طبعًا يجب أن نجنّد كل قوانا لوقف المجزرة في غزة والضفة، وأن ندعم المقاومة، وأن نتصدّى لكل الحلول الفاسدة التي تمنع الشعب الفلسطيني من حقوقه، أي أن نعيش في الزمن الحاضر، وأن نتعامل مع تقلباته المتسارعة لحظةً بلحظة.
لكن من الضروري، وفي نفس الوقت، أن تكون لنا قراءة إستراتيجية وفهم دقيق لطبيعة الصراع. إنه الشرط الأول لاستقراء المستقبل والإعداد والاستعداد للخيارات الصعبة التي سيوفرها أو سيفرضها على كل اللاعبين في هذه المأساة المتواصلة منذ قرن.
(1)
أول ما يجب التركيز عليه لفهم الماضي والإعداد للمستقبل العودة إلى سؤال يبدو بسيطًا: من هي إسرائيل؟
ليس من باب الصدفة أن توضع هذه الدولة في خانة المنطقة الأوروبية عندما يتعلق الأمر بالمسابقات الرياضية والفنية أو الانتماء للمنظمات الأممية.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي وُلدت بفضلها كانت دولة أوروبية: بريطانيا.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي تشرّع معنويًا لوجودها لما ارتكبته من فظاعات في حق اليهود دولة أوروبية: ألمانيا.
ليس من باب الصدفة أن الدولة التي مكنتها من السلاح النووي دولة أوروبية: فرنسا.
ليس من باب الصدفة أن واضع مشروعها هرتزل لم يكن يهوديًا مغربيًا أو يمنيًا أو حبشيًا، بل أوروبيًا قحًّا.
ليس من باب الصدفة أن حكامها إلى اليوم من أصول أوروبية.
ليس من باب الصدفة أن دولًا أوروبية كبرى تهب لنجدة إسرائيل كلما دخلت حربًا: من التدخل البريطاني- الفرنسي سنة 1956 إلى مساهمة الدولتين في صدّ الصواريخ الإيرانية في حرب 2025.
لهذا ليس من الإجحاف القول إنه كما أن الشعب الفلسطيني هو آخر شعب مستعمَر على سطح البسيطة، فإن إسرائيل هي آخر المستعمرات الأوروبية الباقية في هذا القرن.
(2)
لفهم هذا المستوى من طبيعة دولة إسرائيل يجب العودة لقصة الاستعمار الأوروبي للعالم والتذكير بخصائصه ودوافعه العميقة.
إعلان
عرفت أوروبا خاصة، ابتداءً من القرن السادس عشر، توسعًا هائلًا على حساب كل شعوب العالم نتيجة التفوق العسكري والصناعي والتمكن من تقنيات الملاحة بعيدة المدى. كان استعباد الشعوب الأضعف والاستيلاء على أراضيها وخيراتها سياسات محكمة تقودها الدول الأوروبية الأقوى. من أهم المراحل:
الاستعمار البرتغالي: انطلاقًا من 1415 باحتلال سبتة المغربية إلى احتلال ماكاو الصينية سنة 1556، مرورًا باحتلال البرازيل سنة 1500. الاستعمار الإسباني: انطلاقًا من وصول كريستوفر كولومبوس سنة 1492 إلى جزر الكاريبي، وصولًا لاحتلال الفلبين سنة 1565، مرورًا باحتلال المكسيك سنة 1519 وبيرو سنة 1532. الاستعمار الهولندي: انطلاقًا من تأسيس مدينة كايب تاون سنة 1602، إلى احتلال جزر التوابل (إندونيسيا اليوم) سنة 1641، مرورًا باحتلال شبه جزيرة مانهاتن في أميركا سنة 1626. الاستعمار البريطاني: انطلاقًا من تأسيس أول مستعمرة على الشاطئ الشرقي لأميركا سنة 1585، وصولًا لاحتلال الهند سنة 1758، ومصر سنة 1882، مرورًا باستعمار أستراليا سنة 1788. الاستعمار الفرنسي: انطلاقًا من "اكتشاف" كندا سنة 1534 إلى احتلال المغرب سنة 1912، مرورًا باستعمار الجزائر سنة 1830 والهند الصينية سنة 1885. الاستعمار الألماني: الذي احتل توغو، الكاميرون، ناميبيا، تنزانيا من 1884 إلى 1919.ما لا يقع التركيز عليه أن الاستعمار وإن كان سياسة دول لامتلاك مزيد من الموارد والقوة السياسية، فإنه كان أيضًا مشروع شرائح مجتمعية اغتنمت الفرصة التي كانت توفرها الدولة الاستعمارية لتحقيق مصالحها ولأسباب خاصة بها.
