كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي
7/5/2025-|آخر تحديث: 7/5/202506:01 م (توقيت مكة)
عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم قبل أسابيع رغبته في مرور سفن الولايات المتحدة وأساطيلها عبر قناتَي السويس وبنما دون دفع رسوم، لم يكن ذلك مفاجئًا لأحد بل متسقًا مع نهجه الذي شهد الكثير من القرارات الجامحة، والتي تثير تساؤلات حول مدى إدراك إدارته مبدأ "سيادة الدول" أو احترامها لـ "القانون الدولي" ولـ "الهيئات والمؤسسات والتنظيمات الدولية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية، وما إذا كانت واشنطن تعود بالعالم كله إلى زمن الغابة، لا سيما في ظل مشاركتها، بالسلاح والدعم التقني والدبلوماسي وانتظار اقتسام الغنائم، في "الإبادة الجماعية" التي تحدث لأهل قطاع غزة.
يريد ترامب أن يهيل التراب على كل ما بذلته البشرية من جهد في سبيل تعزيز "المشترك الإنساني" أو الاتّكاء على لافتة "مستقبلنا المشترك" التي رفعتها الأمم المتحدة قبل ما يربو على عقدين من الزمن، أو الإيمان بمبدأ "المصالح المتبادلة"، أو حتى ما فرضته آليات السوق من الأخذ بقاعدة "الميزة النسبية"، التي تعطي مختلف الدول فرصة للمشاركة في الاقتصاد الدولي، وتتيح لها جني مكاسب تعود على شعوبها.
مثل هذا التصور يريد أن يلغي حصاد جهد مضنٍ بُذل في سبيل طي صفحة الماضي الذي كانت فيه الإمبراطوريات، النازعة إلى التوسع والاستباحة والاستيلاء على مقدرات الغير، لا تقيدها قوانين ولا أعراف ولا اعتراف بحقوق الآخرين من دول وشعوب، وكانت فيها "سنابك الخيل" هي التي تحدد قواعد اللعبة في النظام الدولي القديم.
إعلان
والوصول إلى ما نحن بصدده الآن لم يأتِ بغتة، إنما مرّ بمراحل قبيل انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي، حيث وجهت الولايات المتحدة ضربة عسكرية إلى ليبيا عام 1986، وقامت باحتلال العراق دون سند من مجلس الأمن عام 2003، وهدّدت باجتياح سوريا، وقبلها ضربت أفغانستان عام 2001.
ثم استمرّت الدول الكبرى في خوض حروب بالوكالة، وغذت حروبًا وصراعات في بلاد عدة من أجل ضمان رواج صناعة السلاح وتجارته عبر العالم، ومارست حصارًا اقتصاديًا خانقًا على بعض الدول منها في منطقتنا إيران، والعراق، وسوريا، ووظفت ملف حقوق الإنسان وآلية المساعدات في الضغط على أنظمة حكم عدة.
لكنها لم تخلُ في هذا كله من حرص على ألا تنفلت الأمور بالكلية عن الإطار العام، بشقيه: القانوني والسياسي، إذ كان داخل الولايات المتحدة نفسها من يتحسب لتصرف أحادي مفرط في العنف والتوحش من شأنه أن يهدد النظام الدولي، ما يعود على واشنطن بالخسارة على مستوى قيادة النظام العالمي، وصورة أميركا كزعيمة للعالم الحر، ومدى قدرتها على تقديم نفسها كنموذج لليبرالية بجانبيها: السياسي متمثلًا في الديمقراطية، والاقتصادي متمثلًا في الرأسمالية.
أصحاب هذا الصوت لم يجدوا من ينصت إليهم داخل الولايات المتحدة، مع "ترامبية" تعمل على التقليل من تأثير النخب السياسية والثقافية، وتغذي صعود الشعبوية، وتؤجج النزوع اليميني الحاد، وتصور للمواطن الأميركي البسيط أن منفعته المباشرة مقترنة باستباحة ما لدى الدول الأخرى من موارد طبيعية وبشرية، وأن الولايات المتحدة لم تترجم بالقدر الكافي، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، قوتها العسكرية الجبارة، وإمكاناتها الاقتصادية الهائلة، في فرض إرادتها على الجميع.
