تزايدت في الأيام الأخيرة التقارير التي تسلط الضوء على تهديدات جديدة تواجه أمن الملاحة البحرية في مضيق هرمز، من خلال التشويش المتعمد على أنظمة تحديد المواقع العالمي (GPS) .
تحليل البيانات ومؤشرات التتبع أظهرا نمطاً مقلقاً؛ إذ بدت عشرات السفن وكأنها تتحرك بشكل غير منطقي، تقفز بين المواقع أو تدور في دوائر غير مفهومة أو تتواجد على اليابسة. في حوادث لم تعد عرضياً بل على ما يبدو سلوكاً متكرراً، يُهدد بإحداث اختناق في سلسلة الإمدادات العالمية ويضع شركات الشحن والبحارة تحت ضغط متزايد في بيئة رقمية متقلبة.
تشير صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في تحليل لها إلى أنه:
في ليلة 15 يونيو، أرسلت ناقلة نفط بالقرب من مضيق هرمز، وهي "فرونت إيغل" التي ترفع العلم الليبيري، عدة إشارات تحديد موقع مستحيلة، حيث بدت مرارا وتكرارا وكأنها تقفز عشرات الأميال في لحظة واحدة.. وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، اصطدمت بناقلة أخرى، ما أدى إلى اشتعال النيران فيها. لا يزال سبب الحادث غير واضح، لكن تحركات "فرونت إيغل" الغريبة بالقرب من المضيق الذي تسيطر عليه إيران كانت، كما يتفق الخبراء، علامة على تدخل نظام تحديد المواقع العالمي، وهي أداة من أدوات الحرب الحديثة التي تزيد بشكل حاد من خطر وقوع الحوادث . لم تكن "فرونت إيغل" السفينة الوحيدة التي تأثرت بالتدخل، الذي بدأ بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران الأسبوع الماضي. فقد أظهرت بيانات تتبع السفن والطائرات مئات السفن وهي تبحر براً أو تدور في دوائر جماعية في البحار المحيطة بالمضيق.وفي هذا السياق، قال مركز المعلومات البحرية المشترك، وهو مبادرة متعددة الجنسيات لتقديم المشورة للسفن في الشرق الأوسط، إن التدخل جاء من ميناء بندر عباس الإيراني، وأوصى السفن بالتنقل باستخدام الرادار أو المرئيات.
وقالت عمليات التجارة البحرية في المملكة المتحدة إنها تلقت تقارير متعددة عن حدوث تدخل في إشارات الملاحة في الخليج، محذرة من أن ذلك كان له "تأثير كبير" على السفن.
ونقل التقرير عن الباحث في جامعة لندن، أولي بالينجر، والذي يدرس تحديد المواقع الجغرافية للسفن، قوله: "إن ظهور السفن وهي تدور في دوائر مثالية، ووجود مئات السفن متراكبة مباشرة فوق بعضها البعض وكذلك ظهورها على الأرض، كلها علامات دالة" على تدخل الملاحة!".
وأظهر تحليل أجرته صحيفة فاينانشيال تايمز للمواقع المبلغ عنها للسفن أن ما لا يقل عن 170 سفينة تأثرت بالتداخل خلال فترة ساعتين فقط صباح الثلاثاء.
ومنذ أن شنت إسرائيل هجومها واسع النطاق ضد أهداف إيرانية الأسبوع الماضي، أبدى محللو الطاقة مخاوفهم من أن الصراع قد يؤثر على حركة الملاحة عبر المضيق، الذي تمر عبره نحو ثلث إمدادات النفط المحمولة بحرا في العالم كل يوم.
يتم تشويش نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) بإرسال إشارة راديو قوية تحجب الإشارات المرسلة من وإلى الأقمار الصناعية عبر أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية. وكبديل، تُقلّد ما يُسمى بـ"المُزيّفات" الإشارات الحقيقية، لكنها مُضلّلة.
توضيح إماراتي
وكانت وزارة الطاقة والبنية التحتية الإماراتية قد ذكرت أن المعلومات الأولية بشأن حادث التصادم العرضي الذي وقع بين سفينتين في بحر عمان، على بعد 24 ميلاً بحرياً من سواحل دولة الإمارات تشير إلى أن الحادث نجم عن سوء تقدير في المسار الملاحي من إحدى السفينتين.
وقالت الوزارة في بيان لها، إن الجهات المختصة تلقت في الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم الثلاثاء 17 يونيو 2025، بلاغاً بشأن حادث التصادم بين السفينتين، إحداهما ناقلة تدعى "ADALYNN" وترفع علم دولة أنتيغوا وباربودا، والأخرى سفينة شحن تدعى"Front Eagle" تحمل علم جمهورية ليبيريا.
