جيش نظامي تأسس بالمغرب في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، الذي حكم البلاد ما بين 1672 و1727. كان يتكون أساسا من عبيد اشترتهم الدولة من أسيادهم، إضافة إلى العبيد الذين تحرروا وأيضا سود البشرة الأحرار، وتم تدريبهم وتربيتهم منذ الصغر في معسكرات خاصة على الولاء للسلطان فقط.
سمي هذا الجيش بعبيد البخاري نسبة الى كتاب صحيح البخاري، وهو كتاب للأحاديث الصحيحة جمعه العلامة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وجرت عادة المغاربة أن يعقدوا مجالس لقراءته ومدارسة مضامينه.
فقد كان جنود جيش البخاري يقسمون على كتاب صحيح البخاري من أجل الولاء والطاعة للسلطان، ويرى بعض المؤرخين أنه كان أكثر الجيوش انضباطا وفعالية في تاريخ المغرب.
كان لهذا الجيش دور محوري في ترسيخ سلطة الدولة المركزية، خاصة في مواجهة التمردات القبلية، وفي تحرير عدد من المدن الشاطئية من الاحتلال الإسباني والإنجليزي، وتوسيع رقعة وحدود البلاد لتمتد إلى نهر السنغال جنوبا ونواحي تلمسان شرقا.
تحول بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل إلى قوة أثرت على استقرار الحكم نتيجة تدخله في تولية السلاطين وعزلهم واغتيال بعض رجال الدولة، مما أدى إلى انتشار الفوضى في البلاد.
التأسيس
تأسس جيش عبيد البخاري عام 1673، أي في السنة الثانية لتولي السلطان العلوي المولى إسماعيل الملك، بهدف تكوين جيش نظامي، على غرار الجيش العثماني المعروف باسم الانكشارية وجيش المنصور السعدي، يكون ولاؤه للسلطة المركزية ولا يتأثر بتقلبات القبائل وولاءاتها.
إعلان
يقول مؤرخون إن كاتب السلطان عمر بن قاسم الشهير باسم عليليش كان يحتفظ بدفتر يضم أسماء العبيد الذين كانوا في خدمة الجيش السعدي ورثه عن والده، وكان كاتبا لدى المنصور السعدي، فاقترح على السلطان مولاي إسماعيل جمع من بقي منهم ومن أولادهم لتشكيل الجيش.
ومرت عملية بناء هذا الجيش من مرحلتين أساسيتين، اقتصرت الأولى على جمع العبيد الذين وجدوا في دفتر عليليش، واشترت الدولة العبيد من أسيادهم في مختلف نواحي البلاد.
وفي المرحلة الثانية بدأ جمع العبيد الذين نالوا حريتهم، وكان يطلق عليهم "الحر الثاني"، ثم أضيف إليهم الأحرار، ومنهم أفارقة من جنوب الصحراء كانوا يسكنون المغرب، وقد أجبروا على الانضمام للجيش بسبب لونهم وقوتهم.
كان يتم جمع جنود جيش البخاري في مكان يسمى مشرع الرملة أسسه السلطان سنة 1678، وحسب بعض المؤرخين، يعد هذا الموقع أكبر تجمع عسكري في تاريخ المغرب، إذ كان يمتد على مسافة تشمل المجال الفاصل بين مدينتي سيدي يحيى الغرب وسيدي سليمان، وهناك كانت تعطى لهم الملابس العسكرية والسلاح.
وقدر عدد العبيد الذين تم جمعهم بـ12 ألفا، إضافة إلى ألفي عبد آخرين كان المولى إسماعيل قد عاد بهم من حملته على شنقيط عام 1678.
تزايد هذا العدد طوال عهد السلطان مولاي إسماعيل إما عن طريق تجنيد السود الذين كانت تأتي بهم القوافل بانتظام من الدول الأفريقية، أو بجمع كل العبيد الذين كانوا لا يزالون إما في ملكية بعض العائلات، أو متفرقين على القبائل، إذ أصبح من المحظور على أي كان أن يتملك عبدا، وجعل السلطان العبيد الذين جمعوا في مشروع الرملة أداة للإنجاب، إذ كان يزوجهم من الإماء قبل أن يرسلهم إلى معسكر الجيش.
