تصدر الحديث عن مصير البرنامج النووي الإيراني الواجهة من جديد، بعد الضربات العسكرية الأميركية التي استهدفت منشآت حساسة، كان أبرزها موقع "فوردو" المحصن ومجمعات أخرى في نطنز وأصفهان.
ومع تصاعد التصريحات الأميركية التي أكدت "تدمير القدرة الإيرانية على التخصيب"، بدا أن واشنطن تحاول توجيه رسالة حاسمة لطهران مفادها: انتهت اللعبة.
لكن إيران، سارعت إلى الرد بنبرة متحدية عبر علي شمخاني، مستشار المرشد الأعلى، الذي قال إن "اللعبة لم تنتهِ بعد"، مؤكدًا أن "المواد المخصبة ما زالت سليمة"، وهو تصريح فُسر على أنه محاولة لطمأنة الداخل الإيراني، وربما إشارة مبطنة إلى امتلاك أوراق تفاوضية ما تزال على الطاولة.
التدمير لا يعني النهاية
في حديثه إلى "سكاي نيوز عربية" من باريس، اعتبر بنجامين هوتكوفيرتور، الخبير في شؤون الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي في مؤسسات الأبحاث الاستراتيجية، أن إعلان تدمير البرنامج النووي الإيراني قد يكون "مبكرًا" و"غير دقيق".
وأوضح أن الضربات الأميركية استخدمت قنابل من طراز GBU-57 الخارقة للتحصينات، وهي مصممة للوصول إلى أهداف عميقة في منشآت محصنة، ما يجعل من المرجح أن موقع فوردو تحديدًا قد أصبح خارج الخدمة بشكل كامل.
لكن رغم هذا التدمير الواسع، أشار الخبير إلى أن البرنامج النووي الإيراني ليس فقط بنية تحتية، بل منظومة معقدة تشمل المعرفة، الكوادر، والأجهزة الحساسة التي يمكن نقلها أو إعادة بنائها خلال فترة زمنية. "حتى لو تم تدمير المنشآت، لا يمكننا الجزم بتدمير المواد المخصبة أو القدرة التقنية بشكل نهائي،" يقول هوتكوفيرتور. "قد تكون هناك أجهزة ومخزونات تم نقلها أو إخفاؤها".
هل نجحت طهران في حماية اليورانيوم المخصب؟
تشير تصريحات شمخاني إلى أن إيران ربما نقلت مواد مخصبة بنسبة 60% قبل الضربات، وهي نسبة تقترب من العتبة اللازمة لإنتاج سلاح نووي.
ويرى الخبير الفرنسي أن هذا السيناريو غير مستبعد تقنيا، خاصة وأن بعض الأجهزة القابلة للنقل مثل أجهزة الطرد المركزي الحديثة IR-6 يمكن تفكيكها ونقلها خلال وقت قصير نسبيًا.
ويضيف: "من الناحية التقنية، يمكن إعادة تجميع هذه الأجهزة خلال سنوات، وليس أشهر. ما يعني أن البرنامج قد لا يكون قد انتهى، بل تم تأجيله فقط". هذا التحليل يعزز المخاوف الغربية من أن الضربة العسكرية، رغم قوتها، قد لا تكون كافية لإنهاء البرنامج الإيراني، بل على العكس، قد تدفع طهران نحو إعادة تقييم إستراتيجيتها واللجوء إلى وسائل أكثر خفاء.
الضربة الأميركية.. بين الرسالة العسكرية وتكلفة الردع
يشير هوتكوفيرتور إلى أن الهجمات الأميركية الأخيرة لم تكن فقط ردا عسكريا، بل تحمل بعدا سياسيا وردعيا. إذ أن استخدام قنابل خارقة للتحصينات وصواريخ توماهوك يشير إلى قرار استراتيجي بضرب "قلب البرنامج" الإيراني. لكن هذا لا يعني إلغاء البرنامج بالكامل، خصوصًا أن "تدمير البنية التحتية لا يعني تدمير المعرفة،" وفق تعبيره.
ولفت إلى أن منشآت نطنز وأصفهان، حيث توجد مختبرات وأجهزة طرد مركزي، تعرضت أيضًا لضربات دقيقة، وقد تكون تكبدت خسائر كبيرة، ما من شأنه تأخير أي محاولة مستقبلية لإعادة تشغيل البرنامج.
إيران في وضع هش.. والسياق العسكري لا ينفصل عن النووي
قال هوتكوفيرتور إنه من المستحيل اليوم فصل السياق العسكري عن البرنامج النووي الإيراني. فإيران، حسب تعبيره، باتت "أقرب ما تكون إلى لحظة هشاشة تاريخية"، خاصة في ظل التهديدات المتزايدة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والضغوط الداخلية المتراكمة. "لا يمكن لإيران أن تعود إلى تشغيل برنامجها بنفس الروتين السابق"، يوضح الخبير.
لا مخاطر إشعاعية فورية.. لكن الخطر لا يزال قائما
طمأن هوتكوفيرتور بشأن القلق من تسرب إشعاعي أو مخاطر بيئية نتيجة الضربات، مؤكدًا أن المواقع المستهدفة "لا تُصدر إشعاعات عند تدميرها" ما لم تكن تعمل بكامل طاقتها، وهو ما أكده أيضًا الجانب الإيراني والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لكن في المقابل، فإن "الخطر الاستراتيجي" لا يزال قائماً، في ظل استمرار طهران في التلويح بامتلاك أوراق ضغط نووية، سواء من خلال المواد المخصبة، أو المعرفة التقنية، أو حتى التحالفات الإقليمية التي قد تدفعها إلى التمسك بخيارات متشددة.
ضُربت المواقع.. لكن لم تُكسر الإرادة النووية بعد
الضربات الأميركية على منشآت إيران النووية أعادت رسم خريطة التهديد، لكنها لم تغلق الملف بالكامل. فإذا كانت واشنطن قد نجحت في تقويض البنية التحتية، فإن الأسئلة الأهم تظل قائمة: هل المواد المخصبة آمنة؟ هل تبقى لدى إيران القدرة على إعادة البناء؟ وهل سيتحول البرنامج النووي من ملف تقني إلى ورقة سياسية طويلة الأمد في لعبة إقليمية ودولية معقدة؟.
الإجابة على هذه الأسئلة قد تستغرق سنوات، لكن الواضح أن "اللعبة لم تنتهِ بعد"، تمامًا كما قال شمخاني... وربما بدأ فصل جديد منها تحت الأرض، بعيدًا عن أعين الأقمار الصناعية، وفي توقيت أكثر مواتاة لطهران.
0 تعليق