خذ مثلًا هجرة البيض إلى جنوب أفريقيا في بداية القرن السابع عشر الذين عُرفوا تحت اسم البورز Boers.
اعتُبرت هجرة الإنجليز إلى أميركا الشمالية لمن عُرفوا تحت اسم Puritans إلى ولاية ماساشوستس بأميركا سنة 1620.
أو هجرة من عُرفوا باسم Quakers إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1650.
أو هجرة الألمان والسويسريين الذين عُرفوا تحت اسم Amish إلى ولاية بنسلفانيا سنة 1720.
أو هجرة من عُرفوا باسم Mormons إلى وسط جنوب الولايات المتحدة سنة 1840.
بتفحص هذه الهجرات ستجد أن لها قواسم مشتركة:
نفس الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية المحفزة للهجرة؛ أي الاضطهاد الديني والسياسي والدونية الاقتصادية والاجتماعية لشريحة اجتماعية معينة. نفس اليوتوبيا بتحقيق المدينة الفاضلة في مكان قصي من العالم، ونفس الاعتماد على نصوص مقدسة قديمة تعد بإمكانية تحقيق أمر كهذا. نفس الشعور بالاصطفاء والتفوق الأخلاقي والروحي والانتماء للفرقة الناجية. نفس استغلال التفوق التكنولوجي والعسكري للدول والأنظمة التي يُراد إدارة الظهر لها ما دامت توفر إمكانات تحقيق الحلم وحتى الاحتماء بها عندما يتطلب الأمر. نفس الازدراء والتجاهل للشعوب التي يُراد الاستيلاء على أراضيها لبناء المدينة الفاضلة.لا بد من قدر كبير من التعامي لعدم ملاحظة أوجه الشبه الكثيرة بين هذه الهجرات والمشروع الصهيوني.
كأنك تسمع هرتزل وأتباعه يقولون: نحن أيضًا الأوروبيون اليهود نريد نصيبنا من الوليمة الاستعمارية بعد أن استأثر بها الأوروبيون المسيحيون.
إعلان
(3)
لا جدال في كون دولة إسرائيل وليدة الاستعمار الأوروبي شأنها في هذا شأن نيوزيلندا أو أستراليا.
ومع هذا يشكل دحض هذه الحقيقة الساطعة جزءًا كبيرًا من مخزون حرب السرديات، حيث يجاهد الصهيونيون لتسويق ثلاث حجج واهية لنزع صفة الاستعماريين عنهم:
1- الإسرائيليون ليسوا دخلاء وإنما أحفاد السكان الأصليين
إنها حجة فندها المؤرخ الإسرائيلي الكبير شلومو صاند الذي أثبت أن كل العبرانيين لم يهاجروا عقب تدمير الهيكل سنة 70 بعد الميلاد، وأن الفلسطينيين هم الأحفاد الذين تمازجوا مع الفاتحين العرب. وفي كل الحالات، فإن من يبقى متشبثًا بأرضه ثلاثة آلاف سنة أجدر بها ممن غادرها طوال ثلاثة آلاف سنة. حدث ولا تسل عن سخافة القول بأن أفارقة إثيوبيا وأمازيغ المغرب وصقالبة الروس هم أحفاد العبرانيين الذين تركوا بيوتهم ولهم الحق في العودة إليها.
2- إسرائيل ليست متشكلة فقط من يهود أوروبا، فنصف سكانها اليوم من يهود البلدان العربية وإيران وحتى إثيوبيا.