وأضافت أن الحادث أسفر عن أضرار سطحية محدودة في الهيكل الخارجي للسفينتين، وتسريب نفطي بسيط، واندلاع حريق في خزان الوقود بإحدى السفينتين، حيث قامت الجهات المختصة بالتعامل معه وإطفائه، فيما لم يتم رصد أي إصابات بين أفراد الطاقمين، وفق ما نقلته وام.
وأكدت الوزارة أن التحقيق الفني جار بالتنسيق مع الجهات الدولية المعنية، وذلك في إطار الشفافية ووفقاً لأعلى المعايير البحرية الدولية.
وأشادت الوزارة بسرعة استجابة فرق الإنقاذ وكفاءتها العالية في التعامل مع الموقف، حيث تم تنفيذ عملية إخلاء آمنة لأفراد طاقم ناقلة النفط "ADALYNN" البالغ عددهم 24 فرداً، ونقلهم إلى ميناء خورفكان بسلام عبر زوارق البحث والإنقاذ التابعة لحرس السواحل بالحرس الوطني والجهات البحرية المختصة.
وأكدت الوزارة استمرارها في مراقبة وتقييم الوضع لضمان سلامة الملاحة وحماية البيئة البحرية، مشيدة بالتكامل المؤسسي والاستعداد الدائم للتعامل مع الحالات الطارئة بكفاءة واحترافية.
التشويش
مستشار المركز العربي للدراسات، خبير الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
يؤدي التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وتداخلها إلى زيادة كبيرة في خطر وقوع الحوادث في مضيق هرمز، نظراً لحساسية هذا الممر البحري الحيوي، ومساحته المحددة، وكثافة حركة السفن فيه. يتسبب فقدان دقة تحديد الموقع في انحراف السفن عن مسارها الصحيح، ما يرفع من احتمالات الاصطدام بسفن أخرى أو بالجزر والسواحل القريبة، ويُربك الطواقم البحرية، ويُضعف قدرتها على الملاحة الآمنة، خاصةً في الليل أو خلال الظروف الجوية السيئة.من جهة أخرى، يضيف: إن تعطل نظام الملاحة قد يؤدي إلى سوء تقدير عسكري من قِبل القوات البحرية المنتشرة في المنطقة، مما يرفع من احتمال وقوع اشتباكات أو حوادث ناجمة عن سوء فهم للأهداف وتقدير مواقعها. كما أن أي خلل في هذا النظام يعيق الاستجابة السريعة لحالات الطوارئ، مثل حوادث الاصطدام أو الحرائق أو التسربات النفطية، ويؤخر عمليات الإنقاذ، ما يزيد من حجم الخسائر البشرية والمادية.
وإلى جانب ذلك، فإن استغلال بعض الجهات لهذا الخلل التقني قد يُسهّل تنفيذ هجمات بحرية أو عمليات قرصنة دون أن يتم رصدها بدقة، وهو ما يُهدد أمن الملاحة في أحد أهم الممرات البحرية في العالم، ويؤثر سلباً على استقرار أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد العالمية.
وتزداد خطورة التشويش على نظام GPS في مضيق هرمز بسبب كثافة الوجود العسكري في المنطقة، ما يجعل أي خلل في نظم الملاحة مرشّحاً للتصعيد السريع. فتعذّر التمييز بين سفن مدنية وعسكرية نتيجة التشويش قد يُفسَّر من بعض الأطراف كتحرك عدائي، ما يرفع من احتمالات اندلاع اشتباكات غير مقصودة أو اتخاذ قرارات ميدانية خاطئة في لحظات توتر. كما أن الاعتماد المتزايد على الأنظمة الرقمية في مراقبة حركة السفن يجعل التشويش الإلكتروني سلاحاً غير تقليدي لكنه فعّال في زعزعة الاستقرار البحري.
علاوة على ذلك، يشكّل اعتماد الناقلات العملاقة وسفن الشحن الحديثة على تقنيات ملاحية دقيقة عاملاً إضافياً لتفاقم المخاطر، إذ أن أي انقطاع في نظم التوجيه قد يتسبب في تعطيل حركة المرور البحري بأكمله لساعات أو أيام، ما يؤدي إلى اختناقات لوجستية وتراجع كفاءة الإمدادات العالمية. وبالتالي تواجه شركات الشحن تحدياً متزايداً في تعزيز حماية نظمها الملاحية ضد الحرب الإلكترونية، خاصة في ظل ضعف التنسيق الدولي على صعيد تطوير أنظمة بديلة موثوقة تستطيع العمل بكفاءة في بيئات معادية للتكنولوجيا.
