تقول الدكتورة عائشة الحكمي في كتابها «السيرة الذاتية عند أدباء المملكة العربية السعودية»: لا أحد ينكر أهمية الالتزام بالترتيب الزمني وأثره على تطور الشخصية، ولكنني أرى أن الصراع في السيرة الذاتية لا يحتاج أن يكون متواتراً مع الزمن أو الأيام، يهمنا في السيرة الذاتية فاعليتها في حياة الأديب ونقلها إلى القارئ. انتهى كلام الدكتورة عائشة.
هنا نلاحظ أن بخيت طالع قسم كتابه إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول: مرحلة الطفولة والشباب. الباب الثاني: تجربتي التعليمية. الباب الثالث: تجربتي الصحفية
رتب بخيت طالع الباب الأول زمنياً، بداية كان يكبر شيئاً فشيئاً وكنت أكبر معه، هو بدأ استهلاله من مدائن الفهد، أما أنا فبدأت معه من الأطاولة منذ التحق بالمدرسة الابتدائية ثم المتوسطة ثم بدأ يحلم ويحلم، كنت أشاركه أحلامه وخيالاته.. يقول آينشتاين لزائرة اصطحبت طفلها إليه وقالت أريد أن يصبح ابني ذكياً، قال دعيه يقرأ كتباً خيالية،
أرادت أن تؤكد طلبها وقالت: أريده أن يصبح ذكياً جداً مثلك يا آينشتاين، أجاب: إذن حفزيه على قراءة المزيد من الكتب الخيالية..
بخيت طالع لم يكن يحتاج كتباً خيالية ليحلم ويتخيل، هو مباشرة بدأ في الأحلام. بخيت تلك الأيام التي انطلقت فيها أحلامه كان فتى ربما لا يتجاوز عمره العاشرة إلا بقليل.. هو نموذج للكثير من فتيان الأطاولة بل أغلب فتيان ديرته ومنطقته، نستطيع أن نسقط عليهم نفس القراءة.
طارد بخيت حلمه كثيراً وكانت اللحظة المفصلية في مطاردة الحلم عندما ارتقى علو سيارة لوري.. متوجهاً إلى جدة، دعوني أتوقف قليلاً هنا.. فتى في الخامسة عشرة من عمره يرتقي سطح اللوري،
يغادر بلدته ويودع أسرته إلى بلدة تبعد أكثر من 400 كم.. في زمننا كان يصل الفتى إلى الرجولة سريعاً، ولكن ليس أسرع من الآباء والأجداد. ولكنه حتماً أكثر سرعة من الفتيان المعاصرين.
مع المضي في القراءة رأيت أن بخيتاً لم يهتم بالتسلسل الزمني، لا بأس.. نعود إلى مقولة د. عائشة الحكمي عندما قالت يهمنا في السيرة فاعليتها، وقد كانت سيرة بخيت فاعلة، كانت عبارة عن حكايات ممتعة وشيقة ولو تناولها باحث متأمل ليس من الصعب عليه أن يجد لها ترتيباً مناسباً للزمن..
سيرة مثل العصفور الحافي ستزيد الاهتمام بها مع تواتر الأجيال، بعد قرن من الزمان سيأتي شاب يبحث في الأنساب أو في تاريخ الأطاولة أو يبحث في امتداده، وسيجد تاريخاً ثرياً.. وسيعلم أن طباعة أول نسخة من الكتاب كانت عام 2025 ويبدأ يقيس على ذلك.. بعد 100 عام لن يهتم الجيل بالتاريخ بالضبط، يكفي أن يقول كان في عهد الأجداد أو يقول في بداية الألفية الثالثة. وفي الكتاب كثير من الاستدلالات على الزمن، فالمؤلف يسجل تاريخ الوقائع والأحداث والرحلات والجوائز التي حصل عليها والأنشطة التي شارك فيها. لذا ليس من الصعب على باحث جاد أن يوثق تلك الأحداث مع الزمن الذي حدثت فيه.. المتأمل في السيرة الذاتية يجدها تأخذ أكثر من زمن، الزمن الذي كتبت فيه والزمن الذي حدثت فيه، السيرة الذاتية ليست خبراً صحفياً تتم كتابته في نفس اللحظة، بل قد يكون بين الكتابة والحادثة زمن طويل.. دعونا نلقِ النظرة على أحد المواقف: الموقف الطريف مع المهندس محمد سعيد فارسي أشهر أمين مر على مدينة جدة، والحكاية باختصار أن بخيت تم تكليفه لتغطية النفق المجاور لمبنى السلام ثم أخذ تصريحاً من أمين مدينة جدة الفارسي، الحسّ الصحفي لدى بخيت طالع جعله يغير الترتيب ويذهب أولاً إلى الأمين ومن ثم إلى النفق، لم يجد الأمين ووجد مكتبه مفتوحاً، ومكتب الأمين مكتب فاخر أمنية كل شاب، كان بخيت حينئذ في أوج شبابه فجلس على المكتب مكان الفارسي وطلب من المصور أن يلتقط له بعضاً من الصور. في هذه الأثناء دخل الفارسي بكل هيبته ووقاره.. ولكم أن تتخيلوا الموقف وخاصة الإحراج الذي تعرض له الصحفي الشاب.. ولكن المهندس الفارسي كان مهذباً وخلوقاً وقرأ جيداً نوايا بخيت الطيبة لذا تعامل معه بكل أخلاق بل ورافقهم إلى نفق السلام.. هذه الحكاية مرت بزمنين الزمن الأول حين وقوعها والزمن الثاني حين كتابتها وثمة زمن ثالث وهو يخص المتلقي حين يقرأها.. قد تتم قراءتها بعد قرن من الزمن، هنا سيتنبه القارئ إلى الوقار الذي صاحب هاتين الشخصيتين الفارسي ومناع.. وقد يكون الأسلوب أو الصياغة للحكاية مدعاة للبحث والتساؤل؛ من هو محمد سعيد فارسي ومن هو عبدالله مناع. طبعاً الاثنان معروفان لدينا وقد انتقلا إلى رحمة الله، غفر الله لهما، الأول كانت وفاته عام 2019 والثاني توفاه الله عام 2021، ونسأل الله أن يغفر لهما ويسكنهما فسيح جنانه..