حين بدأ نجم هذا التيار في الولايات المتحدة يبزغ مع مطلع الألفية الثالثة تعالت أصوات تتحدث عن "حدود القوة"، فألهمت الإدارات الأميركية المتعاقبة قدرًا من العقلانية والحذر في التفكير والتدبير، ووَقَت بذلك العالم من أن يتردى إلى ما كان عليه قبل ظهور الدولة القومية، والتكتلات الاقتصادية والسياسية القائمة على التفاهم حول المصالح المادية، وحماية الأمن القومي، وأحيانًا الاحتفاظ بدور رسالي لم تغب في الغرب الحناجر والأقلام التي تنادي به.
إعلان
اليوم لم تعد الإدارة تنصت لهذه الأصوات، بل تسعى إلى كبتها وكتمها تمامًا، وهو ما ظهر بجلاء في مواجهة الاحتجاجات، على الإبادة الجماعية في غزة، بالقوة، وعدم اكتراثٍ أحيانًا بالقانون أو بالتقاليد الاجتماعية السائدة، ولا حتى بصورة أميركا في العالم، وكذلك مواجهة هؤلاء بقوة اجتماعية مضادة مع تيار خلقه ترامب في المجتمع الأميركي على مدار السنوات التسع الماضية، أي منذ اعتزامه الترشح للمرة الأولى.
ولأن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في النظام الدولي المعاصر، فإن صناعة هذا التفلّت سيكون لها، دون شك، مردودٌ غاية في السلبية والخطر، على مستوى العالم أجمع، ما يضع تسويات ارتضتها مختلف الدول محل مساءلة أو إعادة نظر وفق منطق القوة، وليس فروض الحق والواجب.
فهناك الكثير من بؤر الصراع المكتومة، أو المسكوت عنها، في أماكن كثيرة على سطح الأرض، قد تنفجر بين لحظة وأخرى، ولن يكون وقتها الاحتكام إلى القانون الدولي، عبر مؤسسات عالمية تشارك مختلف الدول في عضويتها، له محل من الإعراب.
فمشكلات الحدود التي صنعها الاستعمار بين الدول الأفريقية، وأقرت منظمة الوحدة الأفريقية مبدأ "قدسية الحدود" لتضع حدًا لصراعات محتملة، قد تعود إلى الواجهة، وقد تنهار اتفاقيات ارتضها الدول طويلًا حول تقاسم مياه الأنهار، وتجد دولًا فرصًا سانحة لإعادة أطماعها في مناطق جغرافية، مثل كشمير بين الهند وباكستان، وناغورني قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وتجد الصين الوقت مناسبًا لالتهام تايوان، أو استردادها حسب رؤية بكين.
وتطل برأسها من جديد نزاعات الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية داخل كثير من الدول، وتتجدد حرب الكوريتين، وتنفجر الصراعات في البلقان، ويشتد الضغط على دول في أميركا اللاتينية وهي القارة التي تراها الولايات المتحدة فناء خلفيًا لها.
إعلان
وقد تعود إلى الواجهة "نظرية المجال الحيوي" حين تطمع دول تحوز قوة عسكرية في دول مجاورة أضعف منها، ووسط كل هذا تفكر تل أبيب في تنفيذ تصورها القديم المتجدد حول ما يسمى "إسرائيل الكبرى".
هكذا يجرّ خطاب ترامب أو تصوره ثم تدابيره في الواقع العالم إلى زمن من الصراع المفتوح، وسط اقتناع كثيرين بأن القانون الدولي لم يعد حاكمًا، ولو من زاوية أخلاقية، وأن المؤسسات الدولية التي تعمل بعض تصرفات ترامب على إضعافها وتفكيكها، لم تعد سوى هياكل فارغة، وأن سيادة الدول لا يحميها قانون أو عرف دولي أو زمن من رسوخ الدولة القومية بل القوة وحدها، ما يعني اتجاه العالم إلى مزيد من سباق التسلح.
ما يزيد الطين بلة هو احتمال اتجاه دول كبرى إلى اقتسام ما تعتبره غنائمها من العالم كله، مثلما حدث بعد الحروب الكبرى، ولعل ما يُطرح حاليًا بين واشنطن وموسكو على التهام أوكرانيا، فتكون الأرض للروس والمعادن للأميركان، هو أول خطوة على هذا الدرب الوعر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
أخبار متعلقة :