الكويت الاخباري

صندوق أوبك يطرق أبواب سوريا من جديد - الكويت الاخباري

في عالم تتسارع فيه الأزمات، من تغيرات مناخية مدمرة إلى اضطرابات جيوسياسية خانقة، تتعاظم الحاجة إلى مؤسسات تنموية تمتلك أدوات مرنة واستراتيجيات متقدمة تواكب التحديات وتعيد التوازن للاقتصادات الهشة. وفي هذا السياق، يبرز صندوق أوبك للتنمية الدولية كلاعب رئيسي يعيد رسم معالم الحضور الاقتصادي في الدول النامية، مستعدًا لمرحلة جديدة تتضمن عودة مرتقبة إلى سوريا بعد انقطاع دام أكثر من عقد.

في مقابلة خاصة مع "سكاي نيوز عربية"، أعلن الدكتور عبد الحميد الخليفة، المدير العام لصندوق أوبك للتنمية الدولية ، عن محادثات جارية مع الحكومة السورية، مؤكدًا سعي الصندوق لإعادة نشاطه إلى دمشق، بعد توقفه عام 2011 على خلفية الأزمة السورية.

تصريحات الخليفة تعكس نقلة نوعية في فلسفة الصندوق، الذي بات يربط التمويل بالتنمية المستدامة، ويراهن على التأثير الاقتصادي طويل الأمد، لا على حجم المبالغ فحسب.

ما بعد الأزمة.. عودة مشروطة وواعية إلى سوريا

تُعد العودة المحتملة لصندوق أوبك إلى سوريا واحدة من أبرز محاور التغيير في استراتيجيته الإقليمية. فبعد سنوات من الغياب، التقى الخليفة مؤخرًا بوزير المالية السوري ورئيس البنك المركزي في واشنطن، حيث جرت محادثات تمهيدية لاستئناف الدعم التنموي والمالي عبر نافذتي القطاعين العام والخاص.

وبحسب الخليفة، فإن نشاط الصندوق في سوريا قبل 2011 شمل دعم مشاريع حكومية، ومبادرات مع شركات محلية، فضلًا عن تقديم مساعدات فنية. ولكن مع تصاعد الأزمة السياسية وتدهور الاستقرار، توقفت هذه العمليات. واليوم، يأمل الخليفة في أن تثمر المباحثات الجارية عن استعادة الصندوق لدوره التنموي، ضمن رؤية جديدة تقوم على الشفافية والمردودية التنموية.

من التمويل التقليدي إلى الفعالية التنموية

لم تعد معايير صندوق أوبك في تقييم المشاريع تعتمد فقط على الحجم المالي أو عدد المستفيدين، بل على ما يسميه الخليفة "المردود التنموي" لكل دولار يُصرف. فالصندوق، الذي يعمل مع أكثر من 125 دولة حول العالم، أصبح يقيس الأداء من خلال مؤشرات مزدوجة: مالية وتنموية، تشمل الأثر الاجتماعي والبيئي والاستدامة الهيكلية للمشاريع.

"المبلغ ليس هو الهدف، بل مدى الأثر الذي يُحدثه على الأرض، وكيف يمكن لهذا الأثر أن يتحول إلى نمو دائم واستقرار اقتصادي"، بحسب تصريحات الخليفة.

الصندوق بات يعتمد على تقييم مزدوج لأي مشروع: فريق أول يقيّم مدى الجدوى والملاءمة قبل التنفيذ، وفريق آخر يتولى مراجعة ما تحقق بعد الانتهاء، لتحديد مواطن النجاح أو الإخفاق وإعادة رسم الأولويات.

مبادرات في وجه العاصفة: الجزر الصغيرة والتجارة العالمية

في مواجهة التغيرات العالمية المتسارعة، أطلق صندوق أوبك مبادرتين حديثتين تعكسان وعيًا عميقًا بتحولات البيئة الاقتصادية:

مبادرة دعم الجزر الصغيرة: تستهدف نحو 39 دولة جزيرة تعاني من تقلبات مناخية وجيوسياسية حادة، ما يجعل اقتصاداتها معرضة للانكماش والاضطراب. هذه المبادرة تهدف إلى تعزيز صمود تلك الدول من خلال مشاريع موجهة للطاقة والبنية التحتية والاستثمار الاجتماعي. مبادرة التجارة العالمية: تهدف إلى تأمين خطوط تمويل ميسّرة للدول النامية، خاصة تلك الأقل نموًا، لتمكينها من التفاعل مع الأسواق الدولية، في ظل اشتداد الحمائية وارتفاع التكاليف الجمركية. يرى الخليفة أن توفير أدوات تمويل مرنة للتجارة، يعني تمكينًا حقيقيًا للاقتصادات الهشة من بناء قاعدة إنتاجية مستدامة.

إفريقيا ومعضلة الطاقة: بين الحاجة والتنظير

في تحليله لواقع الطاقة في الدول النامية، سلّط الخليفة الضوء على إفريقيا كمثال حي على التحديات المزمنة. ففي القارة السمراء، يعاني ما يقرب من 750 مليون شخص من انعدام الوصول إلى مصادر الطاقة، ما يجعل الحديث عن الطاقة المتجددة، بحسب الخليفة، "أقرب إلى الخيال" في بعض السياقات.

