تجد البرازيل، وهي أحد أهم القوى الاقتصادية في أميركا اللاتينية، نفسها في مواجهة توترات تجارية غير مسبوقة مع الولايات المتحدة، منذ أن قررت واشنطن فرض رسوم جمركية عالية على مجموعة من السلع البرازيلية، ما أدى إلى تفجر خلافات بين الحكومتين، وأثار قلقاً واسعاً في أوساط الأعمال والمجتمع الدولي.
تعد هذه الأزمة نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إذ تتداخل الضغوط الاقتصادية مع التوترات السياسية الداخلية في البرازيل.. ووسط هذه المعركة التجارية، تبرز عدة خيارات أمام البرازيل لمواجهة التحديات وتحقيق التوازن بين الحفاظ على سيادتها الاقتصادية من جهة، وتجنب التصعيد مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وفرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 50 بالمئة على معظم الصادرات البرازيلية بعد أن اتهم الرئيس دونالد ترامب البلاد بإجراء "حملة شعواء" ضد حليفه الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو، وطالب بوقف محاكمته أمام المحكمة العليا.
قال وزير المالية البرازيلي، فرناندو حداد، إن بلاده وصلت إلى طريق مسدود مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية القياسية التي فرضتها على الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية، مؤكداً أن الحل يعتمد بشكل أكبر على رغبة واشنطن في حل القضية.
وقال حداد -في تصريحات نقلتها عنه فايننشال تايمز- "تحاول الولايات المتحدة فرض حل على البرازيل ، وهو حلٌّ مستحيل دستورياً.. لقد وصلنا إلى طريق مسدود، وهو طلبٌ لا يُمكن تلبيته"، مشيراً إلى أن المحكمة العليا مستقلة عن الحكومة بموجب الدستور البرازيلي.
وكان الوزير قد حدد موعداً لاجتماع افتراضي مع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الأسبوع الماضي لمناقشة الرسوم الجمركية، لكن واشنطن ألغت المكالمة. بعد ذلك بوقت قصير، ظهر بيسنت في صورة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مع إدواردو بولسونارو ، نجل الرئيس السابق.
ويضغط النائب البرازيلي منذ أشهر في واشنطن لفرض عقوبات على القضاة الذين يحاكمون والده بتهمة تنظيم انقلاب مدعوم عسكرياً في يناير 2023.
وعندما سُئل عن كيفية تمكن البرازيل من تنويع علاقاتها التجارية في ظل تنامي الحمائية الأميركية، قال حداد إنه يعتقد بأن الاتحاد الأوروبي وتكتل ميركوسور في أميركا الجنوبية سوف يتوصلان قريبا إلى اتفاق تجاري تاريخي طال انتظاره.
واختتم الاتحاد الأوروبي وميركوسور، الذي يضم الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي مع بوليفيا في عملية الانضمام إلى التكتل، المحادثات في نهاية العام الماضي بشأن صفقة التجارة الضخمة، والتي من شأنها أن تخلق سوقا تضم 700 مليون شخص.
خيارات الرئيس لولا
استاذ العلاقات الدولية المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، الدكتور حمدي أعمر حداد، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
لم تكن العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والبرازيل في أحسن أحوالها، لكن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية مرتفعة على الصادرات البرازيلية جاء ليمثل منعطفاً جديداً في مسار التوترات التجارية بين البلدين. طالت هذه الرسوم مجموعة واسعة من المنتجات البرازيلية، بدءاً من اللحوم والقهوة والمنتجات الزراعية، مروراً بالنسيج والأحذية، وصولًا إلى بعض الصناعات الخفيفة، مع استثناءات محدودة مثل طائرات "إمبراير" وعصير البرتقال. لم يتأخر تأثير هذه الرسوم في الظهور، إذ شهدت قطاعات الزراعة والصناعة في البرازيل حالة من الارتباك، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت تمثل أحد أهم أسواق التصدير، ولو أنها ليست السوق الأولى بحجمها مقارنة بالصين. الزيادة المفاجئة في كلفة دخول السلع البرازيلية إلى السوق الأميركية جعلت العديد من الشركات تواجه خسائر فورية، كما تزايدت مخاوف ارتفاع حجم القروض المتعثرة في القطاع الزراعي.ويضيف: لكن في المقابل، كان هناك عامل "مخفّف" لهذه الصدمة، فالولايات المتحدة لا تستحوذ إلا على حوالي 12 بالمئة من الصادرات البرازيلية، مقابل أكثر من 40 بالمئة للصين. وهذا التوازن منح الاقتصاد البرازيلي قدرة نسبية على امتصاص الضربة، وإن كان الثمن سياسياً واقتصادياً معقداً.
وعلى الصعيد الدولي، انعكست الأزمة بشكل مباشر على الأسواق العالمية، خصوصاً في ما يتعلق بالقهوة التي شهدت أسعارها ارتفاعاً ملحوظاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما أتاح لدول منافسة مثل كولومبيا وفيتنام فرصة توسيع حصتها السوقية على حساب البرازيل.
