فقد دقّ الصندوق ناقوس الخطر بشأن التأثيرات المحتملة لسياسات الرسوم الجمركية، وخاصة تلك التي تتبناها الولايات المتحدة، على تفاقم أعباء الديون السيادية لتتجاوز حتى المستويات القياسية التي شهدها العالم خلال جائحة كوفيد-19.
ومع توقعات بوصول الدين العام العالمي إلى ما يقارب 100 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد، تتصاعد التساؤلات حول قدرة الاقتصادات على استيعاب هذه الضغوط المتزايدة وتداعياتها المحتملة على الاستقرار المالي العالمي.
في ضوء هذه التحذيرات، يصبح من الضروري التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تؤدي سياسات التعرفات الحمائية إلى زعزعة استقرار الأوضاع المالية العالمية وتعميق أزمة الديون؟ وهل نحن على أعتاب تحول جذري في المشهد الاقتصادي العالمي بفعل هذه الضغوط المتصاعدة التي يشير إليها صندوق النقد الدولي؟
الدين العالمي في اتجاه تصاعدي
وذكر صندوق النقد الدولي في أحدث تقرير له حول الرقابة المالية أنّ الدين العام العالمي سيرتفع بمقدار 2.8 نقطة مئوية ليصل إلى 95.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2025، مرجّحاً استمرار هذا الاتجاه التصاعدي ليبلغ 99.6 بالمئة بحلول عام 2030، موضحاً أن الإعلانات الأخيرة عن فرض رسوم جمركية واسعة من جانب الولايات المتحدة، والإجراءات المضادة من دول أخرى، تساهم في تدهور الآفاق الاقتصادية وزيادة المخاطر.
ونقلت "رويترز" عن مدير الشؤون المالية في صندوق النقد الدولي، فيتور غاسبار، أن معظم نمو الدين العام يتركز في الاقتصادات الكبرى، حيث تشهد نحو ثلث الدول الأعضاء في الصندوق (191 دولة) نمواً في ديونها بوتيرة أسرع مما كانت عليه قبل الجائحة، وتمثل هذه الدول نحو 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وأضاف غاسبار: "إن من التحديات الإضافية التي تزيد الوضع تعقيداً، التراجع في المساعدات التنموية المقدّمة من الولايات المتحدة ودول غنية أخرى، وهو اتجاه مستمر منذ سنوات، وهذا يعني أن هذه الدول ستواجه مفاضلات مالية أكثر حدّة مما كان يمكن أن يحدث في غير هذه الظروف".
سيناريو تشاؤمي
وذهب صندوق النقد الدولي أبعد من ذلك محذراً في تقريره من أن الآفاق الاقتصادية والتوقعات المالية قد تتدهور إذا ما دخلت رسوم جمركية إضافية من الرئيس دونالد ترامب حيز التنفيذ، إلى جانب الإجراءات الانتقامية من الدول الأخرى. وفي سيناريو "تشاؤمي حاد"، قد ترتفع مستويات الدين لتتجاوز 117 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، وهو ما سيمثل أعلى نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي منذ الحرب العالمية الثانية.
في سياق متصل، أطلق قادة ماليون عالميون "خطة عمل" لإعادة هيكلة ديون الأسواق الناشئة، في محاولة لتبسيط عملية أصبحت مطولة ومعقدة بشكل متزايد بالنسبة لبعض أفقر دول العالم، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح التقرير أن خطة العمل، التي تم إصدارها خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي في واشنطن، تستند إلى أفضل الممارسات من عمليات إعادة هيكلة الديون السيادية الأخيرة، وتوضح سعي المؤسسات المالية الدولية لإيجاد حلول لنظام مضطرب ترك بعض البلدان في حالة جمود لإعادة الهيكلة لسنوات.
وأشار إلى أن صندوق النقد الدولي لعب دوراً رائداً في السنوات الأخيرة بعد تخلف العديد من الدول النامية عن سداد ديونها، مما أدى إلى محادثات إعادة هيكلة معقدة بين المدينين والدائنين الرسميين الثنائيين، وخاصة الصين، وحاملي السندات الخاصين.
