هذا الواقع الذي يرتبط أيضا بعوامل اجتماعية وديمغرافية واقتصادية، سهّل من أعمال التهريب بكافة أشكاله في تلك المنطقة.
وللحدود اللبنانية السورية بوابات تهريب كثيرة، خصوصا في منطقة الشمال المعروفة بسهولة الانتقال بين البلدين، بفعل طبيعة الأرض والتضاريس والتداخل الجغرافي والسكاني.
فتحت الطبيعة الجغرافية للحدود اللبنانية السورية التي يبلغ طولها أكثر من 375 كلم، الباب واسعا امام عمليات التهريب بين البلدين. وخلال زيارتنا لمنطقة الشمال الحدودية مع سوريا، تأكدنا من هذا الواقع عبر ما رأيناه بالعين المجردة وما سمعناه من سكان تلك المنطقة.
الشمال.. مسرح تهريب مفتوح
على ضفاف النهر الكبير في بلدة العريضة في اقصى الشمال اللبناني، وعلى مقربة من معبر العريضة الرسمي الحدودي، الذي قصفته إسرائيل، والذي عاد الى الخدمة بشكل جزئي، التقينا عددا من سكان البلدة الذين تحدثوا مطولا عن معاناتهم من الفقر والعوز وغياب الدولة وأجهزتها الرسمية، إضافة الى غياب التنمية عن المنطقة.
اعتاد السكان في هذه المنطقة على تبادل السلع مع البلدات السورية المقابلة للحدود، فعدد كبير منهم يجتاز الحدود عبر النهر بشكل يومي، إما لشراء حاجياته من سوريا حيث الأسعار أقل، أو لبيع سلع من لبنان في سوريا للحصول على أرباح قليلة.
وبحسب بعضهم، فإن ذلك لا يعتبر تهريبا، باعتبار أن "التهريب يعني نقل كميات كبيرة من البضائع والسلع من والى لبنان".
يرفض سكان العريضة اتهامات التهريب، ويعتبرون أن من يقوم بأعمال التهريب تجار وعصابات محترفة تستغل الواقع الحدودي لتحترف الاتجار بالسلع والمحروقات وبتهريب المخدرات والبشر والسلاح أيضا. مشيرين الى أن عين الدولة غائبة عن هؤلاء ولا تقوم بالإجراءات اللازمة لمحاسبتهم.
عملية الانتقال بين لبنان وسوريا طبيعية بالنسبة لسكان العريضة، وبرأيهم فإن ما يجري بين سكان البلدات الحدودية اللبنانية السورية، لا يتعدى كونه تبادل اقتصادي بالحد الأدنى بين البلدين، ولا يعتبر تهريبا بالمعنى الواسع للكلمة.
وتقول السيدة رويدا درويش متوجهة لأجهزة الدولة: "فليقوموا بملاحقة المهربين الحقيقيين الكبار، ومهربي المحروقات والسلاح والمخدرات". وتضيف: "الدولة هنا لا تراهم، بل تلاحق من يهرب قارورة غاز أو ربطة خبز".
أما السيدة أحلام إبراهيم فتعتبر أن "منطقة الشمال الحدودية تعاني حرمانا كبيرا أدى الى ازدهار أعمال التهريب بين الأفراد".
وادي خالد.. وادي التهريب
توجهنا الى منطقة وادي خالد الحدودية في أقصى الشمال اللبناني التي واحدة من بوابات التهريب الأساسية بين لبنان وسوريا. حيث شهدت عمليات تهريب غير مسبوقة بعد سقوط النظام السوري في ديسمبر الماضي.
ويعتبر النهر الكبير الجنوبي من أهم معالم الحدود اللبنانية السورية شمال لبنان، إذ يفصل طبيعيا بين لبنان وسوريا ويمتد لعشرات الكيلومترات.
وشكل النهر هذا معبرا طبيعيا لعمليات الانتقال بين سوريا ولبنان، وبوابة أساسية لعمليات التهريب.
ويوصف التهريب بين الأفراد على الحدود اللبنانية السورية بأنه تبادل اقتصادي للحاجات لا أكثر. ولا يعتبر كثيرون اجتياز الحدود بشكل غير نظامي بأنه جريمة، ويصفونه بأنه تواصل مع الداخل السوري بسبب التداخل الديمغرافي والسكاني والمصاهرة والعلاقات الاجتماعية التي تمتد لمئات السنوات.
توقفنا على أطراف النهر الكبير مع الناشط عبد الرزاق خالد من بلدة البقيعة في وادي خالد. حيث تبدو سوريا على بعد أمتار قليلة فقط.
يقول خالد إن "عمليات تبادل البضائع وعبور اشخاص من النهر زادت كثيرا بعد سقوط النظام، وهناك تعذر لضبط الحدود بسبب طولها الجغرافي وسهولة الحركة".
من جهته يقول الشيخ أحمد الشيخ أحد وجهاء بلدة العمايرة "إن التهريب أمر لا مفر منه في أي منطقة حدودية". ويستطرد قائلا: "هم يسمونه تهريب وأنا اسميه تبادل للحاجات بين منطقة وأخرى لا أكثر".
ويشير الشيخ أحمد الى أنه "في هذه المنطقة يقوم الناس بتأمين أي سلعة مفقودة في الطرف الآخر من الحدود، وهذا ما يحدث هنا بين لبنان وسوريا، حيث نتبادل الحاجات الضرورية بين الأقارب والسكان على ضفتي النهر، وبالتالي فإن هذا التبادل يسد فقرا او عوزا او نقصا بالنسبة لكثيرين".
أما الناشط جمال خضر من بلدة العبدة فيخبرنا أنه عبر النهر خلال الأسابيع الماضية الى سوريا، ورأى كافة أنواع البضائع والسلع والمواد الغذائية والخضار والمحروقات وقطع الميكانيك تعبر من لبنان الى سوريا.
