الكويت الاخباري

كتاب "ما وراء الأغلفة" لإبراهيم زولي.. أطلس مصغر لروح القرن العشرين بين الأدب والفكر - الكويت الاخباري

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في لبنان، العام الجاري، كتاب "ما وراء الأغلفة: روائع القرن الـعشرين" للكاتب والناقد السعودي إبراهيم زولي، مقدما 30 عملا مفصليا شكلت ذاكرة القرن الـ20 الفكرية والفنية كما يراها.

وتتوزع المختارات على 15 رواية، و13 كتابا فكريا، مع مجموعة شعرية واحدة، ومسرحية واحدة. وكان منها 3 روايات و4 كتب عربية، في حين كانت بقية الأعمال من لغات أخرى، ليجسد الكتاب صورة بانورامية لقرن شهد تحولات كبرى في الفكر والأدب، ويغدو وثيقة ثقافية تستعرض مراحل تشكل الوعي الإنساني في العصر الحديث.

وإبراهيم زولي شاعر وكاتب سعودي من مواليد عام 1968، حاصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها، عمل في التدريس، وصدرت له 9 مجموعات شعرية، وتُرجم عدد من نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية.

تجاور الروائع

يوسع "ما وراء الأغلفة" مفهوم "الروائع"، ليغادر الحقل الأدبي الصرف إلى فضاء الفكر، فتجاور رواية "الأم" لمكسيم غوركي، و"المسخ" لفرانز كافكا، و"عوليس" لجيمس جويس، و"الغريب" لألبير كامو، كتبا تأسيسية للفلسفات والرؤى، مثل "تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد، و"الوجود والعدم" لجان بول سارتر، و"تاريخ الجنون" لميشيل فوكو. هذا التجاور ليس زخرفة قائمة على القيمة وحدها، بل هو قراءة في الطبيعة الهجينة للقرن؛ أدب مفكر فيه، وفكر مشبع ببلاغة النصوص.

ويعتمد زولي مسارا ثابتا في كل قراءة: تاريخ الإصدار وملابساته، والسياق التاريخي والفكري، وماهية العمل (موضوعه وبنيته وتقنياته)، ثم أهميته في حقله، ثم أثره اللاحق في الثقافة. ويضيف أحيانا بطاقة موجزة عن المؤلف واقتباسا لافتا يضيء جانبا من فكرة العمل. وبهذه الطريقة يمنح القارئ مفاتيح للدخول، من دون أن يفوت عليه متعة الاكتشاف.

إبراهيم زولي، شاعر وكاتب سعودي، صدرت له 9 مجموعات شعرية، وتُرجم عدد من نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية (مواقع التواصل)

روايات تؤرشف للقرن

ينطلق المؤلف من العالم العربي مع رواية "زينب: مناظر وأخلاق ريفية" المنشورة عام 1913 لمحمد حسين هيكل، وهي أول رواية عربية بالمعنى الحديث، تبرز بوصف تام للبيئة المصرية المعاصرة، وكان لها الدور الأبرز في تقديم الجنس الروائي للإنسان العربي. ثم يقدم قراءة لرواية "الأم" للروائي الروسي مكسيم غوركي، المنشورة عام 1906، خلال الفترة المضطربة في تاريخ روسيا بين ثورة 1905 الفاشلة وبدايات البلشفية عام 1917، حيث جسدت "الأم" فكرة الوعي الطبقي عبر تحول أم بسيطة إلى رمز للكرامة والتمرد. ويقدمها زولي شهادة حية على إيمان الإنسان بقدرته على مقاومة القمع، ونموذجا مؤسسا للواقعية الاشتراكية، مع إبراز أثرها في الأدبيات العمالية وحركات التحرر في العالم.

إعلان

وفي قراءته لرواية "عوليس" المنشورة عام 1922 للأيرلندي جيمس جويس، يتحول يوم واحد في دبلن إلى إعادة سرد حديثة لملحمة الأوديسا لهوميروس، حيث يستبدل جويس البطل الأسطوري بالبشر العاديين، ويبتكر "تيار الوعي" بوصفه أداة لتشريح دقيق للنفس واللغة والمدينة. ويبرز زولي أن "عوليس" وثيقة مدنية للحياة الحديثة، وورشة تقنية غيرت معالم السرد الروائي.

ويقرأ زولي أيضا رواية "الغريب" لألبير كامو، المنشورة عام 1942، على أنها نص تأسيسي لفكرة العبث واللامبالاة الوجودية، ومرآة لمحنة القيم زمن الحرب، وتجسيد لأسئلة الذنب والمسؤولية الأخلاقية. كما قدم رواية كازانتزاكيس "زوربا اليوناني" (1946)، الحاملة لفلسفة عميقة للحياة. وهكذا يمضي زولي في قراءة رواية "100 عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز (1967)، بوصفها ملحمة أميركا اللاتينية، ورواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو (1980) باعتبارها النموذج المبكر لرواية ما بعد الحداثة، ثم رواية "محبوبة" للروائية توني موريسون (1987) في مئوية إلغاء العبودية.

