من جهة، تعود دمشق إلى دائرة الفعل عبر طرح مبادرة لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في الجيش السوري، كخطوة نحو ما تسميه "المصالحة الوطنية" و"تعزيز السيادة"، ومن جهة أخرى، تتحرك "قسد" بين رفض الضغوط التركية وملاحقة خلايا "داعش"، بينما تقف واشنطن مترددة أمام تحولات اللاعبين على الأرض.
دمشق: عرض الاندماج العسكري.. وسؤال السيادة
الباحث والكاتب السياسي بسام السليمان خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على "سكاي نيوز عربية"، شدد على أن سوريا تمد يدها إلى القوى التي قاتلت "داعش" وتخوض معارك ضد الإرهاب، لكنها ترفض في الوقت ذاته أي مشروع انفصالي أو كيان خارج سلطة الدولة المركزية.
وفي رؤيته، عبّر السليمان عن فهم رسمي لمعادلة القوة شمال شرق سوريا، وعرض تصورا ضمنيا لمعادلة "العفو مقابل الولاء"، قائلا: "عرض الدولة السورية بدمج عناصر قسد يأتي في إطار المصالحة الوطنية ومكافحة الإرهاب، لكن ذلك مشروط بالعودة إلى كنف الدولة. أي سلاح خارج الجيش السوري هو سلاح غير شرعي. هذه المقاربة تتضمن بعدا استراتيجيا واضحا احتواء قسد عسكريا وسياسيا يعني تجفيف المنبع الذي قد يؤدي إلى قيام كيان انفصالي بدعم غربي. لكنها كذلك دعوة مشروطة، تفترض أن قسد ستتنازل عن تجربتها السياسية والإدارية مقابل العفو والمشاركة في مؤسسة الجيش".
السليمان، وهو قريب من الموقف الرسمي، أكد أن الدولة لن تقبل بأي مشروع يقوّض وحدة الأراضي السورية، وهو ما يتقاطع مع الهواجس التركية، ولكنه يختلف عنها في الوسيلة، إذ يرفض التدخلات الأجنبية و"يضع مصير شمال سوريا بيد السوريين أنفسهم".
قسد بين مطرقة داعش وسندان أنقرة
في مداخلته، أشار هوشنك حسن، مدير وكالة "نورث" المقربة من "قسد"، إلى أن قوات سوريا الديمقراطية باتت تقاتل على أكثر من جبهة: ضد خلايا داعش المتجددة، وضد التهديدات التركية المتواصلة بالاجتياح، وضد محاولات تفكيك مشروعها السياسي تحت عنوان "المصالحة".
حديث حسن يبرز أحد أكثر التناقضات فجاجة في المشهد السوري: فـ"قسد" التي تحالفت مع واشنطن في قتال التنظيم الإرهابي، تجد نفسها اليوم تحت تهديد عسكري تركي مباشر، وفي الوقت نفسه أمام مطلب العودة إلى الدولة التي خاصمتها سياسيا منذ 2012.
ويرى حسن أن المبادرة السورية بدمج "قسد" في الجيش تأتي في توقيت سياسي حساس بالنسبة له، فدمشق تحاول "اقتناص لحظة ضعف" تمر بها "قسد" نتيجة تصاعد التهديدات التركية وتراجع الدعم الأميركي، وهو يلمح إلى أن شروط دمشق، كما صاغها السليمان، تعني فعليا "حل قسد" كجسم مستقل، وهو ما لن تقبل به القيادة الكردية بسهولة.
اللافت أن حسن لم يرفض مبدأ التفاوض مع دمشق، لكنه شدد على ضرورة أن يكون الحوار متكافئا، مع ضمانات سياسية حقيقية واعتراف بالإدارة الذاتية، وهو ما ترفضه الدولة السورية حتى الآن.
المعادلة الإقليمية
من جانبه، طرح الدكتور سمير صالحة، أستاذ العلاقات الدولية، بعدا إقليميا لافتا في تحليله، حيث اعتبر أن المبادرة السورية تجاه "قسد" ليست معزولة عن المتغيرات التركية.
وفي تحليله، يرى صالحة أن "قسد" تعيش مأزقا مركبا: علاقتها بواشنطن تزداد هشاشة، ومخاوف تركيا تدفعها نحو تصعيد مستمر، ودمشق تعرض حلا يتضمن "ذوبانها السياسي والعسكري".