ألف سفينة
وأفادت شركة "ويندوارد" لتحليل الشحن البحري، بأن التدخل الجماعي منذ بداية الصراع بين إسرائيل وإيران أثر على ما يقرب من ألف سفينة في الخليج، وفق ما نقله تقرير لـ "رويترز" أشار أيضاً إلى بيانات من منصة بيانات السلع الأساسية كبلر، تذكر أن إحدى هذه السفن، وهي فرونت إيغل، وهي سفينة شقيقة لفرونت تاين، ومثلها يبلغ طولها أكثر من ثلاثة ملاعب كرة قدم، بدت على اليابسة في إيران في 15 يونيو (بسبب التشويش).
وقال الرئيس التنفيذي لشركة ويندوارد، آمي دانييل: "عادة لا يحدث أي تشويش في مضيق هرمز، والآن يحدث الكثير منه.. ذروة كل ذلك هي ارتفاع مستوى المخاطر. إنها منطقة ساخنة.. إذا لم تحدد موقعك الجغرافي، فستزداد احتمالية وقوع حادث".
يُطلب من السفن تحديد موقعها، وهي مُجهزة بأجهزة إرسال شبيهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تُسمى نظام التعريف الآلي (AIS)، الذي يُرسل إشارات منتظمة حول الموقع والسرعة وبيانات أخرى. يُؤدي التشويش إلى تعطيل هذه الإشارات.
وقال الأمين العام للاتحاد الدولي لجمعيات ربابنة السفن، جيم سكورير: "المشكلة هذه الأيام هي أن معظم السفن تستخدم أنظمة رقمية، لذا إذا كان نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الخاص بك معطلاً، فلن يكون لديك أي شكل حقيقي من أشكال الملاحة".
إذا قام طاقم السفينة بتعطيل إشاراتها عمدًا، فإن هذا يسمى انتحالًا، وقد يشير إلى سلوك غير قانوني، مثل محاولة إخفاء حمولة أو وجهة. ويقول ديميتريس أمباتزيديس، المحلل في شركة كبلر، إنه إذا قام طرف ثالث بتعطيل الإشارات، كما يحدث في الخليج، فإن ذلك يشار إليه بالتشويش. وأصبحت هذه الممارسة شائعة بشكل متزايد في مناطق الصراع، حيث تسعى بعض الجيوش إلى إخفاء موقع السفن البحرية أو الأهداف المحتملة الأخرى.
توترات متصاعدة
خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في المنطقة، يبرز مضيق هرمز كنقطة اختناق بحرية حيوية، يمر عبرها ما يقرب من 20 بالمئة من إمدادات النفط العالمية المنقولة بحراً، ما يجعل استقرار الملاحة فيه ذا أهمية استراتيجية بالغة. غير أن تزايد حالات التشويش وتداخل إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في المنطقة بات يشكل تهديداً مباشراً للملاحة التجارية والعسكرية على حد سواء. وفقاً لتقارير صادرة عن البحرية الأميركية والبريطانية، فقد تم تسجيل عشرات الحوادث المرتبطة بالتشويش أو التلاعب بإشارات GPS في محيط مضيق هرمز خلال الفترة الماضية، من دون تحديد جهة مسؤولة بشكل رسمي عن هذه الأنشطة، على الرغم من ترجيح تورط جهات تمتلك قدرات في الحرب الإلكترونية. تشير هذه التقارير إلى أن بعض السفن التجارية وناقلات النفط تعرضت للانحراف عن مسارها الملاحـي الدقيق بسبب اضطراب الإشارات، ما يُفاقم مخاطر الاصطدام أو الجنوح في هذا الممر الضيق والمعقد. كما تظهر بيانات شركات التأمين البحري أن معدّل الحوادث الملاحية في المضيق ارتفع بنسبة تُقدّر بنحو 30 إلى 35 بالمئة خلال العامين الأخيرين، ويرتبط عدد كبير منها بفقدان الاتصال بأنظمة الملاحة الإلكترونية. وقد دفع ذلك عدداً من خبراء الملاحة والمنظمات البحرية الدولية إلى الدعوة لتطوير أنظمة ملاحة بديلة أكثر تحصيناً ضد التشويش، إلى جانب تعزيز التعاون الدولي في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية لتحديد مصادر هذه التهديدات.ويستطرد: ثمة مخاوف من أن استمرار التصعيد في المنطقة، ولا سيما في ظل الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، قد يؤدي إلى اتساع رقعة المواجهة، الأمر الذي قد يفتح المجال أمام استخدام موسّع لتقنيات الحرب الإلكترونية بهدف إرباك السفن والبوارج المنتشرة في المنطقة، مما يضاعف من الأخطار المحدقة بأمن الطاقة وحركة التجارة العالمية.
أخبار متعلقة :