وحول التسلسل الزمني فالشيء الطبيعي أن الباب الثاني والباب الثالث سيكون بينهما مداخلات كثيرة، فالمؤلف كان يعمل صحفياً متعاوناً أثناء عمله معلماً، والمهنة الأولى هواية أكثر منها حرفة، ولو كانت تدر دخلاً جيداً عليه لامتهنها وترك التعليم، ولكن الصحافة أو مهنة المتاعب يتجه إليها الكثير لما يجدونه من شغف داخلهم تجاهها، الصحافة أتاحت للصحفي أن يلتقي بشخصيات شهيرة وكبيرة ما كان ذلك سيحدث لولاها، مثال على ذلك غازي القصيبي رحمه الله.. وغيره الكثير من الوزراء والأمراء والمسؤولين.. نعود للتوثيق فالعصفور الحافي وثق دكان بن مسمار الذي لم يعد اليوم موجوداً على الواقع، ومن خلال طرح ذلك الموقف فقد وثق التقاء أهل القرية في الدكان ليس لأجل الشراء بل للمؤانسة، وكانت كثير من دكاكين القرى على نفس تلك الحال، يتجمع فيها الأهالي وقد تكون موقعاً مناسباً لتواصلهم وتبادل الأحاديث في ما بينهم وتبادل الأخبار في ما بينهم واتخاذ قراراتهم الجماعية..
أيضاً وثّق الكتاب للراديو، وذكر تحديداً إذاعة لندن، ووثّق كيف كان الراديو هو القناة الوحيدة التي يعرف من خلالها طالب السنة الأخيرة هل نجح أم لا! الراديو كان يذيع أسماء الناجحين، وربما الكثير منا يعلم أن جميع الاختبارات في المرحلة الأخيرة كانت تذهب للتصحيح في منطقة مركزية سواء الرياض أو الطائف... إلخ، تسافر الإجابات، وبعد ظهور النتائج يرسلونها للإذاعات أو الصحف، كانت فقرة تسبب توتراً للأهالي وجذباً للبقية فيتحلق المستمعون لتحري أسماء الناجحين، ويتضمن أسماء الراسبين فكل من لم يظهر اسمه حتماً لم يجتز الاختبار. كانت تلك اللحظات تمثل استنفاراً كبيراً للأهالي، ومن قرأ العصفور الحافي لاحظ ردّ فعل الأم والجد، الأم التي تريد أن تعبر عن فرحتها بأغلى ما تملك وهي إحدى شياهها، وزادت الفرحة بحضور الشاعر والشعر، هكذا تم توثيق حدث قرأناه في كتاب العصفور الحافي، ويعتبر نموذجاً لأحداث أخرى حدثت في أماكن قريبة من ذلك المكان.
الزمان والمكان متلاصقان، ما يذكر الزمان إلا ويذكر المكان فعندما وثق بخيت طالع حفلة زفافه، في نفس الوقت وثق مئات بل آلاف الحفلات للشباب في تلك البلدة وذلك الزمن.. وقد أحسن المؤلف وهو يذكر حفلة الزواج بالتفصيل، والطريقة التي وصلت بها العروس، والسيارات وأبواقها التي تتحول إلى موسيقى.. وموعد وصول العروس وموعد العشاء.. يقول المؤلف إن انتقال حفلات الزفاف إلى قصور الأفراح بدأت بعد ثلاث سنوات من زواجه، فقد كان زواجه عام 1406هـ، القصور بعد ثلاث سنين بعد ذلك التاريخ بدأت على نطاق ضيق جداً وكان عدد القصور في منطقتنا محدوداً وكثير من الأهالي ليس مقتنعاً بها وبعضهم يخشى من تكاليفها ولكنها بدأت في الانتشار بشكل واسع من بعد سبع أو ثماني سنوات من حفلة بخيت.
السيرة أيضاً وثقت للمزارع، والعصفور الحافي وثق تحديداً (قطعة علي) وكل بيت ذلك الحين كانت لديه قطعة علي ولكن بمسمى آخر، وقطعة علي هي إحدى مزارع أسرة المؤلف.. ولكن لها مكانة تميزها عن بقية البلاد أو المزارع إما بمساحتها الكبيرة أو لنقاء تربتها أو لأن في طرفها بئراً أو لأنها تنتج أكثر من بقية البلاد.
أخبار ذات صلة
0 تعليق