في تحول مفاجئ للنبرة، تراجع الرئيس الأميركي عن تهديداته السابقة بإقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، بعد موجة انتقادات وجهها له علنًا وأدت إلى اضطرابات حادة في الأسواق المالية.
بعد أن وصف ترامب باول بـ"الخاسر الأكبر" يوم الاثنين، وأشعل بذلك موجة من التكهنات بشأن مصير قيادة السياسة النقدية في البلاد، عاد الرئيس بحلول مساء الثلاثاء ليخفف من حدة موقفه، مؤكدًا أنه "لا ينوي إقالة" باول، ومتهمًا وسائل الإعلام بـ"التهرب من الحقائق".
في الأسابيع الأخيرة أعاد ترامب النظر في فكرة إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي، مما أثار مخاوف لدى المراقبين المخضرمين من أنه قد يتخذ قرارًا أخيرًا بشأنها. بموجب القانون الفيدرالي، لا يمكن إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي إلا "لسبب وجيه"، وهو مصطلح يُفسَّر على نطاق واسع على أنه يعني سوء سلوك جسيم أو عجز عن العمل - وليس خلافًا على السياسات. لكن ترامب وبعض حلفائه أبدوا استعداداً لتحدي هذه السابقة، مجادلين بأن القانون يترك مجالًا لإعادة تفسيره من قِبَل البيت الأبيض، الذي يرغب في تجاوز الحدود القانونية. ارتفعت هذه المخاوف قبل أسبوع، بعد أن ألقى باول محاضرة في النادي الاقتصادي في شيكاغو، حيث أوضح مخاوفه بشأن السياسات الاقتصادية لترامب، وخاصة التعريفات الجمركية. ردّ ترامب سلبًا في اليوم التالي، إذ نشر على منصته الاجتماعية "تروث سوشيال" أن "إقالة باول لا يمكن أن تتم بالسرعة الكافية". ثم يوم الاثنين، وصف ترامب باول بأنه "خاسر كبير". وحذّر الرئيس من أن الاقتصاد الأميركي قد يتباطأ ما لم يُخفّض أسعار الفائدة فورًا في ظلّ التداعيات الأوسع لحربه التجارية. أدّت هذه التعليقات إلى موجة بيع في مؤشرات الأسهم الرئيسية الثلاثة، على الرغم من أن الأسواق استعادت جزءًا كبيرًا من خسائرها يوم الثلاثاء.ونقل تقرير لـ "واشنطن بوست" عن ثلاثة مصادر مطلعة قولهم إن:
التحول المفاجئ في خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الثلاثاء تجاه رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يعكس الضغوط الخاصة التي مارسها بعض كبار مستشاريه، الذين حثوا الرئيس على التراجع عن هجماته التحريضية على البنك المركزي. إن تغيير الرئيس جاء بناءً على نصيحة عدد من مسؤولي الإدارة، بمن فيهم وزير الخزانة سكوت بيسنت ووزير التجارة هوارد لوتنيك. المسؤولون جادلوا للرئيس بأن الإدارة لا تحتاج إلى مزيد من الاضطراب في الأسواق المالية نتيجةً لمعركة شاملة مع الاحتياطي الفيدرالي، وأنها تواجه بالفعل عدة معارك اقتصادية كبرى، بما في ذلك النزاعات التجارية ورسوم جمركية جديدة. إن انخفاض أسعار الأسهم جعل ترامب أكثر انفتاحاً على إبقاء باول في منصبه مما كان عليه قبل شهر.وقال ترامب يوم الثلاثاء: "أود أن أراه أكثر نشاطًا في تطبيق فكرته لخفض أسعار الفائدة.. إنه الوقت الأمثل لخفض أسعار الفائدة.. إذا لم يفعل، فهل هذه هي النهاية؟ لا، ليست كذلك، ولكنه سيكون توقيتاً مناسباً.. كان من الممكن أن يتم ذلك في وقت أبكر. لكن لا أنوي إقالته".
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، تايلور روجرز، في بيان: "لا نناقش محادثات الرئيس الخاصة، سواءً جرت أو لم تُجرَ. يمتلك الرئيس فريقًا متميزًا من المستشارين الذين يقدمون له المشورة في العديد من المواضيع، ولكن في نهاية المطاف، الرئيس هو صاحب القرار النهائي".
جاءت هذه التعليقات في الوقت الذي خفّف فيه الرئيس من حدة لهجته بشأن الحرب التجارية مع الصين. وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال يوم الثلاثاء أن الإدارة تدرس خفض الرسوم الجمركية على الصين بنسبة تتراوح بين 50 و65 بالمئة.
حساسية مفرطة
من جانبه، يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
المشهد الأخير في الأسواق العالمية يكشف عن حساسية مفرطة تجاه أي تدخل سياسي في سياسات البنوك المركزية، وخاصة عندما يصدر من شخصية بحجم الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الهجوم العنيف الذي شنه ترامب قبيل أيام على رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، ووصفه له بـ"الخاسر الكبير"، شكل صدمة للأسواق، خصوصاً بعد تهديده العلني بإقالته إن لم يتم خفض الفائدة فوراً. هذا الهجوم كان امتداداً لمواقف ترامب السابقة من الفيدرالي منذ ولايته الأولى، حين اعتبر أن رفع الفائدة يُعيق النمو الاقتصادي الأميركي. الأسواق لم تقابل هذه التصريحات بصمت، بل جاء رد الفعل فورياً وعنيفاً؛ إذ هبطت مؤشرات الأسهم الرئيسية.. كما تراجع الدولار إلى أدنى مستوياته في ثلاث سنوات، وانخفضت السندات أيضاً، في ظاهرة نادرة لانخفاض جميع الأصول بالتوازي، في حين قفز سعر الذهب كملاذ آمن وسط حالة من التوتر والقلق العام.ويبيّن سعيد أن التراجع السريع في لهجة ترامب في اليوم التالي لم يكن مصادفة، بل جاء نتيجة لردة فعل الأسواق القوية، حيث صرح بأنه لا ينوي إقالة باول، وإنما يأمل في خطوات أكثر جرأة من الفيدرالي، ما أعاد بعض الهدوء للأسواق وارتفعت الأسهم وتعافى الدولار، فيما تراجع الذهب.
