على امتداد أكثر من 600 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الباكستانية، ترقد ثروة معدنية هائلة، تكاد تمثل "الكنز النائم" الذي لم يُستغل بعد. تقديرات الخبراء تشير إلى أن قيمة هذه الموارد تتراوح بين 5 و8 تريليونات دولار، وهو ما يضع باكستان في مصاف الدول الأغنى عالميًا من حيث الاحتياطيات الطبيعية.
ومع ذلك، تبقى المفارقة أن صادراتها من المعادن لا تتجاوز 0.1% من إجمالي صادرات المعادن في العالم، ما يكشف عن فجوة واسعة بين الإمكانات والاستفادة الفعلية.
اليوم، وفي ظل اشتداد المنافسة الجيوسياسية على المعادن الحيوية، يبدو أن واشنطن وضعت عينها على هذه الثروة، معتبرة أن الاستثمار فيها جزء من معركتها الاستراتيجية لتأمين سلاسل التوريد بعيدًا عن الهيمنة الصينية.
كنوز مدفونة في قلب آسيا
من النحاس والذهب إلى الفحم والليثيوم والعناصر الأرضية النادرة، تمتلك باكستان مخزونًا استثنائيًا من الموارد الطبيعية. وبحسب التقديرات، فإنها تحتضن خامس أكبر احتياطي عالمي من النحاس والذهب، فضلًا عن ثاني أكبر احتياطي عالمي من رواسب الفحم. أما المعادن المستقبلية مثل الليثيوم والكوبالت والمعادن الأرضية النادرة، والتي تعد شريانًا أساسيًا لثورة التكنولوجيا والطاقة النظيفة، فهي حاضرة بكثافة في الأراضي الباكستانية.
لكن هذا الثراء الجيولوجي لم يتحول بعد إلى رافعة اقتصادية قوية. ففي الوقت الذي ترتفع فيه قيمة السوق العالمية للمعادن الإستراتيجية، تبقى مساهمة باكستان هامشية للغاية. وهذا ما يصفه الاقتصاديون بـ"المفارقة الباكستانية": دولة غنية بالموارد لكنها فقيرة في الاستغلال.
واشنطن على الخط: المعادن أولوية استراتيجية
الاهتمام الأميركي بالثروة الباكستانية لم يعد سرًا. فقد أكد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في تصريحات علنية اهتمام واشنطن باستكشاف المعادن والهيدروكربونات في باكستان، مشددًا على أن الأمر يتجاوز الجانب الاقتصادي ليشكل ركيزة استراتيجية في السياسة الأميركية تجاه آسيا.
هذا الاهتمام تزامن مع توقيع اتفاق تجاري بين إسلام آباد وواشنطن، يتضمن التزامات استثمارية من الجانب الأميركي. وبالنظر إلى حاجة الولايات المتحدة المتزايدة لمصادر بديلة عن الصين في المعادن النادرة، يبدو أن باكستان قد تتحول إلى ورقة جيوسياسية ثمينة في هذه المعادلة.
اقتصاد هش يبحث عن التحفيز
على الرغم من حجم الثروات الطبيعية، يبقى الاقتصاد الباكستاني في موقع هش نسبيًا. فبحسب بيانات Trading Economics، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2024 نحو 373 مليار دولار، فيما سجل حجم التبادل التجاري نحو 89 مليار دولار. أما على صعيد القوى العاملة، فباكستان تمتلك واحدة من أكبر القوى العاملة عالميًا بحوالي 83.6 مليون شخص، لتحتل المرتبة السادسة عالميًا.
ومع ذلك، يعاني الاقتصاد من معدل بطالة يبلغ 6.3 بالمئة، فيما لم يتجاوز معدل النمو في السنة المالية 2025 نسبة 2.7 بالمئة وفقًا لوكالة رويترز. هذه الأرقام تعكس مسارًا متعثرًا لاقتصاد يحتاج إلى تحفيز خارجي واستثمارات واسعة لتغيير مساره.
الصفقة التجارية مع الولايات المتحدة: بارقة أمل
في حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، أوضح وزير الدولة للشؤون المالية في باكستان بلال أزهر كياني أن الاتفاقية التجارية مع الولايات المتحدة تمثل تحولًا مهمًا لبلاده.
وقال كياني: "لقد توصلنا إلى بعض العناوين، فبعد أن كانت الرسوم الجمركية تصل إلى 29 بالمئة تم خفضها إلى 19 بالمئة، وهذه النسبة أفضل بكثير من المنافسين في جنوب آسيا مثل الهند وبنغلادش وسريلانكا. بالنسبة لنا هذا أمر جلل لأن الولايات المتحدة لا تزال أكبر وجهة لصادراتنا".
وأشار الوزير إلى أن حجم الصادرات الباكستانية إلى الولايات المتحدة بلغ 32 مليار دولار في الأعوام المالية الأخيرة، ما يجعل من أي تخفيض في الرسوم الجمركية دفعة قوية لميزان التجارة والاحتياطي النقدي.
