الكويت الاخباري

"تراويد دير البلح".. فيظل العرس وتظل البلاد! - الكويت الاخباري

 

كتب يوسف الشايب:


صحيح أن "بلاداً واسعة وأفراحاً كثيرة صارت، اليوم، ساحة حرب"، لكن "لا أحد يجيد أن يسحب القمر من سماء المدينة، فأصحاب العرس هم العرس، وكل ضيف سيحمل الزغاريد هدايا إلى مكانه، فيظل العرس وتظل البلاد"!
وبعد ساعات على استشهاد عروسين، قبل إتمام يوم من زواجهما، في قصف إسرائيلي على قطاع غزة، كان عرس آخر على وقع قصف طائرات الاحتلال، وصوت "الزنانة"، في قاعة قصر رام الله الثقافي، وعلى خشبة مسرحها، عبر لوحات دبكة شكلت عرض "تراويد دير البلح" لفرقة سرية رام الله الأولى للرقص الشعبي، مساء أول من أمس.
بثّت لوحات عرض "دير البلح" في الجمهور الذي فاض عن سعة قصر رام الله الثقافي، في نفوس الحاضرين، شيئاً من الأمل في مواجهة الكثير من الألم الذي افترس النفوس، واستوطنها، وشكل عنواناً بارزاً ليومياتهم كما جلّ الفلسطينيين الباقين على أرضهم المحتلة، ونكأت الجرح بما كنّا عليه قبل الاحتلال تلو الآخر، منذ أكثر من سبعة وسبعين عاماً، وما آلت إليه أحوالنا، من سيئ إلى أسوأ، حد الإبادة والمجاعة والتقتيل والتهجير والاعتقال.
كانت البداية مع لوحة "دابا يا قلبي دابا"، وصُمّمت على وقع إحدى أغاني "المردنية"، وتعنى في ليالي الحنّة أو ليالي أم العريس، وفيها تعبير عن الشوق والانتظار لعودة الأحباب، فـ"أحبابنا" التي بُنيت على واحدة من الأغاني الشعبية التي كان يرددها العاملون في موسم حصاد القمح، ومن ثم "يا غرامي" اللوحة التي اتكأ أداؤها على تلك الأهزوجة التي كانت تغنيها النساء تحية للعريس واعتزازاً به، لتتبعها "شرق جمل حمدية"، وقامت على واحدة من أغاني الحصاد بما فيها من غزل غير مباشر بالمتزيّنات بالوشوم الزرق، فأغنية الفخار "لمين هاي العلية" التي شكلت اللوحة الخامسة.
وتحت عنوان "هلا بالورد" كانت اللوحة السادسة القائمة على أغنية فلكلورية تمثل لهفة العريس للقاء العروس، تلتها لوحة في مديح "الديراويّات"، أي نساء دير البلح، كانت علامة فارقة في العرض أداء كما لحناً وكلمات، تحت عنوان "صف البراري"، لتتبعها الفرقة التي تتجدد باستمرار، فكراً وعروضاً وفنانين، بلوحة "ويلي زمان" مجسدة بأداء مسرحي راقص ما كانت تردده النساء احتفالاً بالمولود الذكر، قبل أن تنتقل الفرقة إلى لوحة "صباحية العروس" بالاتكاء على مجموعة من أغنيات أم العريس فرحاً بابنها، ليختتم العرض بلوحة "ما بريدو"، وتحمل عنوان أغنية ذات طابع مرح، فيها شيء من التمرد، في تأكيد على أن الأعراس لم تكن تغادر دير البلح، تلك المدينة الساحلية التي تشتهر ببلحها الأبيض ورطبها الأسمر، كما بياراتها، وبحرها وساحله.
تآلفت عدّة عوامل ليكون العرض استثنائياً، بدءاً من جهود جامعات وجامعي الأغاني من حاملات التراث في دير البلح بقيادة ريم جابر، المديرة التنفيذية لجمعية "نوى" للثقافة والفنون في دير البلح، صاحبة الفكرة ومعدّة الأغاني، وإخراج الموسيقى للفنان سامر جرادات بتوزيع موسيقي من الفنان يعقوب حمادة، مروراً غير عابر بكلمات الراوي التي شكلت رابطاً درامياً ما بين لوحات العرض العشر، وسرداً استثنائياً للحكاية للشاعر خالد جمعة، انعكس أداءً حكائياً وتمثيلاً ودبكة من دواخل الفنان فراس فراح، وهي اللوحات التي صممها الفنانون خالد عليان، وجميل سحويل، ونضال عبده بمشاركة رياض خوري ونوار سالم، مع الإبداعات الاستثنائية لراقصات وراقصي فرقة سرية رام الله الأولى للرقص الشعبي الذين تقمصوا الكلمات وشربوا الموسيقى فخرجت أداءً غير متكلف وعميقا في آن، بعد تدريب لسنوات تحت إشراف عليان وسحويل ولينا حرامي، فأشعلوا القاعة عرساً وطنياً على شكل عمل فني، كان ثيمة التحدي محورية فيه، وانعكست في انسيابية ما بين استراحة وأخرى من قصف مميت، حولت العرض بأغنياته ولوحاته الراقصة، إلى حالة من "المساس".
وكان جلياً الدور الإبداعي للفنانة جورجينا عصفور مخرجة "تراويد دير البلح" وصاحبة الدراماتورجيا الخاصة به، دون إغفال الحضور المبهر لأزياء عصوب سرحان، وإضاءة معاذ الجعبة.
وخلال السنوات الثلاثين الأخيرة، أصبحت الصورة النمطية لقطاع غزة تظهره كمنطقة حرب ودمار ليس إلا، وكجغرافيا بلا تاريخ ثقافي وحضاري، رغم جذورها الضاربة في عمق التاريخ، فإن عرض "تراويد دير البلح" سعى بل نجح في إبراز الصورة غير المزيّفة لمدينة دير البلح على وجه الخصوص، وللقطاع الذي يتعرض منذ عام ونصف العام إلى إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فاحتفى بتراث المدينة الساحلية، وحب أهلها للحياة، وطقوسهم، وأعراسهم التي شكلت الكثير من حكايات بلاد لا تزال على قيد الصمود.

 

أخبار متعلقة :