تركيا، بحسب صالحة "تتعامل ببراغماتية حادة، تريد قسد ضعيفة أو منزوعة السلاح، لكنها لا تمانع تفاهما جزئيا بين دمشق وقسد بشرط ألا يتضمن أي شكل من أشكال الاعتراف بالإدارة الذاتية".
لكن تركيا، وفق صالحة، لا تزال تنظر بعين الريبة إلى أي تقارب بين دمشق و"قسد"، خاصة إذا تم بوساطة روسية قد تنتج صيغة لا تلبي المطالب التركية. وهنا، تعاد رسم الخرائط على ضوء صفقات موسكو-أنقرة أكثر من أي معطى داخلي سوري.
الباحث السياسي والمفكر سمير التقي، ألقى بثقله التحليلي على بعد العلاقة الأميركية الكردية، مشيرا إلى أن واشنطن لم تعد تملك رؤية واضحة لما تريد تحقيقه في سوريا.
وبيّن التقي أن "السياسة الأميركية في شرق الفرات تعاني من ارتباك استراتيجي. هي لا تريد أن تسلم المنطقة لدمشق ولا لأنقرة، لكنها أيضا لا تملك خطة طويلة الأمد لبقاء قواتها أو دعم قسد بشكل دائم".
ويرى التقي أن مشروع "الإدارة الذاتية" في شمال شرق سوريا محكوم بلحظة أميركية متقلبة، وقد جاءت المبادرة السورية كضربة تكتيكية تستفيد من حالة الغموض الأميركية، وتجعل من "قسد" في موقف تفاوضي هش.
تحليل التقي يشير إلى أن واشنطن، برغم الدعم العسكري، لم تمنح "قسد" غطاء سياسيا حقيقيا يمكن البناء عليه كضمان لبقاء أي كيان سياسي كردي مستقر في سوريا.
وفي ظل التردد الأميركي، فإن خيارات "قسد" تضيق: فهي إما أن تخوض حوارا صعبا مع دمشق، أو تواجه وحدها غضب أنقرة، أو تستنزف في معارك أمنية مفتوحة مع "داعش".
المستقبل.. تفكك "قسد" أم إعادة تدويرها؟
من خلال مجموع التصريحات، يبدو أن كل الأطراف تقر بأن معادلة الشمال الشرقي السوري لا يمكن أن تستمر بصيغتها الحالية، لكن الاتفاق على ملامح المرحلة القادمة لا يزال غائبا.
دمشق تطرح صيغة "العودة إلى الدولة"، لكن دون استعداد واضح للاعتراف بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي.
"قسد" تطالب بضمانات واعتراف بتجربتها، لكنها محاصرة عسكريا وسياسيا.
تركيا تضغط لتفكيك الكيان الكردي وتصر على أمنها الحدودي.
والولايات المتحدة تبدو غير قادرة على ترجمة تحالفها مع "قسد" إلى مشروع سياسي قابل للاستمرار.
هنا، يبرز تساؤل مركزي: هل سنشهد تفكيكا تدريجيا لـ"قسد" عبر "تطويعها" في الجيش السوري كما تطمح دمشق، أم أن التفاهمات الإقليمية – خصوصا التركية الروسية – ستنتج صيغة هجينة تعيد تدوير "قسد" دون صبغتها الانفصالية، أم أن "قسد" ستصمد بتكتيك "المناورة بين الجميع" وتبقي على مناطقها ككيان أمر واقع؟.
سوريا لا تزال في حالة سيولة جيوسياسية حادة، وما يحدث في الشمال الشرقي هو انعكاس لعقد كامل من الحرب والاصطفاف والتجاذبات الدولية.
إن المبادرة السورية بدمج "قسد" في الجيش ليست مجرد إجراء أمني، بل هي محاولة لرسم نهاية مرحلة وبداية أخرى.
لكن الطريق إلى تلك النهاية محفوف بالمخاوف: من عودة "داعش"، من تصعيد تركي، من انسحاب أميركي مفاجئ، ومن صدامات كردية عربية داخلية.
وفي غياب توافق سوري-سوري حقيقي، تبقى "قسد" رهينة معادلة معقدة تتداخل فيها الحسابات العسكرية والسياسية والعرقية والإقليمية.
0 تعليق