ويشير إلى أن تراجع ترامب عن التصعيد يعود إلى عدة أسباب، أبرزها:
تأثير الأسواق المباشر على صورته كصانع للإنجازات الاقتصادية. بالإضافة إلى تحذيرات على الأرجح من مستشاريه الاقتصاديين مثل وزير الخزانة سكوت بيسنت ووزير التجارة هوارد لوتنيك، الذين نبهوه إلى أن المساس باستقلالية الفيدرالي قد يؤدي إلى أزمات قانونية واقتصادية. كذلك ثمة بُعد عملي في موقف ترامب، فولاية باول تنتهي في مايو 2026، أي بعد عام تقريباً، ما يجعل التهدئة أكثر حكمة من الدخول في صدام مباشر غير مضمون العواقب. تزامن هذا التراجع مع إشارات إيجابية مثل إمكانية تخفيف الرسوم الجمركية على الصين، في إطار تهدئة الأجواء الاقتصادية.ويرى سعيد أن تغير لهجة ترامب لا يعني تغير موقفه، فهو لا يزال يضغط من أجل خفض الفائدة، ولكن اختار المناورة وتخفيف النبرة لحماية الأسواق وتحقيق أهدافه الاقتصادية والسياسية بطرق أكثر مرونة.
وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن معظم محللي وول ستريت يعتقدون بأن محاولة إقالة باول قبل انتهاء ولايته لن تُمكّن الرئيس من الحصول على أسعار الفائدة المنخفضة التي يرغب بها، نظراً لعدم وجود دعم من لجنة تحديد أسعار الفائدة التابعة للبنك المركزي، والمؤلفة من 12 عضواً، لخفضها في الوقت الحالي.
ويشار إلى أن الاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة بنقطة مئوية واحدة العام الماضي بسبب انخفاض التضخم، ولم يُرِد المخاطرة بركود اقتصادي غير ضروري.
وأشار التقرير إلى أنهداخل البيت الأبيض، أخذ بعض كبار المسؤولين تأملات ترامب العلنية الأخيرة بشأن إنهاء خدمة باول على محمل الجد. ومع تصاعد انتقادات ترامب لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي خلال الأسبوع الماضي، راجع محامو البيت الأبيض بشكل خاص الخيارات القانونية لمحاولة إقالة باول، بما في ذلك ما إذا كان بإمكانهم القيام بذلك "لسبب وجيه"، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر.
تنص القوانين التي أنشأت مجلس الاحتياطي الفيدرالي على أنه لا يمكن إقالة محافظي مجلس الاحتياطي الفيدرالي قبل انتهاء فترة ولايتهم إلا لسبب وجيه ، وهو ما فسرته المحاكم عمومًا على أنه يعني سوء التصرف أو عدم اللياقة. كان من شأن إيجاد ذريعة لإقالة باول أن يدفع البيت الأبيض إلى مواجهة دراماتيكية مع البنك المركزي.
تراجع ترامب
بدوره، يوضح رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets، جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أنه:
"من الطبيعي أن نشهد تراجعاً في مواقف الرئيس ترامب، كما رأينا أخيراً في تراجعه عن تهديداته للصين. في نهاية المطاف، الجميع يعود إلى طاولة المفاوضات، خصوصاً عندما نُدرك أن هذه الرسوم الجمركية المرتفعة تفرض عبئاً كبيراً على الاقتصاد. الهجوم الذي شنه ترامب على جيروم باول كان بهدف الضغط عليه لخفض أسعار الفائدة، ما كان سيوفر دعماً إضافياً لخططه الضريبية ويُنشّط الاقتصاد الأمريكي. لكن ما رأيناه هو أن هذه الاستراتيجية ارتدت سلباً على ترامب، وانعكست بوضوح في رد فعل الأسواق. يبرز هنا دور وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت ، كلاعب أساسي في تهدئة الأجواء، نظراً لخلفيته العميقة في الأسواق المالية. في ظل تراجع الثقة بالدولار، شهدنا موجة بيع كبيرة في الأسواق المالية، وتراجع الدولار إلى أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، وهو ما شكّل ضغطاً كبيراً.ويضيف: "سياسات ترامب المتغيرة، وعدم تجاوب الأسواق معها دفعته إلى إدراك خطورة الموقف. وقد بدا أن الأمور تخرج عن السيطرة، خاصة في ظل ما اعتُبر محاولة لتقويض استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي.. ومع عدم وجود تجاوب لتعديل قانوني يُتيح له عزل جيروم باول دون موافقة مجلس الشيوخ، بقي باول البارومتر الأهم الذي يعتمد عليه ترامب في أوقات الأزمات".
ويشدد على أن موجة البيع وضعف الثقة في الولايات المتحدة وسط هذا التخبط السياسي كانت من العوامل الجوهرية وراء هذا التراجع، في حين لعب وزير الخزانة دوراً محورياً في محاولة إعادة التوازن إلى المشهد الاقتصادي".
أخبار متعلقة :