كتب محمد الجمل:
تتواصل المعاناة الناجمة عن العدوان الإسرائيلي المستمر، وتداعيات الحصار الخانق والمجاعة المستشرية في قطاع غزة، فيما يعيش النازحون القاطنون في مخيمات خان يونس حالة من اليأس، في ظل انسداد الأفق واستمرار شح الطعام.
"الأيام" رصدت مشاهد جديدة من العدوان المتواصل على القطاع، منها مشهد يوثق تناول المواطنين معلبات طعام فاسد أو منتهي الصلاحية، ومشهد آخر يُسلّط الضوء على استمرار تزايد أعداد المفقودين داخل مراكز توزيع المساعدات الأميركية، ومشهد ثالث يكشف حالة اليأس واللامبالاة التي يعيشها سكان القطاع، والتي تدفعهم للمقامرة بأرواحهم في سبيل تحصيل بعض الطعام.
تناول معلبات فاسدة
في ذروة المجاعة، وشح المواد الغذائية، يضطر الكثير من المواطنين لتناول طعام فاسد أو معلبات منتهية الصلاحية، ما تسبب بحدوث الكثير من حالات التسمم بدرجات متفاوتة، بعضها لم يتطلب تدخلات طبية، وأخرى تطلبت إخضاع المواطنين للعلاج الطبي.
ووفق جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، فإن طواقمه نقلت مؤخراً 9 حالات تسمم بين النازحين، بينهم 4 أطفال، بعد تناول معلبات منتهية الصلاحية قرب "شارع روني" في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة.
وبينما تواصل الجهات الطبية تحذير المواطنين من تناول أطعمة فاسدة، لا يجد مواطنون مفراً من ذلك، خاصة العائلات التي كانت تُخزن معلبات من فترات طويلة، وانتهت صلاحيتها.
وقال المواطن شادي جمعة: إن والدته وبينما كانت ترتب في الخيمة وجدت 10 معلبات فول وبازيلاء، كانت العائلة تسلمتها قبل أكثر من عام ونصف العام كمساعدة، وفرح الجميع بها، كون العائلة لا تمتلك أي طعام، وقبل فتحها تفحص أحد أشقائه تاريخ الصلاحية، واكتشف أنه منتهٍ منذ 6 أشهر، رغم ذلك أصر الجميع على تناولها، وبالفعل أكلوها، وكان مذاقها قد تغيّر، وبدا على حبات الفول بعض العفن.
وأشار إلى أنهم جميعهم عانوا من مغص وإسهال استمر يوماً كاملاً، بعد ذلك تغلبت أجسامهم على المشكلة، مؤكداً أنهم لن يترددوا بتناول أي طعام يجدونه، حتى لو كان فاسداً أو منتهي الصلاحية، فمهما كانت معاناة الطعام الفاسد هي أهون بكثير من الجوع.
من جهتها، ذكرت المواطنة "أم خليل"، أنها أعدت العدس لأبنائها، وشبعوا وزادت كمية منه، ونظراً لعدم وجود ثلاجة، قامت بوضعه في طنجرة مغلقة، وغلفتها بكيس نايلون، وقامت بدفنها في الرمال، ورشّت حولها الماء، في محاولة لحفظها، وفي اليوم التالي وجدت الطعام وقد خرجت منه رائحة فساد خفيفة، رغم ذلك تناولوه، وعانوا من بعض المضاعفات البسيطة، مؤكدة أن هذا لو حدث في أوقات أخرى، لتخلصت من الطعام، ولما كانت وضعته أمام أبنائها، لكن الحاجة الشديدة تجعلها تتغاضى عن بعض الأمور.
وبينت "أم خليل" أن المجاعة غيّرت الكثير من عادات الطعام لدى المواطنين، وأجبرتهم على تناول طعام فاسد، أو معلبات منتهية الصلاحية، ومن كان لا يحب نوعاً معيناً من الطعام أصبح يتناوله، فالطعام شحيح، والمجاعة باتت شديدة.
54 مفقوداً في مراكز المساعدات
ما زال العديد من المواطنين يصلون إلى مراكز توزيع المساعدات الأميركية، ثم تُفقد آثارهم، ولا يُعرف أي شيء عن مصيرهم.
ووفق مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، فقد ارتفعت حالات الإبلاغ عن مفقودين عند مراكز توزيع المساعدات في قطاع غزة، حيث جرى تسجيل 54 مفقوداً خلال الأسابيع الماضية، لا يُعرف أي شيء عن مصيرهم.
وأكدت المؤسسة الحقوقية أن قوات الاحتلال لا تسمح بانتشال جثامين المستهدفين قرب مراكز توزيع المساعدات، ولا يُعرف عدد الجثامين الموجودة في الداخل، ولا تفاصيل عن هويات أصحابها، وقد يتم تجريف الجثامين، أو دفنها بالجرافات، ما قد يجعلها مخفية للأبد.