وأثار إرغام سود البشرة الأحرار أو من كان يطلق عليهم في تلك الفترة "الحراطين" على الجندية جدلا في أوساط العلماء، وقيل إن لفظة "الحرطاني" هي تركيب مزجي بين "حر" وثان" وحرفت إلى "حرطان" ثم "حرطاني" وجمعها "حراطين".
إعلان
وبينما أباح فريق من العلماء مسألة تمليك "الحراطين" بدعوى مصلحة الجماعة، رفض فريق آخر منح الشرعية للسلطان فيها لعدم وجود مبرر ديني لاسترقاق الأحرار، وتزعم هذا الفريق الفقيه عبد السلام بن حمدون جسوس، وقد أدت هذه المعارضة إلى خروج عدد من سكان فاس للاحتجاج واتجهوا صوب قصر السلطان في مدينة مكناس (وسط المغرب).
وكان رأي هذا الفقيه أنه لم يجد أي مبرر شرعي -لا في الكتاب ولا في السنة ولا في آراء كبار الأئمة والفقهاء- يبيح للسلطان تمليك الناس.
وجر هذا الموقف المعارض على الفقيه غضب السلطان، فحبسه إلى أن توفي مخنوقا بباب سجن القلعة في فاس عام 1120 هجرية بعد أن تعرض لتعذيب شديد.
سبب التسمية
يقول المؤرخ أحمد بن خالد الناصري في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" إن سبب تسمية هذا الجيش بعبيد البخاري، أن المولى إسماعيل عندما شكل الجيش جمع أعيان البلاد، وأحضر نسخة من صحيح البخاري، وخاطب الجنود قائلا "أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل"، فعاهدوه على ذلك، وأمر بالاحتفاظ بتلك النسخة من الكتاب، وأن يحملوها في كل خرجاتهم ويقدموها في حروبهم.
معسكرات التدريب
في عام 1689 أمر السلطان المولى إسماعيل عبيد جيش البخاري بالإتيان بأبنائهم الذكور والإناث البالغين 10 سنوات إلى العاصمة مكناس ليتربوا في قصره، ويتدرب الذكور منهم على المهمة التي كان يؤهلهم لها وهي الجندية.
وكان يتم توزيع البنات على معلمات ومربيات يعلمنهن أشغال البيت وأصول رعاية الأبناء، أما الذكور فكانوا يوزعون على أصحاب الحرف ليتعلموا البناء والنجارة وصناعة الآجر والزليج والقرميد 3 سنوات، ثم يتلقون تداريب عسكرية مكثفة ويتعلمون ركوب الخيل واستخدام الأسلحة وشتى فنون الحرب 3 سنوات أخرى.
إعلان
في سن 16، يصبح المتدرب جاهزا للالتحاق بالحياة العسكرية فيتم تزويجه من إحدى الإماء اللائي تدربن في القصر، وتسجيله في ديوان الجيش، وينضم مع مجموعته إلى قائد عسكري يشرف عليهم، ويتم توزيعهم على مختلف القلاع والحصون.
استمر هذا التدريب والتكوين سنوات، تزاوج فيها أبناء وبنات العبيد إلى أن أصبح الجيش ضخم العدد، وامتلأت به الثكنات والحصون في جميع أجزاء البلاد.
ويقول المؤرخون إن عدد الجنود وصل إلى 150 ألفا، شاركوا في أعمال البناء والعمران أيام السلام، وفي أيام الحرب قضوا على الأعداء والخارجين عن الدولة.
أدوار جيش البخاري
بفضل هذا الجيش تمكن السلطان من تأسيس قوة عسكرية فرضت هيبة السلطة المركزية، وكان كلما أخضع منطقة متمردة لسلطته بنى فيها قلعة أسكن بها عددا من جنود عبيد البخاري مع زوجاتهم وأطفالهم.
ونجح السلطان في القضاء على التمردات القبلية التقليدية، إذ استطاع تجريد القبائل من أسلحتها وخيولها، وحصر نشاطها في العمل الزراعي، وألزمها بأداء الضرائب التي ازدادت قيمتها نتيجة لتزايد عدد الجنود ونفقات كسوتهم وتسليحهم ومعيشتهم.
