عملت الدراسات الاستشراقية على ترسيخ سياسة تفكيك الدولة العربية، ولم تكن كتابات برنارد لويس ومدرسته الفكرية سوى حلقة في سلسلة طويلة من الخطاب الاستشراقي الذي حوَّل «الدولة العربية» إلى نموذج هشّ، غير قادر على التوافق -حسب زعمهم- مع مفاهيم الحداثة والديمقراطية. فلويس، الذي وصفه المؤرخ الأمريكي جول بنين بأنه «أكثر المناصرين للصهيونية بلاغةً في الأوساط الأكاديمية»، لم يكتفِ بنقد تشكُّل الدول العربية، بل ساهم في تقديم إطار نظري يُبرر التدخل الغربي ويدعم الرواية الإسرائيلية التي تصوِّر المنطقة على أنها «فوضى عرقية ودينية» تحتاج إلى وصاية خارجية.
هذا الخطاب لم يقتصر على الأكاديميا، بل امتد إلى مراكز صنع القرار. فكما أشاد نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بـ«حكمة لويس»، كانت توصياته حول «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» تُترجم إلى سياسات فعلية، بدءًا من دعم الأنظمة التابعة وصولًا إلى تبرير الاحتلالات. وهنا تكمن المفارقة: فبينما تُصوَّر الدولة العربية على أنها كيان مصطنع، تُقدَّم إسرائيل -على الرغم من طابعها الاستيطاني- كدولة «طبيعية» و«شرعية» في المنطقة!
صراع الوجود وليس الحدود
إننا أمام صراع أبعد بكثير من صراع الحدود والتهجير؛ فالعالم العربي يواجه صراعًا على الوجود وليس على الجغرافيا فقط. إن الصراع بين إسرائيل والدول العربية ليس مجرد نزاع على الأرض، بل هو صراع بين سرديتين: واحدة تسعى إلى تثبيت شرعية كيان استعماري، وأخرى تحاول الدفاع عن وجودها وهويتها. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن للعالم العربي أن ينتج سرديته الخاصة، بعيدًا عن التأطير الاستشراقي، أم أن الغرب -بآلياته الثقافية والسياسية- سيظلّ الطرف الأقوى في حرب الروايات هذه؟
الجواب قد يكمن في مدى قدرة النخب العربية والإعلام والمؤسسات الحكومية والجامعات على توحيد الخطاب السياسي والثقافي، واستعادة المبادرة في تعريف الذات قبل أن يفرض الآخر تعريفاته عليها. فالدولة العربية، بكل تعقيداتها، ليست مجرد «فكرة استعمارية» كما يُروَّج، بل هي إرث تاريخي واجتماعي يستحق الدفاع عنه، ليس بالخطاب الشعبوي، بل بالمشاريع الواقعية التي تعيد الاعتبار لسيادة الدولة ومفهومها، بعيدًا عن السردية الصهيونية.
أخبار ذات صلة
0 تعليق