في مشهد يختصر تحوّلات عميقة في المزاج الأميركي، باتت فكرة "الرحيل عن الوطن" أقرب إلى خيار شخصي حقيقي، منها إلى مجرّد فكرة عابرة بالنسبة للكثير من الأفراد، خصوصاً مع تصاعد الشعور بالاغتراب الداخلي والانقسام السياسي، وازدياد البحث عن أنماط حياة أكثر هدوءاً وحرية.
ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته شركة Expatsi شمل 116363 أميركياً فكروا في مغادرة الولايات المتحدة خلال عام 2024، فإن السبب الرئيسي الذي يدفع الناس إلى مغادرة أميركا هو الرغبة في المغامرة والثراء والنمو، حيث يرى حوالي 56 في المئة من المستطلعين أن الولايات المتحدة محافظة للغاية، بينما يشعر 53 في المئة بأن البلاد باتت منقسمة للغاية.
وبحسب تقرير أعدته شبكة "CNBC" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يقول نحو نصف المستطلعين، إنهم يرغبون في الانتقال بحثاً عن حريات أوسع أو مختلفة، ولتفادي خطر العنف المسلح، في حين أعرب 41 في المئة، عن أملهم في خفض تكاليف المعيشة وتوفير المال أثناء الإقامة في الخارج.
دول يرغب الأميركيون في الانتقال إليها
وعبّر ثلثا المشاركين في استطلاع شركة Expatsi التي توفّر برامج لمساعدة الأشخاص على الانتقال إلى بلدان جديدة، عن رغبتهم في مغادرة الولايات المتحدة بحلول عام 2026، بينما قال 12 في المئة إنهم يأملون في الانتقال خلال الأشهر الستة المقبلة.
كما أظهر الاستطلاع أن المزيد من الأميركيين فكّروا في الانتقال إلى الخارج منذ الانتخابات الرئاسية لعام 2024، حيث ارتفع عدد زوار موقع Expatsi الذي يبحثون عن معلومات تتعلق بـ "كيفية الانتقال إلى بلد معين" من نحو 8000 زائر في أكتوبر 2024، إلى ما يقرب من 51000 زائر في شهر نوفمبر 2024، وذلك عقب إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
وبحسب نتائج الاستطلاع، تتصدّر البرتغال قائمة الدول التي يطمح الأميركيون للانتقال إليها، تليها على الترتيب كل من، إسبانيا، المملكة المتحدة، كندا، إيطاليا، أيرلندا، فرنسا، المكسيك، نيوزيلندا، ثم كوستاريكا في المرتبة العاشرة.
نمو قطاع "الانتقال إلى الخارج"
ويشهد قطاع خدمات الانتقال إلى الخارج في الولايات المتحدة نمواً ملحوظاً، مدفوعاً بتزايد رغبة الأفراد والشركات في التوسع الدولي وتحسين جودة الحياة، حيث بلغ حجم هذه السوق حوالي 23.1 مليار دولار أميركي في عام 2024، بزيادة نسبتها 1.2 في المئة مقارنة بعام 2023، وذلك بحسب بيانات شركة IBISWorld للأبحاث.
ومن المتوقع أن يستمر النمو في قطاع خدمات الانتقال في أميركا في السنوات المقبلة، مع زيادة التركيز على تقديم خدمات مخصصة تلبي احتياجات الأفراد والشركات على حد سواء، إذ تقول جين بارنيت، التي شاركت مع زوجها في تأسيس شركة Expatsi التي توفّر برامج لمساعدة الأشخاص على الانتقال إلى بلدان جديدة، إن الاهتمام بالخدمات التي تقدمها شركتها يزداد عادةً بعد الأحداث السياسية المثيرة للجدل.
وتُظهر وثائق اطلعت عليها CNBC أن إيرادات Expatsi ارتفعت في 2024، بنسبة ١٩٦٣٢ في المئة على أساس سنوي، حيث باعت الشركة مجموعة متنامية من المنتجات المرتبطة بأعمالها.
تحوّل في المزاج الأميركي
ويقول المستشار المصرفي محمد عبد الله، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه يوجد تحوّل حقيقي ومتسارع في المزاج العام داخل الولايات المتحدة ليس فقط كرد فعل سياسي، بل كنتيجة لتراكمات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة، فمنذ عام 2023 وقسم كبير من الأميركيين يشعرون أن "بلدهم لا يمثلهم"وهذا الشعور يتضخم في ظل الاستقطاب الحاد بين التيارات السياسية، وخصوصاً بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث بات يُنظر إلى السياسات الأميركية الداخلية على أنها تخدم فئة محددة فقط.
ويلفت عبد الله إلى أن الخوف من العنف والقلق على السلامة العامة، هو عامل أساسي أيضاً يدفع عدد كبير من الأميركيين إلى التفكير في مغادرة البلاد، فالبيانات الرسمية تُظهر وقوع أكثر من 650 حادث إطلاق نار جماعي في أميركا خلال 2024، وهذه الأرقام المقلقة تجعل الولايات المتحدة الأميركية تتصدر دول العالم الصناعي في مؤشر mass shooting أو إطلاق النار الجماعي، وبالتالي نجد أن قسماً كبيراً من الأميركيين يرغب في تفادي العنف المسلح من خلال الهجرة إلى وجهات أكثر أمناً.
لماذا البرتغال هي الوجهة الأكثر تفضيلاً؟
ويكشف عبد الله أن البرتغال تختصر ما يبحث عنه الكثير من الأميركيين اليوم، من استقرار وهدوء وتكلفة عيش معقولة ومجتمع منفتح، إضافة إلى قانون يحترم الجميع، ولذلك تعتبر الوجهة الأولى المفضّلة للأميركيين الراغبين في الهجرة، مشيراً إلى أن بيانات وزارة الداخلية البرتغالية، تُظهر ارتفاع عدد الأميركيين المقيمين في البلاد بنسبة 239 في المئة بين عامي 2018 و2023، في حين تجاوز عدد طلبات الإقامة المقدَّمة من الأميركيين الـ 10 آلاف طلب في 2024، وهو رقم غير مسبوق.
وبحسب عبد الله فإن البرتغال تبنّت في العقد الأخير، سياسات هجرة مرنة ومدروسة، تجذب بشكل مباشر الطبقة الوسطى والعليا الأميركية، مثل برنامج الفيزا الذهبية الذي يسمح للمستثمرين بالإقامة مقابل استثمار عقاري أو مالي، وهي لا تزال من أسهل الدول الأوروبية في منح إقامات قانونية، دون الحاجة إلى عمل محلي، كما أن أحد عوامل الجذب للبلاد هي كلفة المعيشة المنخفضة، التي تترافق مع جودة حياة مرتفعة، فكلفة المعيشة في البرتغال تقل بحوالي 50 بالمئة عن بعض الولايات الأميركية نيويورك.
واعتبر عبد الله أنه لا يمكن اختزال جاذبية البرتغال في كونها "وجهة أقل تكلفة"، فهي قبل كل شيء بيئة تعزّز الرفاه النفسي وجودة الحياة، فالمجتمع البرتغالي يتسم بطبيعته المسالمة ومستويات الجريمة فيه من بين الأدنى في أوروبا، إلى جانب احترام واضح للخصوصية الفردية، وهذه العوامل مجتمعة ساهمت في جذب موجات متزايدة من الوافدين الأجانب، حتى بات الأجانب يشكّلون اليوم نحو 10 في المئة من سكان البلاد، في نسبة تتجه باطراد نحو الارتفاع.
0 تعليق