ويبرر ذلك بأن "بعض الشبان يعمدون إلى بيع بعض السلع الخفيفة الى الجانب السوري للحصول على بعض المال في وقت تغيب فرص العمل بشكل كلي عن منطقة عكار".
شاحنات التهريب نشطة
وبعيدا عما يقوله سكان هذه المناطق الحدودية عن "أعمال التبادل الاقتصادي" اليومية كما يسمونها، إلا أن منطقة الشمال الحدودية تعتبر مسرحا مفتوحا على أعمال تهريب ضخمة وغير قانونية تتعدى منطق التبادل المحلي، حيث شكل الشمال خلال السنوات الماضية منطلقا لكافة أعمال التهريب، أبرزها تهريب المحروقات والبشر".
تمكنا من الحصول على فيديوهات تم تصويرها، تظهر شاحنات محملة بالبضائع تعبر حواجز ترابية وخشبية تم استحداثها على ضفتي النهر.
يرد جمال خضر على هذه الفيديوهات بالقول إن "من يقف خلق تهريب هذه السلع والممنوعات بشكل غير نظامي جهات معروفة لدى اجهزة الدولة، ومجموعات وعصابات لا تفيد لبنان ولا سوريا وهم يشكلون خطرا على الجهتين".
وبرأي عبد الرزاق خالد، "هناك مافيات تستغل الوضع والمواطن وحده يدفع الثمن". ويكشف بأن "عصابات تتواجد في منطقة الشمال تنشط في مجال الاتجار بالبشر ونقل أشخاص من سوريا إلى لبنان بهدف الكسب المادي". وهذا ما شهده الشمال طوال السنوات الماضية قبل سقوط النظام السوري.
حدود متداخلة ومعقدة
جرى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا بشكل لا يتناسب مع البيئة الاجتماعية والديمغرافية في تلك المنطقة، حيث تركت عدة نقاط من دون ترسيم دقيق، ما اتسم بكثير من الغموض وعدم الوضوح، ليسمح بمزيد من التهريب والعبور لأسباب اجتماعية واقتصادية ايضا.
يقول وزير الداخلية اللبناني الأسبق، مروان شربل في حديث مع "سكاي نيوز عربية" أن "التداخل الحدودي اللبناني السوري كبير جدا، حيث يوجد سكان لبنانيون في بلدات سورية وسوريون في بلدات لبنانية، ويقوم لبنانيون بزيارة أقاربهم وأراضيهم التي تتواجد في الناحية السورية وبالعكس"، ويضيف أن "هذا الواقع يكشف التداخل الكبير بين البلدين ويفاقم مسألة ترسيم الحدود".
يشارك الكاتب السياسي داوود رمال وجهة نظر الوزير شربل، ويصفها بأنها "حدود ملتبسة منذ ترسيمها إبان الانتداب الفرنسي".
ويقول رمال إن "التداخل السكاني بين لبنان وسوريا أدى الى مشكلة جغرافية وديمغرافية، ويتطلب ذلك حلا على المستوى السياسي بين الادارتين اللبنانية والسورية".
من جهته يقول الباحث في معهد "كارنيغي" للشرق الأوسط مهند الحاج علي إن "الحدود اللبنانية السورية فصلت بين مجتمعات مترابطة فيما بينها". ويعتبر أن عوامل اقتصادية واجتماعية عدة أدت الى ازدهار التهريب، أبرزها يتعلق بمسألة التنمية.
ويشير الحاج علي إلى "أن هناك إهمال واضح من المركز في كل من سوريا ولبنان، وهذا العامل حوّل التهريب الى جزء من الدورة الاقتصادية في مناطق الحدود".
ويرى الحاج علي أن "القدرة على السيطرة وضبط هذه الحدود من خلال إجراءات أمنية فحسب من دون النظر الى الموضوع السياسي والاستثمارات المطلوبة في هذه المناطق لتنميتها بعيدا عن التهريب فشلت خلال العقود الماضية، منذ استقلال البلدين عن بعضهما البعض".
التهريب لن يتوقف
في هذه المنطقة الحدودية، تعبر عشرات الشاحنات المحملة بمختلف أنواع السلع والمحروقات والبضائع من دون العبور بالمعابر الرسمية اللبنانية السورية وبطرق غير شرعية.
وبحسب مصادر محلية، "شهدت الحدود انفلاتا كبيرا خلال الأسابيع الأولى من سقوط النظام السوري". وتشير البيانات الامنية الى ان عمليات تهريب البشر والاسلحة والمحروقات نشطت بعد أشهر من سقوط النظام السوري. أبرزها تهريب الاسلحة الخفيفة بكميات كبيرة من سوريا إلى لبنان.
وتشير مصادر أمنية الى أن الأوضاع الأمنية تحسنت اليوم مقارنة مع ما كانت عليه بعد سقوط النظام السوري، حيث تم تكثيف الإجراءات وإغلاق عشرات المعابر غير الشرعية التي تم استحداثها من قبل المهربين والتجار وتوقيف عدة شحنات كانت معدة للتهريب.
وبهدف ضبط الحدود وعمليات التهريب هذه، شكلت لجان مشتركة بين سكان طرفي الحدود في الشمال مع الداخل السوري لضبط الاشكالات الأمنية وغير القانونية. في مقابل تشديد الجيش اللبناني والاجهزة الامنية لإجراءاتها عبر اقفال عشرات المسارب الترابية والخشبية التي اقيمت على ضفتي النهر الكبير.
في المحصلة يبدو واضحا آن التهريب في عكار والشمال اللبناني لم يتوقف وقد يصعب ضبطه لأسباب كثيرة.
أخبار متعلقة :