حين رفض بنك الكويت المركزي، بكل وضوح ومسؤولية، المقترحات النيابية، التي كانت تدعو إلى فرض رسوم على تحويلات الوافدين – رغم أن العائد المتوقع منها كان يفوق 250 مليون دينار سنوياً– لم يكن قراره قائماً على اعتبارات إنسانية أو سياسية، على أهميتها ووضوحها، بل جاء القرار على أسس مهنية واقتصادية تنبثق من تقدير اقتصادي دقيق للأثر الأوسع، وحرصاً على الثقة بالاقتصاد الوطني، وعلى البيئة المالية والاستثمارية في البلاد.
راعت المؤسسة النقدية الأولى في البلاد آنذاك أن العائد المالي، رغم كبر حجمه، لا يبرر المجازفة بمكانة الكويت المالية، ولا المخاطرة بخلق سوق سوداء، فاختار «المركزي» أن يقول: لا، لأن «الضرر غير المنظور» كان أكبر من المكسب الظاهر.
لكن، وعلى النقيض تماماً، تأتي وزارة المالية اليوم، لتفرض زيادات مفاجئة على رسوم الانتفاع بأملاك الدولة الخاصة العقارية، لتجني ـ كما تقول ـ من 80 إلى 100 مليون دينار سنوياً- وهو مبلغ ضئيل لميزانيةٍ مصروفاتها تتجاوز 24.5 مليار دينار، دون طرح أو نقاش، ودون دراسة للبدائل والانعكاسات، ودون مقارنة مع الاقتصادات المماثلة والمنافسة، ودون أي إشارة إلى عمق مساس القرار بميزانية المواطن... فأي منطق هذا الذي يبرر فرض أعباء إضافية على الجمعيات والمدارس والجامعات مقابل عائد محدود وضرر مؤكد؟!
شتان بين من يقيس العواقب ويحسب الأثر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ومَن يرى في أملاك الدولة مجرد مصدر تمويل لرفد الميزانية، ولو على حساب جودة الخدمات، واستقرار الأسعار، ومستقبل الاستثمار، وتنوع الاقتصاد، ورخاء المواطن في منطقة تتبارى دولها في تعزيز خدماتها لمواطنيها، ضمن إطار تنموي مستدام.
إن الاعتراض على قرار وزارة المالية ليس رفضاً لتحسين الإيرادات غير النفطية، بقدر ما هو تساؤلات عن سبب إقرار لائحة تفرغ في هذا التوقيت أملاك الدولة من معناها التنموي، وتحصرها في خانة الجباية، وتعكس جهلاً بمعرفة فلسفتها، من دون اعتبار لما يمكن أن تلعبه هذه الأملاك من دور استراتيجي في خلق فرص العمل، وتحفيز الاقتصاد، وتنويع النشاطات، ورفد الناتج المحلي بمساهمات حقيقية من القطاع الخاص المنتج.
فالرسوم التي طبقت على الجمعيات والمخازن والمدارس والمستشفيات ومواقف السيارات، ستنتهي في نهاية المطاف إلى المستهلك، المواطن، الذي سيدفع فرق التكلفة من ميزانيته الخاصة.
والأسوأ أن الدولة نفسها قد تضطر لاحقاً إلى التدخل لمعالجة الأثر التضخمي «الكبير» الناتج عن هذه الزيادات، فتصرف أضعاف ما جمعته، وكأنها تنفق باليد اليسرى ما جمعته باليمنى. إن قرار وزارة المالية هذا لم يأخذ بعين الاعتبار إلا «العائد المالي»، بينما كف النظر عن انعكاساته التنموية والاقتصادية والاجتماعية.
أما العقود بالباطن، التي طالما مثلت ثغرة في إدارة أملاك الدولة، فقد شرعنتها الوزارة في قرارها بدلاً من منعها، إذ وضعت رسوماً خاصة على «الباطن»، بدل أن تنهي الظاهرة وتمنح المستثمر الحقيقي عقداً مباشراً، ما يؤكد أن الجباية غلبت على الإصلاح.