وأضاف التقرير: "في حين تضاءلت حالات التخلف السيادي عن السداد مؤخراً، إلا أن المشاكل تتصاعد مرة أخرى لحكومات الأسواق الناشئة التي تغرق في الديون. ارتفعت علاوة المخاطر لبلدان ذات العائد المرتفع إلى أعلى مستوى لها منذ سبتمبر بسبب عدم اليقين بشأن السياسة التجارية الأميركية والمخاوف بشأن تباطؤ النمو العالمي. وتم إغلاق أسواق رأس المال الدولية أمام بعض أفقر البلدان، مما تركها بموارد دولارية أقل للإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم بينما تكافح لمواكبة مدفوعات القروض. وقد يؤدي ذلك إلى موجة جديدة من حالات التخلف عن السداد وإعادة الهيكلة".
بدورها، حذرت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات العالمية من أن المزيد من البلدان من المرجح أن تتخلف عن السداد في العقد المقبل. ومما يزيد من المخاطر قصيرة الأجل، من المتوقع أن تؤدي حرب الرسوم الجمركية التي يشنها الرئيس دونالد ترامب إلى إضعاف النمو الاقتصادي.
كما جاء في تقرير "المائدة المستديرة العالمية للديون السيادية" نُشر أخيراً، وهي مجموعة تضم قادة حكوميين وأعضاء من مؤسسات متعددة الأطراف: "لقد زادت المخاطر المتعلقة بالديون، إن التطورات الأخيرة، بما في ذلك ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن السياسات وتشديد الأوضاع المالية قد زادت من المخاطر".
والجدير ذكره أن صندوق النقد الدولي خفض توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي إلى 2.8 بالمئة هذا العام، من 3.3 بالمئة توقعها في يناير الماضي.
وكان معهد التمويل الدولي، أشار في تقرير له أصدره في فبراير الماضي، إلى أن نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت في عام 2024 للمرة الأولى منذ عام 2020، حيث سجل إجمالي الدين العالمي مستوى قياسياً جديداً بلغ 318 تريليون دولار بنهاية 2024، وسط تباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي. وجاءت الزيادة في الدين العالمي بمقدار 7 تريليونات دولار، وهو ارتفاع يقل عن نصف الزيادة المسجلة في عام 2023، وفقاً للمعهد.
خطر الديون يكمن في تأثيرات الرسوم الجمركية التراكمية
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية: "إن السياسات الحمائية، وعلى رأسها التعرفات الجمركية، تسهم في تباطؤ وتيرة نمو الاقتصاد العالمي بعدة طرق.
فقد أشار إلى أن رفع الرسوم الجمركية يؤدي إلى تقليص التبادل التجاري العالمي، مما يضغط بشكل مباشر على اقتصادات الدول التي تعتمد على التصدير. كما أكد أن هذه السياسات ترفع تكاليف الإنتاج، إذ تضطر الشركات إلى دفع مبالغ أكبر مقابل المواد المستوردة، وهو ما ينعكس على الأسعار ويُضعف القدرة الشرائية للمستهلكين.
وأوضح عقل أن هذا المسار يساهم في زعزعة الثقة بالأسواق، نظراً لما تسببه السياسات الحمائية من تقلبات في الأسواق المالية، قد تدفع المستثمرين إلى سحب رؤوس أموالهم من الأسواق الناشئة.
وفيما يتعلق بالديون العالمية، لفت عقل إلى أن الخطر لا يكمن فقط في الرسوم الجمركية، بل في تأثيراتها التراكمية، مستنداً في ذلك إلى تقديرات صندوق النقد الدولي.
وأضاف: "إن هذه التأثيرات تتمثل في ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً نتيجة التضخم الناتج عن الرسوم، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة خدمة الديون، إضافة إلى تراجع الإيرادات الحكومية في الدول النامية التي تعتمد على التصدير، ما يدفعها إلى زيادة معدلات الاستدانة، ناهيك عن الضغط على العملات المحلية الذي يؤدي إلى تراجعها مقابل الدولار، وبالتالي ارتفاع أعباء سداد الديون الدولارية".