كما أكد كياني أن الاتفاقية تتضمن التزامًا أميركيًا بزيادة الاستثمارات في باكستان، خاصة في مجالات الطاقة، المعادن، تكنولوجيا المعلومات، والعملات المشفرة. واعتبر أن هذا الالتزام يمثل "نية جيدة" يجب البناء عليها عبر حوار مستمر بين الجانبين لتحديد الفرص ذات الجدوى.
التحديات العالمية والتأثير المحلي
لا تخفى على كياني التحديات التي يواجهها الاقتصاد الباكستاني في ظل الاضطرابات التجارية العالمية. إذ قال: "مثل معظم الدول، باكستان غير محصنة من التغييرات على المستوى الاقتصادي العالمي. لكن هذه الصفقة التجارية ستؤدي إلى نمو إيجابي بالنسبة لنا فيما يتعلق بالصادرات والتحسين المستدام للاحتياطي من العملات الصعبة".
واعتبر الوزير أن الاتفاقية تساعد باكستان على تفادي بعض التداعيات السلبية للأزمات العالمية، لافتًا إلى أن تحسين الصادرات يعني تقليل الاعتماد على الديون الخارجية وتجنب الأزمات المزمنة في العملة الأجنبية.
الركائز الخمس للإصلاح الاقتصادي
استعرض كياني ما وصفه بـ"الرحلة الاقتصادية الكبرى" التي تخوضها بلاده، والتي تقوم على خمس ركائز أساسية:
تعزيز الصادرات: باعتبارها المحرك الأول للنمو والاستقرار المالي. الرقمنة: الانتقال نحو اقتصاد رقمي وتقليل الاعتماد على النقد. التكيف مع التغير المناخي: خاصة بعد الفيضانات المدمرة عام 2022، عبر مبادرات بلغت قيمتها 1.4 مليار دولار بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. إصلاح قطاع الطاقة: من خلال تطوير البنية التحتية وزيادة حصة الطاقة المتجددة. نمو الناتج المحلي: عبر خلق وظائف جديدة وزيادة مشاركة النساء في سوق العمل.وأكد الوزير أن الحكومة تسعى أيضًا إلى دفع برنامج الخصخصة وتبسيط الرسوم الجمركية، بما يضمن بيئة أكثر جذبًا للاستثمارات الأجنبية.
بين التغير المناخي والاقتصاد
من اللافت أن كياني لم يغفل الإشارة إلى البعد البيئي، مؤكدًا أن باكستان من أكثر الدول تأثرًا بالتغير المناخي رغم أنها من أقل المساهمين في الانبعاثات عالميًا. وأشار إلى أن الفيضانات التي اجتاحت البلاد منذ 2022 كشفت حجم الهشاشة أمام الظواهر المناخية المتطرفة، ما يستدعي تعزيز خطط التكيف والاستدامة.
هذا العامل يضع ضغوطًا إضافية على الحكومة، التي تجد نفسها مطالبة بتحقيق معادلة صعبة: الاستفادة من الثروة المعدنية الضخمة دون الإضرار بالبيئة، مع تعزيز الطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على الفحم.
شراكة مع الإمارات: المعرفة قوة
في جانب آخر من حديثه، استعرض الوزير الباكستاني نتائج زيارة وفد بلاده إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي جاءت في إطار مذكرة تفاهم بين البلدين.
وأوضح: "كانت زيارة مثيرة للاهتمام، التقينا خلالها العديد من الوزراء والمسؤولين الإماراتيين. تلقينا رؤى قيمة حول تقييم الأداء الحكومي والإدارة الإعلامية، ونسعى إلى الاستفادة من هذه الخبرات في تطوير آلياتنا الحكومية"، مشددًا على أن التعاون مع الإمارات لن يقتصر على الجانب الاقتصادي بل سيمتد إلى بناء القدرات المؤسسية.
باكستان بين الفرصة والتحدي
اليوم، تقف باكستان عند مفترق طرق. فمن جهة، تمتلك ثروة معدنية هائلة قد تعيد تشكيل اقتصادها وتضعها في مصاف القوى الاقتصادية العالمية. ومن جهة أخرى، تواجه تحديات داخلية وخارجية ضخمة، من الديون والتغير المناخي إلى المنافسة الجيوسياسية بين واشنطن وبكين.
الصفقة التجارية مع الولايات المتحدة قد تكون بداية لمسار جديد، لكن نجاح هذا المسار يتوقف على مدى قدرة إسلام آباد على:
جذب الاستثمارات وتحويلها إلى مشاريع ملموسة. ضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة في إدارة الموارد. المواءمة بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.بين "الكنز المدفون" في أراضيها والصفقات التجارية التي تطرق أبوابها، تبدو باكستان أمام لحظة فارقة في تاريخها الاقتصادي. فإذا ما أحسنت إدارة مواردها، فإنها قد تتحول إلى قوة معدنية عالمية قادرة على إعادة رسم موازين التجارة والطاقة والتكنولوجيا. أما إذا أخفقت في استغلال الفرص، فقد تبقى ثرواتها حبيسة الأرض، فيما تستمر أزماتها المالية والبيئية في استنزافها.
المعادلة اليوم واضحة: إما أن تتحول المعادن إلى مفتاح للنهوض، أو تبقى شاهدًا على مفارقة بلد غني بالموارد فقير في الاستفادة منها.
أخبار متعلقة :