لقد كان أولى بوزارة المالية أن تبدأ بأملاك الدولة من حيث يجب، عبر تحويلها إلى أداة تنمية، وسوق مفتوح للمبادرات، وميدان للمنافسة العادلة، وأن تفرق بين من يتاجر بها ومن يوظفها لخدمة المجتمع، وتضع من السياسات ما يشجع الصناعة، والحرفة، والمبادرة، بدلاً من أن تعاقب الجميع بسياسة «السيئة تعم».
ما فعلته وزارة المالية أشبه ما يكون بمن يبيع شجرة مثمرة ليسد عجزاً مؤقتاً، غير مدرك أنه خسر الأصل مقابل عائد لا يسمن ولا يغني، وضرره أكثر من نفعه بكثير، فلا هي سدت عجزاً ولا عالجت المشكلة.
وإذا كانت مؤسسة كبرى مثل «بنك الكويت المركزي» قد اختارت أن تتعالى على المكاسب المالية السريعة لصالح النظرة الاقتصادية العميقة، فلماذا لا تحذو وزارة المالية حذوها؟ ولماذا هذا التسرع في فرض رسوم لا تبنى على دراسات، بل تعلن في بيان من عشرة أسطر، وكأنما أملاك الدولة شأن عابر، لا أداة سيادية من أدوات إدارة الاقتصاد الوطني؟!
إن الفارق بين «المركزي» و«المالية» ليس في المبلغ المتوقع تحصيله، بل في عمق التفكير، واحترام العقل الاقتصادي، وهذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه الوزارة، لا أن تعود بنا إلى دائرة القرارات الارتجالية التي لا ترى أبعد من دخل المواطن سبيلاً، والتي تعتبر بالنسبة لنا هي واقتراحات النواب الشعبوية وجهين لعملة واحدة.
وإن كنا لا نعول كثيراً على وزارة المالية، التي بدا في قرارها هذا الكثير من التسرع، وكأن مستأجري تلك الأملاك خصوم لها لا شركاء في التنمية، فإننا نوجه الدعوة إلى سمو رئيس مجلس الوزراء، الذي نعرف جيداً اتزانه وعقليته المنفتحة اقتصادياً، إلى أن يتدخل بما يليق بثقة الناس في حكومته.
ندعوه إلى دعوة مسؤولي «المالية» لاجتماع يطلع فيه على الأسس التي استند إليها القرار والبدائل التي طرحت بالموازاة له، والدراسات الموضحة لانعكاسه الاقتصادي على الوطن والمواطن، وأن يسائل الوزارة عما إذا كانت قد استمعت إلى وجهات نظر الجهات المعنية فعلاً، من جمعيات تعاونية ومدارس وجامعات ومرافق صحية، وهل تم التعاقد مع أحد البيوت الاستشارية المالية العالمية المختصة بهذا الشأن قبل أن تصدر لائحة تحمل هذا القدر من التأثير المباشر على المجتمع.
فإما أن يقتنع سموه، ويقنع الناس بمبررات القرار وجدواه، وإما أن يعلق هذه اللائحة، ويوجه الوزارة نحو إعادة صياغتها من جديد، بفلسفة اقتصادية حقيقية لا ترتكز على الجباية، بل على التنمية، ولا تثقل كاهل المجتمع، بل تفتح أمامه أبواب الفرص، ولا تكون سبباً في رفع التضخم، بل في الحد منه.
وأخيراً، من المعروف للجميع أن من أول معوقات التنمية في الكويت احتكار الدولة لملكية الأراضي، والخوف كل الخوف، أن توظف الدولة هذا الاحتكار لجباية المال ورفع التضخم والأسعار، بدلاً من تسريع خطة التنمية وتشجيع الاستثمار.
بقي أن نقول إن زيادة إيرادات الدولة لا تعني أبداً توسيع القاعدة الإنتاجية وزيادة الناتج القومي الحقيقي، وعلى ذلك نطرح السؤال:
ما الذي ستقدمه وزارة المالية من خدمات نظير رفعها لأسعار تلك الخدمات بنحو خمسة أضعاف؟!
أخبار متعلقة :