هذه الظواهر المناخية، التي تزداد شدة وتكراراً في قلب القارة الأوروبية، لم تعد مجرد أحداث بيئية معزولة، بل باتت تُشكل خطراً اقتصادياً ملموساً.
فكيف يمكن لهذه الظواهر أن تُترجم إلى تحديات اقتصادية حقيقية؟ هذا ما يدفعنا للتساؤل: هل تُشكل موجات الحر هي الشرارة الخفية للتضخم وتقلبات النمو في أوروبا؟ والأهم، كيف تُهدد التغيرات المناخية استقرار اقتصادات منطقة اليورو؟
تأثير اقتصادي متصاعد
تُشير البيانات الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي إلى أن تأثير موجات الحر على الاقتصاد لم يعد مجرد افتراض نظري، بل حقيقة تتجلى في الأرقام.
ففي صيف 2022، الذي شهد ارتفاعاً استثنائياً في درجات الحرارة، ارتفع تضخم أسعار المواد الغذائية بما يتراوح بين 0.4 و0.9 نقطة مئوية، كما لوحظ تأثير ملموس على الناتج المحلي الإجمالي الألماني.
وتبرهن هذه الأمثلة على أن الظواهر المناخية المتطرفة، وخاصة موجات الحر، تُسهم بشكل مباشر في زعزعة استقرار الأسعار وتباطؤ النمو، وذلك بحسب تصريحات فرانك إلدرسون، عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي.
هذه التصريحات تتزامن مع موجة حر أوروبية أخرى تشهد فيها أجزاء كبيرة من المنطقة درجات حرارة مرتفعة بشكل غير عادي تفاقمها التغيرات المناخية.
وقد وجد العلماء أن كوكباً أكثر حرارة لديه القدرة على تهديد استقرار الأسعار، جزئياً مع تزايد صعوبة العناية بالمحاصيل وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وهو ما يغذي التضخم ويُلقي بظلاله على القوة الشرائية للمستهلكين، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن هذا التهديد لم يعد مقتصراً على الجانب البيئي، بل بات يُشكل خطراً هيكلياً على استقرار الأسعار في المدى الطويل. لهذا السبب، يُكثف البنك المركزي الأوروبي جهوده لمعالجة هذه المخاطر، ويُركز ليس فقط على تداعيات تغير المناخ، بل أيضاً على "تدهور الطبيعة" عند صياغة سياسته النقدية، وهو ما يُعد إضافة جوهرية لمقاربة البنك.
تباين المواقف بين البنوك المركزية العالمية
على النقيض من هذا النهج الأوروبي، يتبنى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي موقفاً مغايراً فبينما يُقر رئيسه جيروم باول بالتهديدات التي يُشكلها تغير المناخ على الاقتصاد والنظام المالي الأميركي، يُشدد مراراً على أن دور الاحتياطي الفيدرالي لا يتضمن تعزيز التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون.
وذكر لتقرير أن جهود الاحتياطي الفيدرالي، شملت التدخل لتقليص المعايير العالمية المتعلقة بالمناخ، بما في ذلك تلك التي وضعتها لجنة بازل للرقابة المصرفية.
هذا التباين يُبرز اختلافاً جوهرياً في الرؤى بين المؤسستين الماليتين الرائدتين عالمياً حول مدى تدخل السياسة النقدية في القضايا المناخية.
وأشار التقرير إلى أنه على الرغم من وجود بعض المقاومة للسياسات التي تُعزز اعتبارات المناخ، حتى في أكبر اقتصادات أوروبا كألمانيا، يُصر البنك المركزي الأوروبي على موقفه.
يُشير إلدرسون إلى أن المجلس الحاكم للبنك "يتمسك بموقفه" ويُدرك أن فهم مخاطر المناخ يتجاوز مجرد استقرار الأسعار ليشمل فهماً أوسع للاقتصاد واستدامة الديون.
ولا يزال البنك يدرس تأثيرات أحداث كصيف 2022 للحصول على رؤية أوضح للمستقبل. وتُعد مخاطر الطبيعة، بتعقيداتها المتعددة مثل مخزون الأسماك وجودة التربة وندرة المياه، تحدياً جديداً يتطلب مزيداً من البحث والتواصل، وقد تتطلب استجابة مماثلة لجهود البنك في التعامل مع مخاطر المناخ.
