الإدارة الأميركية في إدانة قوات الدعم السريع، لولا كلمة (يُزعم) التي كادت تنسف كل الحقائق التي تأسست عليها الإدانة. وأعقب التصريحات الأميركية بيان صحفي لمجلس الأمن أعلن فيه الرفض التام لإعلان الدعم السريع حكومة موازية محذرا من أنها تؤدي لتمزيق البلاد، واستذكر في تصريحه الصحفي قرارات له أصدرها برفع الحصار عن الفاشر والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، خاصة القرار رقم 2736.

إذن هناك رياح رطبة تهب هذه الأيام على السودان.

ولماذا هذا التدافع؟

بدفع تفاؤل حذر يمكن القول إن هناك عدة عوامل تدفع باتجاه الحلحلة او الاحتواء للحرب التي تدور في السودان منذ أكثر من سنتين. واعتقد أن من أهم محركات هذا التدافع الواقع الميداني الذي حقق به الجيش السوداني انتصارات استرد فيها الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وسنار، وهي ولايات مهمة من حيث الموقع الإستراتيجي في جغرافية البلاد باعتبارها الرابط بين شرقها وغربها، ومن حيث الثقل الاقتصادي لها. وقد كانت رغم وزنها الإستراتيجي تحت سيطرة الدعم السريع ما يقارب سنتين من أعوام الحرب.

الجيش بقيادة البرهان حقق المزيد من الانتصارات على قوات الدعم السريع (سونا)

إذن الجيش السوداني استرد زمام المبادرة، وتحسن أداؤه العسكري عدة ًوعتادا، وأصبح موضوع استكمال السيطرة على البلاد كلها مسألة وقت كما يقول كثير من المحللين.

وماذا تريد واشنطن؟

هل بالفعل توصلت أميركا إلى قناعة بأن الحرب بلغت المرحلة التي يجب أن يقال لها كفى، أم أن الحراك أملته اختلالات القوة، والمطلوب تدابير تمكن الدعم السريع من "استعواض" قدراته العسكرية بما يمنع الوصول إلى نهاية الحرب بتفوق أو انتصار الجيش السوداني ويحقق إيصال الطرفين إلى توازن ضعف يفرض التسوية بعد إحداث تموضع للدعم السريع في طاولة التفاوض.

إعلان

ولكن دون تأكيد أو تغييب ما سبق فإنّ هناك دوافع إستراتيجية واقتصادية وجيوسياسية تتقدم الأهداف الأميركية بإدراكها العميق -كما يدرك غيرها- أن السودان يحتل موقعاً مركزياً في جغرافية الصراع الدولي المتصاعد بمنطقة حاكمة، فهو يشرف على البحر الأحمر ويتموضع في طرق بين شمالي أفريقيا وعمقيها الصحراوي والغابي من جهة وبين منطقة الساحل والقرن الأفريقي، فضلاً عن توافر موارد الزراعة من حيث السعة والصلاحية والمياه، وهناك الذهب والموارد المعدنية الأخرى.

وهناك معارك الأيديولوجيا التي تحركها مشاعر الضيق بالإسلام السياسي المتمكن من قطاع شعبي واسع في السودان، والمتوزع على طيف واسع من الفاعلين السياسيين والمندفع إلى صفوف الجيش الأمامية في شراكة يحترمها الطرفان دفاعاً عن البلاد وحتمتها الحرب التي تدور رحاها الآن.

وهناك عوامل أخرى ربما تبدد بعض المخاوف السودانية أهمها ما راج بأن دولة قطر هي التي رتبت لقاء زيورخ، ليس فقط بتوفير الطائرة التي استقلها رئيس مجلس السيادة السوداني إلى هناك، بل الثقة في دور للدوحة مجرب النتائج بالسودان منذ توسطها في اتفاقات دارفور بين الحكومة السودانية والخارجين عليها العقد الماضي.

وربما ومض الأمل في الدور القطري بتصريحات أدلى بها المبعوث الأميركي في 21 من يوليو/تموز الماضي حين قال "ننسق مع قطر لحل النزاعات في السودان وليبيا والساحل" ولما عرف عن الدبلوماسية القطرية من جدية ودأب وخبرة وسابق تعاون مع واشنطن في ملفات عديدة.

وربما تكون خطوة زيورخ -رغم غموضها- الخطوة الأولى إلى حل الأزمة السودانية.

أخبار متعلقة :