"لا يمكن فرض نموذج واحد كحل شامل... علينا التفكير بواقعية: أحيانًا تكون محطة شمسية صغيرة هي الخيار الأفضل، وفي أحيان أخرى، لا بد من الاعتماد على الغاز النظيف أو الوقود الأحفوري منخفض الانبعاثات".

هذه المقاربة تعكس تغيرًا في الخطاب التنموي، من التركيز على المثالية البيئية إلى الدمج بين الاستدامة والواقعية، مع التأكيد على أن الهدف النهائي هو خلق أنظمة طاقة مستقرة، ذات أثر بيئي منخفض، وقابلة للاستمرارية.

الشراكة مع القطاع الخاص: مستقبل التنمية

من النقاط الجوهرية التي أبرزها الخليفة، أهمية تفعيل النافذة الخاصة بالقطاع الخاص ضمن عمليات الصندوق. فبينما كانت الشراكة مع الحكومات هي السائدة لعقود، تتجه المؤسسة اليوم نحو تمكين القطاع الخاص باعتباره أداة فعالة للتنمية المستدامة، ومصدرًا أساسيًا لخلق فرص العمل.

يشدد الخليفة على أن الصندوق لا يموّل فقط الشركات الكبرى، بل يسعى إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لا سيما في المجتمعات النائية. ومن خلال هذا النهج، يمكن تحقيق نمو اقتصادي حقيقي يُترجم على مستوى الأفراد لا فقط عبر مؤشرات الموازنات الوطنية.

التحدي السوري: كيف يُقاس النجاح؟

في ظل المحادثات مع دمشق، يواجه الصندوق جملة من التحديات، تتعلق بالحوكمة، والاستقرار، والبيئة السياسية والاقتصادية التي ستُنفذ فيها المشاريع. لكن الخليفة يبدو مدركًا لهذه التحديات، ويرى أن التقييم المستقل للمشاريع وآليات الرقابة والمحاسبة هي أدوات أساسية لضمان النجاح.

"نحن نقيّم كل مشروع مرتين، قبل وبعد التنفيذ. وهذا يمنحنا فرصة لتصحيح المسار إذا تطلب الأمر، أو تغيير النهج بالكامل في بعض الأحيان".

في الحالة السورية، قد يكون النجاح الحقيقي لصندوق أوبك مرهونًا بقدرته على تنفيذ مشاريع قابلة للحياة في بيئة معقدة سياسيًا وأمنيًا، ولكنها في الوقت ذاته متعطشة لأي دعم اقتصادي يمكنه إحداث فرق ملموس.

نحو استراتيجية تمويل متقدمة

أعلن صندوق أوبك للتنمية الدولية ضمن خطته التوسعية، التزامًا بقيمة 20 مليار دولار، تُوظف في مشاريع تنموية متنوعة، مع تركيز خاص على الطاقة والبنية التحتية وتمويل المناخ. هذه الاستثمارات، وفق الخليفة، ليست مجرد أرقام، بل ترجمة لاستراتيجية تقوم على تعظيم العائد التنموي لكل دولار.

والأهم أن هذه الأموال لا تُمنح بصورة عشوائية، بل وفق معايير فنية صارمة، تضع في الاعتبار الأثر المجتمعي، والاستدامة، وتوافق المشروع مع أولويات الدولة المعنية.

ما الذي تعنيه عودة صندوق أوبك إلى سوريا؟

عودة صندوق أوبك إلى سوريا، إذا ما تم تنفيذها فعليًا، ستكون أكثر من مجرد استئناف تمويل، بل اختبار حقيقي لجدوى التنمية في بيئة ما بعد الصراع. إنها فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين التمويل الدولي والدول الخارجة من الأزمات، وفرصة للصندوق لتأكيد مكانته كمؤسسة تنموية رشيقة تستجيب للحاجة ولا تكتفي بالخطط.

وفي عالم يشهد تصدعًا في دور المؤسسات المالية الكبرى، تبدو مقاربة صندوق أوبك أكثر قربًا للواقع: لا وعود فارغة، بل شراكة حقيقية مشروطة بالفعالية، وقابلة للقياس، ومحكومة بالنتائج.

ومع تواصل المفاوضات، تبقى الأنظار معلقة على ما إذا كان التمويل سيتحول إلى تنمية حقيقية تعيد للمجتمعات السورية شيئًا من استقرارها الاقتصادي، وتضع حجر الأساس لنمو ما بعد الحرب... أو ما إذا كانت هذه العودة ستواجه التحديات نفسها التي أحبطت الكثير من المبادرات الدولية السابقة.

في الحالتين، يمثل انخراط صندوق أوبك في الملف السوري علامة فارقة، وفرصة نادرة لإثبات أن التنمية لا تزال ممكنة، حتى في أصعب البيئات وأكثرها هشاشة.

أخبار متعلقة :