هذا يُشير إلى أن دمج هذه الاعتبارات سيُصبح جزءًا لا يتجزأ من الأدوات والقرارات النقدية المستقبلية للبنك المركزي الأوروبي، طبقاً لتقرير الوكالة الأميركية.
الشرارة الخفية للتضخم وتقلبات النمو
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قال عامر الشوبكي، مستشار الاقتصاد والطاقة الدولي، إن "موجات الحر المتطرفة تمثل الشرارة الخفية التي تلهب نار التضخم في أوروبا وتضعف محركات النمو".
وأكد الشوبكي أن ما يجري اليوم ليس مجرد ارتفاعات مؤقتة في درجات الحرارة، بل هو "تحول هيكلي في المناخ الأوروبي، يفرض تكاليف اقتصادية صامتة لكنها عميقة".
وأوضح الشوبكي أن ارتفاع درجات الحرارة فوق المعدلات المعتادة يؤدي إلى تراجع الإنتاجية في القطاعات الحيوية، "خصوصاً الزراعية والبناء والنقل، ما يؤدي إلى تقلص العرض وارتفاع الأسعار".
وذكر أن تفاقم الاعتماد على التكييف والطاقة يتسبب في تسارع الطلب على الكهرباء، والذي يُغذى غالباً من مصادر مرتفعة التكلفة أو مستوردة.
وأشار إلى أن "أوروبا تستورد معظم حاجتها من الطاقة"، وهذا "يعمق دوامة التضخم".
وأضاف أن موجات الحر تُضعف القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي، لا سيما مع ارتفاع فواتير التبريد والرعاية الصحية، مما "يُضعف استهلاك الأسر ويُبطئ النمو ويُقلص القدرة الشرائية".
تهديدات التغيرات المناخية متعددة الأبعاد
ووصف الشوبكي تهديد التغيرات المناخية لاستقرار اقتصادات منطقة اليورو بأنه "متعدد الأبعاد" وفقاً لما يلي:
اضطراب سلاسل الإنتاج والتوريد: مع تفاقم الظواهر المناخية مثل الجفاف الشديد وانهيار البنية التحتية بسبب الحرارة، تُصبح القطاعات الإنتاجية أكثر هشاشة. وضرب الشوبكي مثالاً على ذلك بما شوهد في فترات الجفاف التي أثرت على نهر الراين، "شريان النقل التجاري في ألمانيا". ضغوط مالية على البنوك والشركات: ارتفاع تكاليف التأمين، تذبذب الإنتاج، وتزايد خسائر الشركات المرتبطة بالمناخ يدفع البنوك نحو إعادة تقييم المخاطر، وربما تجديد شروط الإقراض، مما "يُقلل من فرص الاستثمار والنمو". فجوة تنموية بين الشمال والجنوب الأوروبي: أشار الشوبكي إلى أن دول الجنوب مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان والبرتغال تتأثر بشكل أكبر بالتغيرات المناخية. وقال إن هذا يزيد من "فجوة الأداء الاقتصادي بين دول الشمال الأكثر تحملاً وتأقلماً ودول الجنوب الأضعف بنيوياً، وهذا يهدد تماسك الكتلة الأوروبية بحد ذاته". ضغوط على السياسات النقدية والمالية: ذكر الشوبكي أن البنك المركزي الأوروبي يجد نفسه أمام "معادلة صعبة" تتمثل في كيفية مواجهة تضخم ناتج عن المناخ وليس عن الطلب، دون خنق النمو. في المقابل، "تضطر الحكومات لزيادة الإنفاق على البنية التحتية والصحة والطاقة، مما يزيد من العجز والدين العام".ولخص مستشار الاقتصاد والطاقة الشوبكي بالقول: إن موجات الحر والتغيرات المناخية "أصبحت تُشكل عاملاً بنيوياً في معادلة الاقتصاد الأوروبي، وليست مجرد حدث طارئ أو موسمي". وأفاد بأن "من يقرأ أوروبا بمعزل عن المناخ يقرأ نصف المعادلة فقط".
وأكد أن "هذه ليست أزمة طقس، بل إعادة تشكيل لنموذج النمو الأوروبي برمته، وما لم يُدمج المناخ في السياسات النقدية والمالية بذكاء، فإن منطقة اليورو ستدفع ثمناً تصاعدياً لعجزها عن التكييف".