وشددت على عدم وجود آلية آمنة لتوزيع المساعدات، ما يتسبب حتماً برفع عدد المفقودين جراء استهداف منتظري المساعدات، مشيرة إلى أنه تم توثيق عمليات اعتقال استهدفت منتظري المساعدات، بينهم أطفال، ومؤخراً أفرج الاحتلال عن 10 أطفال من جنوب قطاع غزة، كان اعتقلهم من المراكز المذكورة، وجرى نقلهم إلى مجمع ناصر الطبي، وقد روى الأطفال شهادات صادمة عن تعرضهم لتعذيب وحشي في سجون الاحتلال.
وقال الطفل عمر عصفور، أحد الأطفال المفرج عنهم: إنهم تعرضوا لأبشع وأقسى عمليات التعذيب، باستخدام أجهزة صعق كهربائية، إضافة إلى تعرضهم للضرب طوال اليوم، باستخدام هراوات.
بدوره، أكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أن الشركة الأميركية الإسرائيلية لتوزيع "المساعدات" لا تؤدي دوراً إنسانياً محايداً، بل تعمل ضمن أجندة سياسية خبيثة تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الإنساني والاجتماعي في قطاع غزة تحت عنوان "المساعدات"، وتقوم هذه الشركة بتوزيع المساعدات بصورة انتقائية، غير شفافة، وبآليات خارجة عن التنسيق مع المؤسسات الرسمية أو الشركاء المحليين، وبصورة مخالفة للمبادئ العامة للعمل الإنساني، وهي: الإنسانية، والحياد، والاستقلالية، وعدم التحيز، ما يؤدي إلى خلق بؤر من الاحتقان المجتمعي، وإثارة الصراعات داخل صفوف المتضررين، وتعميق الشعور بالتمييز والغبن، وهذا السلوك يُعزز من حالة الفوضى الداخلية، ويستخدم الغذاء كسلاح للضغط والابتزاز بما يخدم الرؤية "الأميركية - الإسرائيلية".
اليأس يخلق حالة لا مبالاة
رغم عدد الشهداء والجرحى الكبير الذين يسقطون يومياً عند نقاط انتظار المساعدات، أو داخل مراكز المساعدات الأميركية، إلا أن هذا لم يمنع عشرات الآلاف من التوجه يومياً إلى تلك النقاط، في محاولة للحصول على الطعام.
وبات واضحاً أن المجوّعين لا يبالون بالخطر، ولا يخشون على أرواحهم، وكل همهم الحصول على القليل من الطعام، حتى لو كان هذا في قلب الخطر.
وأشار المواطن عبد الله مهدي إلى أنه بات بين خيارين كلاهما مُر، إما الموت جوعاً في حال بقي في خيمته، أو الموت بالرصاص في حال توجه إلى مراكز توزيع المساعدات، أو نقاط انتظار وصول الشاحنات، وقد اختار الثاني رغم الخطر الكبير.
وأكد أن اليأس دفعه للمجازفة، فلم يعد هناك شيء يخسره، ويعتقد أن في الموت راحة لذلك توجه إلى "مفترق موراغ"، ومكث هناك ساعتين، تعرض خلالهما، برفقة باقي المواطنين، لإطلاق نار كثيف من دبابات ومُسيّرات الاحتلال، وقد نجا من الموت، واستطاع الحصول على صندوق مساعدات صغير، ووفر الطعام لعائلته لمدة يومين على الأقل، وينوي تكرار الأمر كلما احتاجت أسرته الأكل.
ولفت مهدي إلى أنه لم يعد يبالي، إذ فقد منزله، وسيارته، وعمله، ويعيش في خيمة مذلولاً مقهوراً، وينهش الجوع أفراد أسرته، لذلك لا يعتقد أن الموت سيكون شيئاً يمكن أن يخشاه في ظل كل هذه الويلات التي يعيشها، لذلك لن يتردد في التوجه إلى أي مكان، حتى يجلب لأفراد عائلته الطعام، حتى لو كان ذلك في قلب مدينة رفح، التي تخضع للاحتلال والحصار من جميع الجهات.
وأوضح أنه يرى اليأس والإحباط في وجوه كل من يتوجه إلى "مفترق موراغ"، وحين يتم إطلاق النار من الدبابات أو المُسيّرات، فإن البعض لا يكلف نفسه حتى الارتماء أرضاً لتلافي الرصاص، ويظل المواطنون واقفين دون خوف أو قلق.
ونشرت وسائل إعلام عبرية مؤخراً صورة لمواطنين من طالبي المساعدات يلتصقون بدبابة إسرائيلية من المسافة صفر أسفل جسر وادي غزة، وسط قطاع غزة.
وعلّقت بعض الصحف العبرية على الصورة، قائلة: "فلسطينيون يلتصقون بمدفع الدبابة دون الخشية على أرواحهم في سبيل الحصول على الطعام، رغم أن معدل تعرضهم للخطر وقتلهم مرتفع جداً... لا يُفسر هذا بأنه شجاعة بقدر ما هو يأس واحتياج للطعام، الذي أصبح يعادل الحصول عليه الأرواح".
0 تعليق