كما تمكن السلطان من تحرير عدد من المدن والمناطق المحتلة باستخدام أسلوب الحصار العسكري، وكان من أبرز إنجازاته تحرير مدينة المهدية سنة 1681 بعد احتلال إسباني دام 70 عاما وجعل منها قاعدة لمعاركه البحرية.
وفي سنة 1684، استعاد مدينة طنجة من الاحتلال الإنجليزي، كما استعاد العرائش وأصيلة في عامي 1689 و1691 على التوالي من الاحتلال الإسباني.
وفرض حصارا طويلا على مدينتي سبتة ومليلة دام 27 سنة من 1693 إلى 1720، غير أن التحصينات العسكرية الإسبانية المتقدمة حالت دون استرجاعهما.
وفي غضون أقل من ربع قرن على هذه الحملات العسكرية لاسترجاع المدن الشاطئية، أصبح المغرب موحدا سياسيا وعسكريا.
وأرسل السلطان جيش عبيد البخاري بقيادة أحد إخوته نحو السودان الغربي (السنغال ومالي)، ووصل إلى مدينة يطلق عليها "تكزال" وغنم منها كمية كبيرة من الذهب نقلت على ظهر 150 من الجمال، إضافة إلى قرابة 5 آلاف عبد تم توزيعهم على وحدات الجيش لتعزيز صفوفه.
إعلان
وعلى الجبهة الشرقية تمكن السلطان من وقف زحف العثمانيين وأبعدهم عن بني يزناسن وتلمسان سنة 1683 بعد توقيع معاهدة صلح معهم، مما ساعد على توسيع رقعة الدولة وحدودها لتمتد إلى نهر السنغال جنوبا ونواحي تلمسان شرقا.
تفككه بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل
بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل عام 1727، استبد قادة جيش عبيد البخاري بأبنائه، وأصبحوا يتحكمون في شؤون الحكم، فيولون ويعزلون ويقتلون رجال الدولة، مما أدى إلى انتشار الفوضى في البلاد 30 سنة.
واستغلوا التنافس بين أبناء السلطان على العرش لترسيخ نفوذهم وفرض هيمنتهم. فقد تعاقب على الحكم في هذه الفترة 7 سلاطين، تولى كل منهم العرش بدعم وبيعة من جيش عبيد البخاري، لكنه ما لبث أن نقض بيعته.
وفي ظل هذا الوضع، اضطر بعض السلاطين إلى الاستعانة بالقبائل لكسر شوكة جيش عبيد البخاري. ومع تعدد المواجهات والصراعات، ضعف هذا الجيش تدريجيا واستنزفه السلطان والقبائل على حد سواء.
فقد قتل ما يناهز ألف جندي من عبيد البخاري في الفترات المتقطعة التي حكم فيها السلطان عبد الله، كما أن العديد من الجنود حين انقطعت عنهم المخصصات المالية كالزكوات والأعشار، غادروا القلاع التي كانوا يقطنون بها وتفرقوا بين القبائل التي كانوا ينتمون إليها في الأصل، مما أسهم في تناقص أعدادهم وتراجع قوة جيشهم.
غير أن السلطان محمد بن عبد الله حاول إعادة تنظيمهم من جديد لمواجهة قوة جيش الأوداية، لكنه مع تصاعد خطرهم على التوازن السياسي، قرر تفريقهم مجددا، موزعا إياهم بين طنجة والعرائش والرباط ومراكش ومنطقة سوس.
وقد اتبع السلطان محمد بن عبد الله هذه السياسة القائمة على الجمع والتفريق، مراعيا في ذلك التوازن بين القوى السياسية والعسكرية في البلاد.
أما السلطان مولاي سليمان، فقد سعى إلى إعادة إحياء قوة عبيد البخاري والاعتماد عليهم في مواجهة القبائل المتمردة، فجمعهم في مكناس، لكن زلزال لشبونة عام 1755 أودى بحياة نحو 5 آلاف منهم، مما شكل ضربة قوية لهذا الجيش.
ويشير المؤرخون إلى أن جيش عبيد البخاري في القرن الـ19 فقد الكثير من عدده وميزاته العسكرية، وأضحى قوة هامشية لا تقيم لها القبائل ولا السلاطين وزنا، وقد اقتصر دوره في الحروب على المهام الدفاعية.
إعلان
أخبار متعلقة :