الخطر الصامت الذي يهدد استقرار الاقتصاد الأوروبي
بدوره، قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "لم تكن التغيرات المناخية، وعلى رأسها موجات الحر، تُحسب حتى وقت قريب ضمن الحسابات الاقتصادية التقليدية. فقد جرت العادة على أن تُنسب تقلبات الاقتصاد إلى أسباب مالية أو سياسية. لكن البنك المركزي الأوروبي أطلق في الفترة الأخيرة تحذيرات واضحة تشير إلى أننا أمام عامل جديد آخذ في الصعود: المناخ المتطرف، وتحديداً موجات الحر التي تشتد وتكرُر في قلب القارة الأوروبية".
هذه الظواهر لم تعد مجرد أحداث موسمية مزعجة، بل تحولت إلى مهدد اقتصادي حقيقي يؤثر على الأسعار، ويقيد النمو، ويضع السياسات الاقتصادية تحت ضغط دائم، بحسب تعبيره.
موجات الحر.. وجه جديد للتضخم؟
من الواضح أن آثار موجات الحر لم تَعُد محصورة في الصحة العامة أو الإنتاج الزراعي، بل امتدت لتضرب قلب الاقتصاد الأوروبي.
وفقاً لتقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي في يونيو 2024، فإن موجة الحر التي ضربت جنوب أوروبا صيف 2023 تسببت في ارتفاع أسعار الخضروات بنسبة تجاوزت 13 بالمئة خلال شهر واحد فقط نتيجة تضرر المحاصيل.
ولم يقتصر التأثير على الغذاء، بل ارتفعت أيضًا أسعار الطاقة بنحو 7 بالمئة في بعض المدن الأوروبية بسبب زيادة الطلب على الكهرباء لأغراض التبريد، ما أدى إلى سلسلة من الضغوط التضخمية غير المتوقعة، وفقاً للدكتور الشبشيري.
الزراعة أول الضحايا
وأوضح الدكتور الشبشيري أن القطاع الزراعي الأوروبي تلقّى ضربة قوية.
ففي إسبانيا، انخفض إنتاج القمح بنسبة 27 بالمئة خلال عام 2023 مقارنة بالعام السابق، بسبب موجات الحر الشديدة والجفاف.
ووفقاً لتقديرات وكالة “كوبرنيكوس” الأوروبية، فإن نصف الأراضي الزراعية في جنوب أوروبا مهددة بفقدان خصوبتها بحلول عام 2030 إذا استمرت الأوضاع المناخية على هذا المنوال.
وأشار إلى أن التأثير لا يتوقف عند الزراعة فقط، بل يشمل أيضاً إنتاجية العمال. فارتفاع درجة الحرارة بدرجة واحدة فقط يمكن أن يؤدي إلى انخفاض إنتاجية العاملين بنسبة تصل إلى 1.2 بالمئة، لا سيما في المهن التي تعتمد على الجهد البدني.
ووفقاً لمركز “Bruegel”، قد تؤدي موجات الحر المتكررة إلى خسارة تصل إلى 0.3 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي سنوياً في دول منطقة اليورو خلال السنوات المقبلة.
المناخ يربك قرارات السياسة النقدية
وقال الخبير الاقتصادي الشبشيري: "إن البنك المركزي الأوروبي اليوم أمام معضلة حقيقية: التضخم الذي يشهده الاقتصاد لا يأتي من طفرة في الطلب، بل من صدمات مناخية تُربك العرض والإنتاج. وهنا، لا يمكن للسياسات النقدية التقليدية وحدها – كرفع أسعار الفائدة – أن تحل المشكلة. رئيسة البنك، كريستين لاغارد، اعترفت بأن التغير المناخي أصبح تهديداً غير تقليدي للاستقرار الاقتصادي ويجب التعامل معه كأولوية".
وعلى الرغم من أن موجات الحر تبدو في ظاهرها مشكلة أوروبية، إلا أن ارتداداتها وصلت بالفعل إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط.
فمع تراجع الإنتاج الزراعي في أوروبا، ارتفعت تكاليف استيراد الغذاء لدى دول خليجية ومصر، التي تعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب والخضروات الأوروبية، كما أن الاضطرابات في سلاسل التوريد الأوروبية أثرت على تدفق السلع والمنتجات الصناعية والطبية إلى أسواق المنطقة، بحسب الشبشيري.
وختم بأن التغير المناخي لم يعد أزمة بيئية فحسب، بل أصبح أزمة اقتصادية متكاملة، ومن يتأخر في الاستجابة لها، قد يدفع ثمنًا باهظاً في المستقبل القريب.
0 تعليق