"حالة ذاتية".. استكشاف الواقع الفلسطيني في أعمال جوانيّة عابرة للأزمنة والتأويلات! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

 

كتب يوسف الشايب:

 

في اثني عشر عملاً فنيّاً، شكلت بمجموعها معرض "حالة ذاتية"، وانتظم في مقر المعهد الثقافي الألماني الفرنسي بمدينة رام الله، مؤخراً، نقف أمام بانوراما تجاوزت الزمكان الفلسطيني، ولم تتجاوزه في آن، مُشكّلة إطلالة على واقعنا، عبر سبر الأغوار عميقاً في دواخل التكوينات الفنيّة متعددة الرؤى والأشكال والمدارس، وبالتالي في الجانب الجوّاني لصنّاعها من فنانات وفنانين، والذين هم بتآلفهم وتآلف أعمالهم، يقدّمون مساحة لفهم الواقع، اتكاءً على ما حدث ويحدث، لجهة قراءة المستقبل، بعيداً عن فناجيلهم وأكفّهم وتحليل خطوطهم.
والمعرض، الذي هو جزء من مشروع "مِشكال"، الممول من الاتحاد الأوروبي، وينفذه معهد غوته الألماني بالشراكة مع المركز الثقافي البريطاني، جاء نتيجة برنامج الإقامات الفنية، الذي يهدف إلى توفير منصة للتجريب والإبداع، وتقديم أعمال جديدة تُحدث مفاعيلها لدى متلقيها في فلسطين وخارجها.
في المعرض لا بد أن تقع عينا المتجوّل على مجموعة من الملابس المعلقة المستوحاة من الزي التقليدي الفلسطيني، ومع مزيد من الاقتراب سرعان ما يتكشف أنه عملٌ للفنان أحمد طويل، لا يبتعد عن مفهوم الهوية، والتفرد حتى في الفنون الجمعية، كحال التطريز الذي يشير إلى أصوله الفرعونية، وتقاطعاته مع كونه جزءاً من تكوين الهوية الثقافية للشعب الأصلاني في فلسطين، مع تكويناته في ثقافات أخرى متوسطية وآسيوية وجنوب أميركية، وغيرها، وإن تميز التطريز الفلسطيني بألوانه وزخارفه التي ابتدعتها فلسطينيات مجهولات منذ قرون.
وعبر إنتاج أعمال فنية بالألوان المائية لنباتات من الطبيعة الفلسطينية، كشقائق النعمان، ويعرف أيضاً بـ"الدحنون" أو "الحنون"، والسوسنة السوداء، والزعفران الفلسطيني، تسلط الفنانة أشواق حامد الضوء على تجسيد صورة المرأة مجتمعياً، في محاولة فنيّة لمقاومة "الظلم الذي عادة ما يختبئ في العرف، خلف الصمت، وفي القبول دون جدال"، لتناقش عبر أربع مجموعات من اللوحات قضية الميراث ما بين الذكور والإناث.
وفي عملها "شجرة الحياة"، الذي هو آخر منتجات مشروعها الفني "أرض الرموز"، تذهب بنا الفنانة بشرى عباسي إلى "الغزال" الحيوان الوطني الفلسطيني، وفسيفساء "شجرة الحياة" من قصر هشام في أريحا، في تركيب يضم ثلاثة مقاعد خشبية مصنوعة يدوياً، ومطرزة بجزء من مشهد "شجرة الحياة" مُنجدة بجلد البقر المحلي، وإلى جانبها خزانة نقش عليها من الداخل الشجرة الأيقونية من الفسيفسائية الشهيرة، فيما صُمّمت مقابضها على شكل غزلان، في محاكاة للهوية والتراث في آن، عبر محاكاة رموز "الهيروغليفية الفلسطينية".
ومشروع الفنانة دعاء أبو سعدة عبارة عن كتيب فني للبلاط التقليدي في القدس، والذي يتحوّل هنا إلى أداة لسرد التاريخ الجمعي ومن قبله الشخصي لمنازل الفلسطينيين، ما تبقى منها، وما صودر، دون إغلاق القصص المصاحبة للبلاط، والكاشفة لتفاصيل الحيوات اليومية لأصحاب البيوت الأصلانيين، والأحداث التاريخية التي شَهِدتها، ما يجعل البلاط شاهداً بصرياً على التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية على مدار العقود.
توقفتُ طويلاً أمام عمل الفنانة ريما الطويل، الذي تعيد فيه إحياء مشاهد من "انتفاضة الحجارة" الفلسطينية، التي اندلعت في العام 1987، عبر تخليق تماثيل صغيرة توثق لمشاهد أيقونية من حالة لم تتكرر من فصول المقاومة الشعبية الفلسطينية، تبدو كفعل مقاوم "للجنود البلاستيك" التي يلهو بها الأطفال، والذين يلهون بهم، حتى لو كانت قبّعاتهم، وشيء من تكوينهم، يتقاطع مع قاتلي قاذفي الحجارة، أو مضطهديهم، في توثيق بصري مغاير لتلك التي كانت صوراً فوتوغرافية أيقونية، كصورة الطفل رمزي أبو رضوان قاذفاً للحجارة، والناجي ربّما كان الوحيد من بين رفاقه، قبل أن تحمل اليد ذاتها آلة موسيقية، لمن بات "الكمنجاتي" الفلسطيني ذا الشهرة العالمية، أو تلك الصورة التي التقطها مصور فرنسي وثق فيها مشهد مناضلة فلسطينية من بيت ساحور حملت فردتي حذائها في يد، وفي الأخرى حملت حجراً تقذفه باتجاه قوات الاحتلال، استوحاه الفنان عامر الشوملي، ولمناسبة مرور ثلاثين عاماً على اندلاع انتفاضة الحجارة، محوّلاً إياها ملصقاً لدورة العام 2017 من مهرجان رام الله للرقص المعاصرة.. إنها دمى نضالية تستحق التعميم، ليس فقط ليلهو بها الأطفال في فلسطين مقاومين الجنود الخضر والملونين القتلة، بل ليبقوا خالدين وانتفاضتهم في الذاكرات الغضّة، أو الآخذة في التآكل، أو حتى النسيان أو التناسي.
