الكويت الاخباري

أسعار الفائدة بين خطر الركود وتزايد التضخم - الكويت الاخباري

د. جاسم المناعي*

أمام هذه المعضلة المتمثلة في احتمالات من الركود الاقتصادي من ناحية وارتفاع الأسعار وعودة التضخم من ناحية أخرى، فإن السلطات النقدية تكون في وضع لا تحسد عليه
بطبيعة الحال ومن البداية ينبغي أن نفهم ونتفهم موقف الاحتياطي الفيدرالي، أي البنك المركزي الأمريكي وتردده حتى الآن في خفض سعر الفائدة، على الرغم من التخوف المتزايد الذي يسود الأسواق حول إمكانية اتجاه الاقتصاد الأمريكي إلى حالة من الركود. إن الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأمريكي برفع الرسوم الجمركية على صادرات دول العالم إلى أمريكا لها بالطبع تداعيات عديدة إن لم تكن هائلة أيضاً، حيث إن مثل هذه الإجراءات لا تقتصر أبعادها فقط على الحد من منافسة البضائع الأجنبية للبضائع الأمريكية، بل إن الأمر في الواقع أبعد من ذلك. وكما نشهد حالياً على صعيد دول العالم الشعور بالتخوف من تأثر الأوضاع الاقتصادية، حيث بدأنا نعيش حالة من الهلع تسود الأسواق المالية العالمية، بما فيها أسواق أمريكا نفسها. فالبورصات العالمية فقدت خلال بضعة أيام فقط تريليونات من الدولارات وهو تعبير قاسٍ جداً ومكلّف في نفس الوقت حول ما يمكن أن تؤول إليه الأمور من وراء هذه الإجراءات. صحيح أن الأسواق مؤخراً استعادت بعضاً من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، وذلك في ضوء تأجيل فرض الرسوم على بعض الدول لمدة 90 يوماً، إلا أن الثقة لم تعد تماماً للأسواق، حيث يمكن أن تشهد تقلبات أخرى من جديد. إن فرض الرسوم الجمركية على بضائع دول العالم من شأنه الإضرار باقتصادات هذه الدول من خلال تعطيل عمل مصانعها وخدماتها، وبالتالي فقدان مواطنيها عدداً مهماً من الوظائف وفرص العمل. وكردة فعل لمثل هذه الإجراءات، فإن هذه الدول المعنية لا بد أن تتخذ في المقابل إجراءات مثيلة تجاه البضائع الأمريكية، وهذا ما فعله الاتحاد الأوروبي حديثاً، وإن تم تأجيله مؤقتاً أيضاً. وغني عن القول إن مثل هذه الإجراءات من شأنها أن تجر العالم إلى حروب تجارية لا يسلم منها أحد. إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه الإجراءات تتنافى مع قواعد وقوانين حرية التجارة المتفق عليها من قبل جميع دول العالم الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بما فيها أمريكا. لا ننسى أيضاً أن رفع الرسوم الجمركية هو بمثابة ضريبة إضافية على البضائع والسلع، وبالتالي تنعكس هذه الضرائب في شكل ارتفاع جديد في الأسعار والذي يؤدي في المحصلة إلى زيادة معدلات التضخم. وهذا لا يقتصر فقط على وضع ومعيشة المستهلك الفرد، بل ينسحب ذلك أيضاً على زيادة تكاليف الإنتاج مما قد لا تتمكن معه بعض القطاعات والمؤسسات من الاستمرار في العمل، وبالتالي الاضطرار إلى تسريح الموظفين والعمال والذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع مستويات البطالة، والمحصلة في مثل هذه الأحوال أن الاقتصادات لا تعمل بكامل طاقتها، ولا تصل إلى تحقيق النمو الاقتصادي المنشود، بل على العكس من ذلك، حيث يمكن أن تواجه بحالات من الركود والانكماش الاقتصادي.
وأمام هذه المعضلة المتمثلة في احتمالات من الركود الاقتصادي من ناحية، وارتفاع الأسعار وعودة التضخم من ناحية أخرى، فإن السلطات النقدية تكون في هذه الحالة في وضع لا تحسد عليه، حيث إن تحديد أسعار الفائدة في مثل هذه الظروف تبدو عملية غاية في الصعوبة، حيث تكون الأمور في العادة، إما حالة تضخم نتيجة لسخونة الاقتصاد، أي الحالة التي يشهد فيها الاقتصاد نشاطاً محموماً وفى مثل هذه الحالة تلجأ السلطات النقدية إلى رفع أسعار الفائدة للحد من مخاطر التضخم وارتفاعات الأسعار، من خلال تخفيف وتيرة النشاط الاقتصادي، وعلى العكس من ذلك عندما تكون حالة الاقتصاد تتصف بالضعف متزامنة مع معدلات تضخم متدنية، حيث يستلزم ذلك من السلطات النقدية في هذه الحالة التدخل من خلال خفض أسعار الفائدة بهدف تنشيط الاقتصاد عن طريق خفض التكاليف المالية للعمليات الإنتاجية.
في مثل هاتين الحالتين، فإن قرار السلطات النقدية يكون واضحاً ومتفقاً عليه دون كثير من الجدل أو التساؤل. لكننا قد نواجه حالة مختلفة، وتعرف في علم الاقتصاد بحالة الركود التضخمي، والتي يتزامن فيها وجود خطر ركود محتمل مع مؤشرات متزايدة للتضخم. ومثل هذه الحالة تضع السلطات النقدية في وضع محير إلى حد كبير. فمن ناحية، فإن محاولة معالجة احتمالات الركود من خلال خفض سعر الفائدة يكون محفوفاً بالمخاطر بسبب تزايد مؤشرات التضخم التي تقتضي في العادة رفع سعر الفائدة.
إن الأمر حقاً محير بالنسبة للسلطات النقدية التي سوف تكون قراراتها في مثل هذه الأوضاع مشوبة بالحذر الشديد، حيث إن تحقيق أحد أهدافها في تنشيط الاقتصاد أو مكافحة التضخم، لا ينبغي أن يكون على حساب الهدف الآخر.
وضمن الظروف الحالية، فالاحتمال أن تعطي السلطات النقدية الأولوية لتحفيز الاقتصاد من خلال خفض أسعار الفائدة المتدرج، خاصة إذا بقيت معدلات التضخم تحت السيطرة وضمن الحدود المقبولة. لكن بكل تأكيد، فإن مهمة السلطات النقدية لن تكون سهلة، كما أنها تحتاج إلى ضمان استقلالية قرار البنوك المركزية والتي عادة وفى مثل هذه الظروف تتعرض لضغوط سياسية تؤدي في بعض الحالات إلى اتخاذ قرارات قد لا تكون الأنسب لمعالجة الأوضاع السائدة. هل تنجح السلطات النقدية في مقاومة هذه الضغوط والإبقاء على استقلالية قراراتها في التعامل مع ما يشهده الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي؟ هذا ما سوف يتضح خلال الفترة القصيرة المقبلة.

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

أخبار متعلقة :