نعم، لكن الاستعمار الفرنسي للجزائر لم يكن حصرًا على الفرنسيين الخلّص، فقد فُتح الباب للإيطاليين والإسبان والمالطيين وحتى لليهود الذين أُعطيت لهم الجنسية الفرنسية، لكن هذا الكرم الذي كان في الواقع للمصلحة الاستعمارية أبقى مقاليد السلطة في يدي الفرنسيين القحاح. نفس الشيء اليوم حيث السلطة في إسرائيل ليهود أوروبا وأميركا والبقية مواطنون من درجة أدنى.
3- لا وجود لوطن يمكن العودة إليه، كما كان الحال بالنسبة للمستعمرين الفرنسيين في الجزائر، أو الإيطاليين في ليبيا.
نعم، ولكن ثلث الإسرائيليين يحتفظون بجوازات سفر بلدانهم الأصلية. أضف لهذا أن بيض جنوب أفريقيا قطعوا كل صلة بهولندا ولم يمنعهم ذلك من التصرف كمستعمرين أربعة قرون كاملة إلى نهاية نظام الفصل العنصري.
يبقى أن كل هذا الصراع النظري المتداول منذ قرن يسقط أمام حجة الحجج ألا وهو ما نراه اليوم في الضفة الغربية: قتل وطرد السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم على المباشر، أي الاستعمار في أجلى وأقبح مظاهره.
ليسمح لي هنا بإبداء استغرابي من استعمال محلّلين كلمات مستوطنين ومستوطنات واستيطان. انظرْ كيف تستعمل الفرنسية الكلمات الصحيحة: Colons أي مستعمرون، colonisation أي استعمار، وcolonies أي مستعمرات. الرجاء من الصحفيين والكتاب استعمال الكلمات الصحيحة بغض النظر عن كوننا لا نؤذي إلا قضيتنا باستعمال المصطلحات المضللة.
(4)
لماذا يجب وضع الظاهرة الاستعمارية الإسرائيلية في إطارها الزمني الواسع وربطها بأصولها الأوروبية؟ لأن قراءة الزمان الطويل هي التي تمكن من تصور مستقبلها على ضوء التجارب الاستعمارية المماثلة للأربعة قرون الأخيرة للتوسع الأوروبي.
عرفت هذه التجارب ثلاثة أنواع من النهايات:
النجاح المطلق: أي التمكن النهائي من الأرض وفرض الإرادة المطلقة على سكانها الأصليين، نموذج الاستعمار البريطاني لأميركا، كندا، أستراليا، نيوزيلندا. الفشل المطلق: أي استقلال المستعمرات وعودة المستعمرين من حيث أتوا، نموذج الاستعمار الإيطالي لليبيا، أو الفرنسي للجزائر، أو الألماني لناميبيا، أو الهولندي لإندونيسيا. النجاح النسبي: أي البقاء على الأرض بثمن التعايش وحتى التشابك مع السكان الأصليين، نموذج الاستعمار الهولندي- الإنجليزي لجنوب أفريقيا.أي من هذه المستقبلات الثلاثة ينتظر آخر مستعمرات أوروبا في هذا العالم؟
يصعب الردّ على السؤال لأن التجربة ما زالت متواصلة وقد يجب انتظار قرن آخر للحكم عليها.
لكن يمكننا استعراض شروط النجاح المطلق لكل مشروع استعماري لنرى هل تفي إسرائيل بها، ومن ثم علينا التسليم بعبث كل جهد لاستئصالها. ما يثبته التاريخ هو أن هذا النجاح يتطلب:
1- إبادة الشعب المستعمر أو تقليص عدده إلى كمية تجعله لا يشكل خطرًا على المستعمرين، وذلك بفضل الهوة التكنولوجية أي العسكرية بين الغزاة والسكان الأصليين، وأيضًا بكمية الفيروسات والجراثيم غير المعروفة عندهم، ومن ثم غير المحصنين ضدها. فالشعوب الأولى في أميركا وأستراليا أبيدت تقريبًا عن بكرة أبيها ليس فقط برصاص البنادق والمدافع الرشاشة، وإنما أيضًا بالحصبة والسلّ والجدري.
إعلان
إنه نموذج نجاح الاستعمار الإنجليزي في أميركا وأستراليا.