وعبر "كيس الزوادة"، قدّمت الفنانة سميرة قادري، عملاً فنيّاً، أعاد عبر طقس يلامس يوميّات الفلسطينيين، ويبدو على تماس مع فنون الطهي، دون أن تحرقه أو يلتسع بنيرانها، أو حتى يستمتع بمذاقاتها المتعددة، فهذا الكيس يحمل أكثر من الطعام، "تاريخنا وحب أمهاتنا"، في تتبع لرحلة "الزوادة" من الأيدي التي تعدها إلى التي تحملها، وتفتحها، وتشاركها، فالطعام في "كيس الزوادة" يحمل الذاكرة أيضاً، ويعبر الحدود والحواجز والجدران، ويغذي الإحساس بالانتماء كما يغذي ما فيه الجسد.
وفي مشروع موسيقي موروث عن عائلته الفنية، يقوم الفنان عبد مرعي، بالعمل على ترميم بيت قديم، واستخدامه كاستوديو، وتجهيزه بمعدات جديدة، علاوة على إعداد أرشيف للموسيقى الشعبية، وإنشاء متحف للمعدات القديمة، من بين مقتنياته صوراً نادرة للموسيقيين، إضافة إلى تأسيس مقهي صغير للموسيقيين، والعمل على إتاحة الفرص للموهوبين الشباب في هذا المجال، مستعيداً إرث عديد التجارب الفنية، بينها: استوديو الفن، وفرقة الفن الموسيقية، وفرقة غصون كرمية، وغيرها.
وفي مشروعه "سرارة الأرض" يجمع الفنان فؤاد اليماني حجارة من القرى المهجرة ومناطق مختلفة في الضفة الغربية، وفيديو توثيقياً للتجربة، ولوحات فنية، لتشكل معاً تركيباً فنيّاً يسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وحرمانهم من الوصول إلى أراضيهم منذ العام 1948.
ويركز مشروع "لمّا بسمعوش" للفنان فادي مراد، على تسجيل وتصوير مقاطع صوتية احترافية أقرب ما تكون إلى الهذيان، بحيث تعكس مشاعر وأفكاراً وتساؤلات وأكثر من ذلك، من خلال الكتابة والتسجيل بلغة خاصة، تعكس تجارب الفنان الشخصية، في تركيز على موضوعات عدة، بينها: التهميش الثقافي، والفقدان، والبحث عن الهوية، في مشروع سمعي بصري يتعمق في النصوص النثرية والصوت، لجهة الكشف عن جانب من الحياة في القدس، والشكوك التي تحيط بمستقبلها وأهلها، في ظل الأوضاع غير المستقرة في فلسطين.
وفي إطار المشاريع التي تتكئ على الصوت، ولو بدرجات متفاوتة، يأتي "أبد" للفنان فارس أمين، العازف ومعلم التشيلو، والمؤلف الموسيقي، وهي عنوان لمقطوعة موسيقية أنجزت عزفاً على العود، والتشيلو، والإيقاعات، وهي مقطوعة ألفها صاحبها نهاية العام الماضي، في خضم حرب الإبادة على قطاع غزة، وتمزج ما بين التقليدي والمعاصر، مستلهمة تكوينها من صمود الشعب الفلسطيني الآني، والعابر للتاريخ.
وبينما يتجه الفنان فايز أبو رميلة إلى الارتماء في أحضان "الغرافيتي" الفلسطيني كوسيلة للتعبير الفني والاجتماعي والسياسي، من خلال الرموز الملونة على الجدران، يقدم الفنان محمد نوفل في "مراسم" قطعة سمعية بصرية تتكئ على تقاليد الموسيقى العربية، متجاوزاً إياها دون خدشها، عبر دمجها مع الموسيقى الإلكترونية، في عمل تجريبي وتجريدي في آن، يبدو تخيّلاً للموسيقى الشعبية الفلسطينية باعتبارها أرشيفاً للذاكرة، وقوة حيّة ومتطورة.
قيّم المعرض، الفنان رأفت أسعد، أكد على أنه "لا يمكننا رؤية ما يحيط بنا كمساحة فيزيائية فحسب، بل نراه أيضاً، من داخلنا، من خلال انعكاساته على حياتنا وشخصياتنا، حيث تكمن التساؤلات التي لا إجابات مطلقة لها، بل تتغيّر وتتبدّل مع الوقت".
من جهته شدّد شادي بكر، مدير مشروع "مِشكال"، على أن هذا المعرض مثّل تتويجاً لبرنامج إقامات "مِشكال" الفنية في جولتها الأولى بعنوان "حالة ذاتية"، لافتاً إلى أن "هذه الإقامة قدمت فرصة فريدة للفنانين للانخراط مع المواقع الثقافية الغنية، مستلهمين من الحاضر والماضي، ليخلقوا أعمالاً تعكس الهويات المعقدة والمتعددة للمنطقة، فهو ليس مجرد عرض للتعبير الفني، بل هو أيضاً، شهادة على قوة الثقافات"، والتي تكشفت عبر "استكشاف التداخلات بين الهويات الشخصية والثقافية والجماعية، مع التجريب في وسائل وأساليب متعددة".

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق