كتبت بديعة زيدان:
"أعترف أنني مارستُ العنف والظلم في السابق، لكني لم أكن أعي أفعالي، وأفكاري كانت هُلاماً، سراباً، أو لا شيء، صفحة بيضاء ناصعة عصيّة على أي قلم.. ذات يوم وخزتُ صبيّاً في المدرسة بالقلم ثلاث وخزات فأدميته، كان ينتفضُ أمامي ولم أجفل.. كنتُ مُغيّباً فيما كان يبكي، هدّدتُه إن صرخ سأقتله، ظلّت دموعه تنهمر ولم يُصدر صوتاً.. بعد أسبوعين، أصبح تابعاً لنا.. هكذا علمني فهد، كنت أحبه وأخافه، وأفعل كل ما يقوله من غير تفكير، وما كنتُ أتعاطاه عطّل عقلي".
هذه العبارات على لسان "عبد العزيز"، الشخصية المحورية والراوي في "بظلٍ كبير" للروائية الإماراتية عفراء محمود، والصادرة روايتها عن منشورات المتوسط في إيطاليا.
يتحدث هنا "عبد العزيز" عن اضطهاده لغيره، في محاكاة لما تعرض له من اضطهاد على يد "فهد"، الذي فرض سطوته عليه، وحولّه تابعاً له، وكأنه يُسيّره بآلة التحكم عن بعد (الريموت كونترول)، بعد أن تعرض للضرب على يد عصابة من طلاب المدرسة بقيادة ذلك "الفهد".
عاش "عبد العزيز" الكثير من الخوف والقلق، بسبب سلبيته، وعدم قدرته على مقاومة شراسة العصابة، التي جعلت منه مُدمناً كما صديقه "خالد"، للتخلص من تلك السطوة لـ"فهد"، الذي يُتاجر وعائلته في المخدرات، ويُحوّل من يقعون تحت سيطرته إلى مروّجين لمخدراته وعائلته بأنواعها المختلفة.
"فهد"، الذي كان دائم الشكوى من انشغال والدته عنه حدّ الإهمال، وعدم اكتشاف إدمانه إلا بعد سنوات حين سرق مجوهراتها، يقرر الانتحار برفقة "خالد" الذي كان يكتب الشعر، غرقاً في البحر، وينفذان بالفعل، لكنه يجد من ينقذه، في حين يلقى صديقه حتفه، بينما يُقتل "فهد" لخلافات مع واحد من عصابته اليافعة المنشغلة في توزيع المخدرات.
وتشكل تلك الحادثة نقطة تحوّل في حياته، فيتوجه إلى الشرطة، مستثمراً مادة قانونية تعفيه من أي عقوبة حال اعترف بذنبه وقرّر التعافي، فيُودع في مركز لإعادة التأهيل.
لم تكن ظروف علاجه سهلة، لذا أخذت يوميّات التعافي مساحة ليست بسيطة في السرد.. "وحيداً على السرير أنتظر، أنتظر ماذا؟ أن يجنّ جنون جسدي.. كنتُ أعرف ما يمكن أن أواجهه قريباً، لكني لم أكن متأكداً من قدرتي على التحمّل.. التحمّل كلمة سهلة لا تعني شيئاً أمام ما واجهته. شيء ما ينتزعك من جسدك انتزاعاً، كشاة يُسلخ جلدها.. انسحاب الترابطات داخل الخلايا، تمزّق، تمزّق، تمزّق، صوت قطعة ثوب تشدّ طرفيه بيديك والمسافة في منتصفه تزداد أثناء تمزّقه، خيوط متطايرة، وأخرى تخرج من قطعة الثوب، وتبقى معلقة عليه.. هكذا كنتُ، سيلان أنفي لا يتوقّف.. مطارق حديديّة تنهار على رأسي.. أراهم جميعاً يتراقصون أمام عينيّ".
وما بعد التعافي، ثمة عودة إلى البدايات، حيث الانقياد الأعمى كظلٍ كبير لا يُرى أو لا يرى نفسه، ينفّذ الأوامر فحسب، ينجح في المهام الموكلة إليه من "فهد"، فيسرق مسلحاً بسكين، ثم يمزق عجلات مركبة معلمة اللغة الإنكليزية بمسامير يلقيها أمامها، بل إن أحد التلاميذ في مرّة صوره وهو يسرق، وأعطى "الفيديو" إلى "فهد" الذي هدده، بل صوّر له "فيديو" آخر يعترف فيه أنه السارق!
"عبد العزيز" الذي يحمل لقب "عام 2000" قبل التعافي، يحدثنا عن فترة التعاطي أيضاً.. "وبدأتُ أسرق من أمّي، أبيع أشياءها في المخزن، وأنا متأكد أنها نسيتها، أدوات طبخ، وأدوات صيانة قديمة لجدي، وكل شيء له قيمة ولو قليلة بعته، وفي كل مرّة كانت أمي تطرد خادمة وتأتي بأخرى.. خالد كان مثلي، كنّا نداري بعضنا.. ثلاث سنوات مرّت على تخبّطنا، وأبداً لم تتكرّر نشوة المرّة الأولى مهما زدت الكميّة.. بعد فترة جاءنا فهد بالكوكايين، وكانت متعة أخرى نضيع فيها.. في المرة الأولى، بدأت الأشياء تتمدّد أمامي، كل شيء أصبح أكثر ضخامة.. المروحة تتحرك بسرعة كبيرة، وتتهاوى نحونا.. أحاول الهرب منها، أنهض، أسقط.. خالد يضحك بصوتٍ عالٍ جداً.. ضحكه يثقب أذني وعقلي.. الهواء يتبدّد.. أدور مع المروحة، أسقط مجدداً، أغيب".
ومع ذلك لا يغادر "عبد العزيز" البيت، لكونه بات متعلقاً بالخادمة "سلامة"، في وقت لا يطيق فيه والدته كثيرة الصياح، التي لم تكن تراه، حتى وهو يكبر، لعله لذلك كان ظلّاً كبيراً، أو داخل ظلٍ كبيرٍ يحجبه عن المحيطين من غير دائرة المنحرفين، التي بات أحدهم قبل أن ينجو، ويصبح "مختلفاً الآن"، ولا يحب إيذاء أحد على إزعاجه، ويسعى جاهداً بعد تعافيه، وتركه لوالدته ومنزل العائلة، أن يغادر ماضيه، ولا يسمح له أن يسكنه، أو يتملكه، أو حتى يتقرّب منه، ليكون نموذجاً ملهماً يساعد الآخرين على التعافي.
وتعتبر رواية "بظلٍ كبير" تربوية، وتحذيرية في الوقت ذاته، تشكل جرعة سردية تقرع جرس الإنذار أمام الأهل أولاً، والمعلمات والمعلمين والمسؤولين في المدرسة، والمجتمع برمته، في مواجهة ذلك العالم الفوضوي المرعب، حيث تكون الجريمة، بما فيها القتل، حدثاً مألوفاً، تحت وطأة تعاطي المخدرات.
0 تعليق