وقد كانت "الأرض اليباب" (1922) للشاعر تي إس إليوت المجموعة الشعرية الوحيدة في هذا الاستعراض، تناولها زولي بوصفها نصا مفصليا يعيد صياغة جماليات التشظي والتناص، واقترح أن إليوت صنع "مرثية العصر"، وأن أثره امتد إلى تجديد القصيدة الحديثة ومناهج قراءتها.

أما المسرحية الوحيدة في هذه الاختيارات، فهي مسرحية العبث "في انتظار غودو" (1953) لصموئيل بيكيت، التي تعد تأريخا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، زمن سقوط اليقين وتآكل الأطر الكبرى.

الفكر الحديث.. تشريح العقل الحديث

في معرض قراءته كتاب "تفسير الأحلام" (1900) لسيغموند فرويد، مؤسس علم التحليل النفسي، يصفه إبراهيم زولي بأنه وثيقة أساسية لفهم تطور الفكر الغربي الحديث، خصوصا فيما يتعلق بالهوية والجنسانية والعقل الباطن، وبأن تأثيره امتد ممهدا لظهور حركات فنية كالسريالية وغيرها. وفي قراءته كتاب "الوجود والعدم" (1943) لجان بول سارتر، يقدمه عمودا أساسيا في الفلسفة الوجودية، إذ يركز على الحرية والمسؤولية، وتفكك العلاقة بين الأنا والآخر، في ظل انهيار القيم وإلحاح أسئلة الحياة والموت، وفق رؤية سارتر الثورية التي منحت الكتاب أهميته العالمية، وامتد تأثيره إلى مجالات السياسة والحركات الطلابية والأخلاق والأدب والمسرح والفن.

ويقدم زولي أيضا قراءة لكتاب ميشيل فوكو "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الصادر عام 1961، الذي امتد أثره إلى دراسات النقد الثقافي والدراسات ما بعد البنيوية.

ثم ينتقل إلى كتاب "الاستشراق" الصادر عام 1978 لإدوارد سعيد، فيقدمه على أنه نقد جذري لتمثيلات الشرق في خطاب الغرب، ويعده زولي مرجعا مؤسسا لدراسات ما بعد الاستعمار، وزلزالا فكريا خرج من حدود الدرس الأكاديمي إلى المجال العام، متتبعا أثره في إعادة كتابة التاريخ الثقافي والسياسي للمنطقة.

ولا يمكن أن تخلو هذه الاختيارات من الكتاب الشهير "تكوين العقل العربي" (1984) لمحمد عابد الجابري، الذي كان جزءا من مشروع يسعى إلى إحداث تغيير جذري في البنية المعرفية للإنسان العربي. وينطلق من مسلمة أساسية مفادها أن النهضة العربية لا تتم إلا من خلال نقد علمي للعقل العربي، بتحليل جذوره منذ القديم، والكشف عن مكامن القوة والضعف فيه، ثم محاولة إصلاح الخلل الذي يعوق التقدم الحضاري والمعرفي للأمة. ويقرأه زولي مبينا أثره في مراجعة علاقة الإنسان العربي بالتراث والحداثة، ومبرزا حضوره في مناهج الدرس العربي الحديث.

إعلان

وكذلك لا يغيب عن هذه القائمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" (1925) لعلي عبد الرازق، الذي فتح معارك سياسية ودينية كبرى بسبب رفضه فكرة الخلافة.

الأهمية والأثر.. من المختبر إلى المجال العام

لم يكتف زولي بوصف القيمة الجمالية أو النظرية، بل توقف عند الآثار الملموسة: كيف صار فرويد لغة بديلة لقراءة الفن، وكيف فتحت "الأرض اليباب" باب الحداثة الشعرية، وكيف صاغ "الاستشراق" مفردات نقاش عالمي في الجامعة والإعلام والسياسة، ثم كيف جعلت "الأم" من الرواية أداة في الوعي الطبقي وحلم التغيير الثوري، وكيف حولت "المسخ" قلق الفرد الحديث إلى استعارة كونية للاغتراب، وكيف أرست "عوليس" تقنيات تيار الوعي لتغدو مختبرا للغة والمدينة والذات، وكيف حول "الغريب" سؤال العبث إلى قضية أخلاقية حول المعنى والعدالة، وكيف فتح "زوربا" كوة على فلسفة الجسد والحرية والاحتفاء بالحياة، وكيف منح "اسم الوردة" نموذجا مغايرا للرواية البوليسية حيث يتقاطع النص بالسلطة، والضحك بالمعرفة، وكيف صنع "في انتظار غودو" مجازا عن خواء الوجود وانسداد أفق المعنى.

وعلى الضفة الفكرية، أظهر كيف دشن "الوجود والعدم" لغة جديدة للحرية والمسؤولية الفردية، وكيف جعل "تاريخ الجنون" من المهمشين في المصحات مرآة لمؤسسات الضبط الحديثة، وكيف صاغ "تكوين العقل العربي" مشروعا في نقد البنى المعرفية، وكيف فجر "الإسلام وأصول الحكم" سؤال الشرعية السياسية في قلب الثقافة العربية الحديثة.

وبذلك تبدو المختارات، في قراءة إبراهيم زولي، مختبرا لا يقتصر على الأدب والفكر بوصفها متونا، بل يمتد إلى ما أحدثته هذه المتون من صدى فعلي في طرائق التفكير والكتابة والعيش.

أخبار متعلقة :