في الحروب، كما في العواصف، هناك دويٌ يُسمع قبل أن تُرى آثاره، إلا أن حرب البرق لم تمنح العالم رفاهية التوقع أو الوقت لرفع الرأس.. كانت الصدمة أسرع من الصوت، وأقسى من الرصاص، وأذكى من كثير من استراتيجيات الجنرالات المتكلسين على كراسي الأمجاد القديمة.
في صباح العاشر من مايو عام 1940، تحركت آلة الحرب الألمانية كأنها وحش معدني خرج من رحم الجحيم، يعصف بكل شيء في طريقه جبال، غابات، مدن، وجيوش كانت حتى الأمس تتغنى بتكتيكات الحرب العالمية الأولى ولم تكن فرنسا أو بلجيكا أو حتى بريطانيا مستعدة لنوعٍ كهذا من القتال.
حربٌ لا تُعلن، لا تنتظر، لا تتوقف إنها حرب البرق – حين تتحول الجغرافيا إلى رقعة شطرنج، والمناورات إلى خيول نار تجري على إسفلت أوروبا.
لا تخطئ الظنّ أدولف هتلر لم يكن عبقري الحرب خلف هذه الخطة الخاطفة، الجنرال الحقيقي كان "هاينز جوديريان"، الرجل الذي فهم أن الحرب في القرن العشرين لا تُربح بكثرة الجيوش بل بسرعة الحسم، فابتكر عقيدة تعتمد على التحام مدرعات ثقيلة وطائرات قاذفة مع وحدات مشاة مدربة على سرعة التوغل، هدفه؟ كسر العمود الفقري للعدو قبل أن يدرك حتى أنه دخل ساحة المعركة.
لم يكن الأمر مجرد تطوير تقني، إنها فلسفة جديدة أن تُفكك جبهة العدو من الداخل، لا من المواجهة المباشرة وأن تزرع الفوضى في قياداته، تشل خطوط إمداده، وتخلق رعبًا نفسيًا يعادل أثر القنابل.
ربما لم تكن هناك مأساة عسكرية أبلغ من سقوط فرنسا في 6 أسابيع فقط، كانت باريس تظن أن "خط ماجينو" سيحميها، ذاك الحائط الخرساني المسلح الذي أنفقت عليه الملايين، لكن جوديريان لم يلتفت إليه، ببساطة، دار حوله واخترق بلجيكا وهولندا، ثم اقتحم فرنسا من غابات الأردين، حيث كانت القيادة الفرنسية تظن أن الدبابات لا يمكنها العبور.
وفي لحظة، وجد الجيش الفرنسي نفسه محاصرًا، مفككًا، مهزومًا نفسيًا قبل أن يُهزم ميدانيًا وحتى البريطانيون اضطروا للهرب عبر ميناء "دنكيرك" في عملية سميت بـ "معجزة الإنقاذ"، لكن الحقيقة أن ما أنقذهم لم يكن المعجزة، بل قرار هتلر الغريب بإيقاف زحف دباباته ليومين – قرار حُفرت حوله علامات استفهام حتى اليوم.
حرب البرق لم تكن تفوقًا في السلاح فقط، بل كانت سباقًا مع الزمن، هي نوع من الحرب النفسية كما هي حرب عسكرية، حين تنهار الاتصالات، وتتوالى الانفجارات، وتتشتت الأوامر، يتحول الجنود إلى أشباح خائفة، وقياداتهم إلى حائرين لا يعرفون من أين تبدأ الضربة التالية.
أيضًا، كانت ألمانيا أول من دمج الطائرات التكتيكية في الهجوم الأرضي المباشر، ولم تعد الطائرة أداة لقصف بعيد المدى فقط، بل أصبحت عينًا في السماء، تضرب وتُنسق وتُربك العدو في الوقت ذاته، كان ذلك فكرًا غير مسبوق في زمن ما تزال فيه جيوش أوروبا تُفكر بمنطق المدفعية والخنادق.
صحيح أن ألمانيا حققت مكاسب سريعة، لكنها دفعت لاحقًا ثمن الاعتماد المفرط على هذه العقيدة، حين وصلت قواتها إلى روسيا في 1941، وجدت أن الأرض هناك ليست بلجيكا، والشتاء ليس ربيعًا، والمقاومة ليست تقليدية.
الروس، بتكتيكاتهم "البطيئة الماكرة"، أفرغوا الأرض أمام القوات الألمانية، ثم حاصروها حين جاء الشتاء، حرب البرق تعطلت، ومفاصلها تجمّدت، ولم يلبث أن انقلب السحر على الساحر في معركة ستالينجراد، التي كانت بداية النهاية.
الولايات المتحدة، بعد مراقبتها للبرق الألماني، لم تقف صامتة، طورت لاحقًا ما يُعرف بـ "الصدمة والترويع" في حروبها الحديثة، وخاصة في العراق عام 2003 والمبدأ ذاته ضربات مركزة وسريعة على مراكز القيادة والسيطرة لإحداث انهيار شامل.
حتى الجيوش العربية، وعلى رأسها مصر، استفادت من بعض دروس حرب البرق في حرب أكتوبر 1973، حين نجحت في المباغتة وتحقيق اختراق خاطف في خط بارليف لكن الدرس الأكبر لم يكن عسكريًا فقط، بل سياسيًا أيضًا لا يوجد نصر مجاني، فمهما بدت الانتصارات ساحقة، فإنها دون رؤية سياسية ناضجة تتحول إلى انتصارات فارغة، قابلة للانهيار عند أول اختبار.
حرب البرق كانت ثورة عسكرية غيرت شكل الحروب في القرن العشرين، لكنها –ككل ثورة– حملت في داخلها بذور فنائها، لقد أبهرت العالم بسرعة حسمها، لكنها أثبتت أن السرعة وحدها لا تبني إمبراطورية، بل تحتاج إلى عمق استراتيجي، ومرونة سياسية، وقادة لا يغرّهم وهج النصر.
فكما قال ونستون تشرشل ذات مرة "الحرب الحديثة لا تُكسب بالقنابل فقط، بل بما يحدث بعد أن تصمت المدافع" وهكذا، انطفأ البرق الألماني، لكن صداه لا يزال يُدرَّس، ويُخشى، ويُلهم... حتى اليوم.
أخبار متعلقة :