ويستطرد أحداد: "في خضم هذه الأزمة، وجد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا نفسه أمام امتحان عسير: كيف يواجه سياسات ترامب دون أن يدخل في مواجهة تجارية شاملة قد تضر بالاقتصاد المحلي أكثر مما تفيد؟"، مشيراً إلى أن الرد البرازيلي جاء على أكثر من مستوى:
دعم داخلي مباشر: أطلقت حكومته خطة "البرازيل السيادية"، التي تضمنت ما يقارب 30 مليار ريال برازيلي (حوالي 5.5 مليار دولار) على شكل قروض ميسرة وإعفاءات ضريبية، بهدف مساعدة المصدرين على الصمود أمام الخسائر. اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية: رفعت البرازيل شكوى رسمية ضد الإجراءات الأميركية، معتبرةً أنها تمثل خرقًا للقواعد التجارية المتفق عليها عالميًا، في خطوة تهدف إلى إضفاء شرعية دولية على موقفها. القانون الوطني للرد بالمثل: فعّلت الحكومة البرازيلية ما يُعرف بقانون "التبادل التجاري المتبادل"، الذي يسمح بفرض تدابير انتقامية على الشركات والمنتجات الأميركية من دون انتظار حكم منظمة التجارة، بما في ذلك ضرائب محتملة على شركات التكنولوجيا الكبرى. الخيار الدبلوماسي: على الرغم من التصعيد الإعلامي، فضّل لولا عدم الدخول في مواجهة مباشرة، فاعتمد خطابًا هادئًا يدعو للحوار، استجابة لضغوط رجال الأعمال الذين يخشون من تصعيد طويل الأمد. تنويع الشراكات: ربما كان أهم خيار استراتيجي للبرازيليين هو الإسراع في تعزيز تحالفاتهم مع شركاء آخرين، سواء عبر مجموعة "بريكس"، أو عبر اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي وأفريقيا وآسيا، لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية.ويوضح أنه "من المفارقات أن هذه الأزمة منحت لولا هامشاً من القوة داخلياً؛ فقد نجح في تسويق نفسه أمام الرأي العام البرازيلي باعتباره مدافعًا عن السيادة الاقتصادية وكرامة البرازيل أمام "الابتزاز الأميركي". وبذلك تحولت الإجراءات العقابية التي فرضها ترامب إلى ورقة دعم سياسي للرئيس البرازيلي، بدلًا من أن تضعفه".
يشير تقرير الصحيفة البريطانية إلى أنه منذ إعلان الولايات المتحدة عن الرسوم الجمركية، دأب الرئيس البرازيلي اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على نشر مقاطع فيديو وطنية رافضًا ما وصفه بـ"التدخل غير المقبول" في سيادة البرازيل. وقد ازدادت شعبيته منذ بدء المواجهة، لكن قادة الأعمال يتطلعون إلى تفاعل الحكومة مع البيت الأبيض. أظهر استطلاع رأي نشرته صحيفة فولها دي ساو باولو نهاية الأسبوع الماضي أن 35 بالمئة من المشاركين ألقوا باللوم على لولا في النزاع، بينما ألقى 22 بالمئة منهم اللوم على جايير بولسونارو، و17 بالمئة على ابنه إدواردو. بينما ألقى 15 بالمئة فقط اللوم على القاضي المشرف على القضية، ألكسندر دي مورايس .ويعاني الاقتصاد البرازيلي جملة من التحديات المتزامنة، فبعد أن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسومًا جمركية بنسبة 50 بالمئة على السلع البرازيلية، أصبحت جهود كبح جماح التضخم الذي يتجاوز المستوى المستهدف أكثر غموضاً، وفق بلومبرغ.
في اجتماعهم يومي 29 و30 يوليو، صرّح أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي البرازيلي بأنهم سيحافظون على موقف حذر بشأن السياسة النقدية، مما يُبرز الشكوك التي أثارتها الحواجز التجارية.
لكن خبراء اقتصاديون استطلع البنك المركزي آراءهم خفّضوا توقعاتهم لمعدل التضخم بنهاية العام 2025 من 5.05 إلى 4.95 بالمئة. وهذه هي المرة الأولى منذ يناير التي ينخفض فيها المعدل إلى أقل من 5 بالمئة.
تحديات مباشرة
استاذ العلاقات الدولية، الدكتور محمد عطيف، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
أظهرت الرسوم الأميركية المفروضة على الصادرات البرازيلية تحديا مباشرا لمستقبل الاقتصاد الوطني، إذ استهدفت قطاعات حيوية مثل الصلب والمنتجات الزراعية التي تشكل ركائز أساسية للنمو. هذه الرسوم من شأنها أن تضعف القدرة التنافسية للبرازيل في الأسواق العالمية، وتقلص من تدفقات العملة الصعبة نحو الاقتصاد المحلي، بما قد ينعكس على الاستثمار الداخلي واستقرار سوق العمل.ويتابع: يبدو أن الخلاف مع واشنطن يتجاوز بعده التجاري ليعكس أزمة ثقة أوسع في النظام الاقتصادي العالمي الذي يطغى عليه الطابع الحمائي للسياسات الأميركية. فالموقف الأميركي يضع البرازيل في معادلة معقدة: حماية مصالحها الاقتصادية والسيادية من جهة، وتجنب الدخول في مواجهة سياسية مفتوحة مع شريك استراتيجي كبرى بحجم الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ويوضح أنه أمام هذا الوضع، تبرز عدة خيارات أمام البرازيل:
توثيق التعاون مع الصين ودول البريكس لتأمين أسواق بديلة. تعزيز الانفتاح على الاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية لتوسيع شبكات التبادل التجاري. تفعيل المساطر القانونية عبر منظمة التجارة العالمية رغم محدودية فعاليتها في الظرف الراهن. هذه البدائل لا تعني القطيعة مع واشنطن بقدر ما تسعى إلى إعادة التوازن في موقع البرازيل التفاوضي.ويختتم حديثه قائلاً: مستقبل الاقتصاد البرازيلي يتوقف على قدرة القيادة الحالية على تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء استراتيجيات التنمية والانفتاح. فتنويع الشراكات التجارية وتوسيع نطاق التعاون مع قوى الجنوب العالمي يمثلان المسار الأمثل لضمان استقلالية القرار الاقتصادي وتعزيز موقع البرازيل في المشهد الدولي الجديد.
0 تعليق