وحول إعادة رسم خريطة الدين العالمي، أكد عقل أن ذلك بات وارداً، وإن بشكل جزئي، مشيراً إلى تحولات محتملة في مراكز الثقل الاقتصادي، إذ قد تتحول بعض الدول من وضع الدائن إلى المدين تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية. كما نبه إلى تزايد الاعتماد على مصادر تمويل غير تقليدية مثل التمويل الصيني، في ظل تضييق فرص التمويل الغربي، فضلًا عن ارتفاع مخاطر التخلف عن السداد لدى الدول ذات المديونية العالية والاقتصادات المعتمدة على التصدير.
واختتم عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية عقل حديثه بالتأكيد على أن التعرفات الجمركية التي تندرج ضمن سياسة "أمريكا أولاً" التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإن كانت تهدف إلى تعزيز الصناعة الأميركية، إلا أن تداعياتها تشير إلى خطر حقيقي بحدوث أزمة ديون عالمية، خاصة في ظل تراكم الديون في الدول النامية وارتفاع تكاليف الاستيراد. وشدد على أن تطورات المفاوضات الدولية وردود فعل البنوك المركزية ستكون عوامل حاسمة في تحديد مدى عمق هذه الأزمة.
3 عوامل تسهم في التوقعات المقلقة
بدوره، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "نعم، أصدر صندوق النقد الدولي تحذيراً شديداً من أن الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس دونالد ترامب قد تؤدي إلى تفاقم الدين العام العالمي بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى أزمة تُذكرنا بمستويات ما بعد الحرب العالمية الثانية. ونعم هي توقعات مُقلقة".
وأوضح القمزي أن هناك ثلاثة عوامل تسهم في هذا الاتجاه المُقلق وهي:
التوترات التجارية: أدى فرض تعريفة جمركية شاملة بنسبة 10بالمئة على الواردات وتعريفة جمركية بنسبة 145بالمئة على السلع الصينية إلى توتر العلاقات التجارية الدولية، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات انتقامية وانخفاض حجم التجارة العالمية. عدم اليقين الاقتصادي: تُؤجل الشركات والمستهلكون الاستثمارات والإنفاق بسبب بيئة التجارة غير المتوقعة، مما يُفاقم تباطؤ النمو الاقتصادي. زيادة تكاليف الاقتراض: أدت تقلبات الأسواق المالية، بما في ذلك الاضطرابات في أسواق سندات الخزانة الأميركية، إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض على الحكومات، مما أدى إلى تفاقم مستويات الديون.وأشار الخبير الاقتصادي القمزي إلى أن تصاعد مستويات الديون وفق تحذيرات صندوق النقد الدولي قد يكون له عواقب بعيدة المدى، على النحو التالي:
الدول النامية المُعرّضة للخطر: تُعدّ الاقتصادات الناشئة، التي تفتقر إلى بنى تحتية مالية متينة، عُرضة بشكل خاص للآثار السلبية لارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض فرص الحصول على رأس المال. ركود محتمل: تُفاقم الآثار المُركبة لاضطرابات التجارة وعدم الاستقرار المالي خطر حدوث تباطؤ اقتصادي عالمي.وختم القمزي بأن "هناك حاجة مؤكدة وملحة إلى تنسيق الجهود الدولية لمواجهة التحديات المُتزايدة في التجارة العالمية وإدارة الديون خلال هذه الحرب التجارية".
يشار إلى أن الدين العام العالمي بلغ ذروته في عام 2020 عند مستوى 98.9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما لجأت الحكومات إلى الاقتراض بشكل مكثف لتمويل حزم الدعم المرتبطة بجائحة «كوفيد-19» في وقت انكمش فيه الناتج المحلي. وقد تراجع الدين بعد ذلك بمقدار 10 نقاط مئوية خلال عامين لكنه عاد ليرتفع تدريجياً.
0 تعليق