في مشهد جيوسياسي تتصاعد فيه نذر المواجهة وتتقلص فيه مساحات الدبلوماسية، تلوح الحرب الروسية الأوكرانية كمحرك رئيسي لإعادة تشكيل النظام الأمني في أوروبا.
لكن خلف خطوط النار، تخاض معركة من نوع آخر: حرب الروايات، ومقاربات الاستراتيجيات، وصراع الإدراك بين موسكو والعواصم الغربية، وعلى رأسها لندن.
من بين سطور الاحداث، تبرز إشارات خطيرة: موسكو تعتبر بريطانيا رأس الحربة في مشروع استنزافها، ولندن باتت ترى نفسها في قلب معركة لا مجال للحياد فيها.
بريطانيا تجاوزت الخط الأحمر والرد الروسي "قادم لا محالة"
في تحليله للمشهد الراهن، بدا الكاتب والباحث السياسي رولاند بيغاموف خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية حازم في وصفه للموقف الروسي تجاه بريطانيا، مشدد على أن الأخيرة "لم تعد مجرد داعم سياسي لأوكرانيا، بل أصبحت فاعل مباشر في العمليات العسكرية داخل العمق الروسي".
وأشار بيغاموف إلى ما اعتبره "تحول نوعي" في السياسة البريطانية، بقوله: "القرار البريطاني ببناء 12 غواصة نووية وستة مصانع أسلحة، يعبر عن انتقال من استراتيجية الردع إلى استراتيجية الاستعداد لحرب محتملة مع روسيا".
هذا التصعيد في تسليح لندن، بحسب الباحث الروسي، لا يمكن فصله عن الضربات الأخيرة التي تعرضت لها منشآت عسكرية روسية في العمق، وخاصة المطارات.
بيغاموف لمح إلى أن موسكو تمتلك معلومات استخباراتية تؤكد دور بريطاني استخباراتي ولوجستي في هذه العمليات، وهو ما يشكل اختراق خطير لقواعد الاشتباك التقليدي.
وأضاف: "إذا لم يكن هناك تورط مباشر من واشنطن، فمن الواضح أن لندن تعمل بمفردها على تعميق الأزمة، وهذا يجعلها هدف مباشر لردود روسية قد تكون مفاجئة في توقيتها ونوعيتها".
ورأى بيغاموف أن موسكو تدرك وجود انقسام بين الدول الغربية، خاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنها تعتبر أن لندن هي من تدفع الآن نحو المواجهة، مستطرد: "في الوقت الذي تسعى فيه بعض العواصم الأوروبية إلى فتح قنوات للحوار، تتحرك بريطانيا في الاتجاه المعاكس".
ولم يتردد في التأكيد أن الشعب الأوكراني نفسه بات "رهينة" لسياسات زيلينسكي المدعومة من الغرب، قائلا: "الأوكرانيون يريدون السلام، لكن القيادة السياسية، وبدعم غربي بريطاني خصوصا، تواصل الزج بالبلاد نحو هاوية الحرب الطويلة".
تحليل بيغاموف لا يكتفي بوصف الواقع، بل يذهب أبعد من ذلك لطرح فرضية: هل نشهد بداية تحضير روسي لصيغة رد قاسية تستهدف بريطانيا سياسيا وربما عسكريا؟.
روسيا تهدد أوروبا.. وبريطانيا تدافع عن أمن القارة
في الجهة المقابلة، قدم كبير الصحفيين في صحيفة التايمز البريطانية مايكل بينيون سرد مختلف، وإن لم يخل من القلق. فالرجل المخضرم في التايمز البريطانية شدد على أن لندن لا تبحث عن حرب، لكنها ترى في موسكو تهديد مباشر للاستقرار الأوروبي.
قال بينيون: "بوتين لا يريد أوكرانيا فقط... بل يسعى إلى كسر الإرادة الأوروبية، وإعادة ترسيم النفوذ الروسي كما كان في الحقبة السوفييتية". وشرح أن بريطانيا قرأت مبكرا هذا التوجه، ولذلك اتخذت موقف صلب في دعم كييف، لكنه أضاف: "نعم، نحن نزود أوكرانيا بمعلومات استخباراتية دقيقة، لكننا لا نقوم بعمليات هجومية داخل روسيا... هذه حرب روسية مفتوحة على أوروبا بأكملها، لا بريطانيا فقط".
ورغم هذا الدفاع عن موقف بلاده، أقر بينيون بوجود "انقسام ملموس في المواقف الأوروبية"، قائلا: "فرنسا وألمانيا تتعاملان بحذر، فيما تتصدر بريطانيا واجهة الدعم الصلب لكييف، وهذا ما يفسر تحميل موسكو للندن مسؤولية التصعيد".
أما عن موقف الولايات المتحدة، فقد كشف بينيون أن إدارة ترامب حاولت، خلال الأشهر الماضية، "جس نبض موسكو من خلال طرح مبادرة لوقف إطلاق النار وتفاوض محتمل"، لكن الرد الروسي جاء مخيب، على حد وصفه: "بوتين لم يبد أي اهتمام حقيقي بالتفاوض، ورفض حتى إرسال وفد إلى إسطنبول، ما يعكس غياب الإرادة السياسية لديه لإنهاء الصراع".
في هذا السياق، حذر بينيون من خطر الانجرار إلى حرب أوسع: "بريطانيا اليوم لا تخوض حرب ضد روسيا، لكنها لن تقف متفرجة إذا استمر الكرملين في تهديد أمن القارة".
تقاطعات وتحذيرات.. خطابان متضادان يلتقيان عند العتبة الأخطر
رغم التباين الصارخ في الطرحين، إلا أن تصريحي بيغاموف وبينيون يلتقيان عند نقطة محورية: العلاقة بين بريطانيا وروسيا لم تعد قابلة للعودة إلى الوراء، والصدام – المباشر أو بالوكالة – بات أمر مرجح إن لم يكن وشيك.
ففي حين يرى بيغاموف أن لندن تتصرف بعدائية وتحضر لتصعيد طويل الأمد، يصر بينيون على أن ما تقوم به بريطانيا هو "دفاع مشروع عن الأمن الأوروبي ضد مطامع روسية توسعية".
وهنا، تتجلى الأزمة في بعدها الأخطر: انعدام الحد الأدنى من الثقة، وغياب آليات حقيقية للتفاوض أو خفض التصعيد.
عندما تتبدد خطوط التهدئة وترسم حدود النار
ما بين رؤية بيغاموف التي تتهم بريطانيا بتأجيج نار الصراع، ورؤية بينيون التي تعتبر موسكو هي البادئة، تتبدد كل خطوط التهدئة الممكنة. الصراع لم يعد يدور حول أوكرانيا فقط، بل بات اختبار مفتوح لشكل النظام العالمي: هل سيتشكل من رماد الحرب، أم من طاولة تفاوض لا تزال مفقودة؟
المعضلة أن القادة يلوحون بالسلاح، والشعوب تدفع الثمن. فيما روسيا تتجه نحو إجراءات غير معلنة، وبريطانيا تسرع وتيرة تسليحها، تبقى أوروبا على حافة النزاع، والعالم بأسره في انتظار ما إذا كان القادم هو سلام هش.. أم اشتعال شامل؟
سؤال اللحظة: هل يجرؤ أحد على الضغط على زر التهدئة؟ أم أن عجلة التصعيد باتت أقوى من الجميع؟
0 تعليق