هذان العاملان غائبان في قضية الحال حيث نزل المستعمرون الأوروبيون اليهود في أرض شعب عريق في الحضارة وفي فنون الحرب، والفرق بين المستوى التكنولوجي أي العسكري بين الغزاة والمغزوّين لا يُحسب بالقرون- كما كان الحال بين المستعمرين الأوروبيين المسيحيين، وسكان أستراليا أو كندا- بل بالعقود على أقصى تقدير.
وأيضًا لم تلعب الجراثيم أي دور بما أن المستعمِرين والمستعمَرين ينتمون لنفس الفضاء الجغرافي الكبير الذي تشكلت فيه نفس المناعات. أضف لهذا أن الشعب الفلسطيني لم يكن شعبًا معزولًا يمكن الاستفراد به، وإنما كان جزءًا من أمة عظمى حتى ولو كانت في حالة عجز وتفكك، وبالتالي تشكل على الأمد الطويل عامل آخر يمنع النصر المطلق.
2- وجود قاعدة خلفية قوية تمدّ المستعمرين بالدعم اللوجيستي المطلوب إلى لحظة القدرة على الاستقلال عن الوطن الأم: الولايات المتحدة، أو أستراليا نموذجًا.
المشكلة بالنسبة لإسرائيل أن أوروبا اليوم ليست أوروبا القرنين الأخيرين وذلك لعدة أسباب منها:
أن الطفل المدلل أصبح عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا عليها؛ إذ يشوش على علاقات حيوية مع العالم العربي لن تضحي بها إلى نهاية مغامرة غير مضمونة العاقبة، وهو ما حصل مع جنوب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي. أن الأجيال الأوروبية الجديدة تتوزع على مسارين سياسيين ولا واحد منهما مع مواصلة دعم الكيان الاستعماري. فالمسار الذي يمكن وصفه باليساري أو التقدمي أو الديمقراطي قطع نهائيًا مع خوارزميات التفكير الاستعماري للآباء والأجداد، ويريد أن تكون أوروبا قلعة للديمقراطية وحقوق الإنسان. لا مجال في خيار كهذا لمساندة دولة من بقايا العصر الاستعماري.أما التيار الشعبوي اليميني المتطرف فهو يكره بني إسرائيل كرهه بني إسماعيل، وهدفه ليس العودة للاستعمار أو مساندة أشلائه في العالم، وإنما كما قال أحد البريطانيين المحتجين على عدد الهنود والباكستانيين في بريطانيا: "منع أوروبا من أن تُستعمر من قبل مستعمراتها السابقة".
أما بخصوص دعم أميركا، فهو الآخر إلى زوال طال الزمن أو قصر، لا فقط بنفس الأسباب التي تعرفها أوروبا، وإنما لسبب أعمق. لا أحد يفهم ظاهرة ترامب والتهاب جذوة اليمين المتطرف إن لم يستحضر أن نسبة الأميركان البيض من أصول أوروبية ستنخفض إلى النصف قبل 2050.مما يعني أن الأجيال القادمة من الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية التي ستقود أميركا لا علاقة لها مطلقًا بالأساطير الدينية عن شعب مختار ومهمة إلهية وأرض موعودة، وكل "الخرم" الأيديولوجي الذي تجده وراء تماهي الأجيال الأميركية القديمة مع المشروع الصهيوني.
أضف التكلفة المباشرة للدفاع عن دولة مارقة تتحدى كل القوانين الدولية، والتكلفة غير المباشرة؛ أي خسارة المصالح مع عالم عربي قد لا يكون الذي تعود عليه قادة أميركا ما قبل التحول الديمغرافي والإثني.ربما الأهم من كل هذا تقلص دعم الحاضنة اليهودية بكل ما تملك هذه الحاضنة من قوة الدعم المعنوي والإعلامي والمالي والنفوذ السياسي.
ما يثلج الصدر التوجه الفكري المتنامي اليوم داخل عدد متزايد من يهود العالم أن إسرائيل تشكل خطرًا عليهم؛ لأنها تتغذى من اللاسامية لكنها تغذيها في نفس الوقت بسياساتها الوحشية تجاه الفلسطينيين. أضف لهذا أنها تشكل خطرًا على اليهودية نفسها بما هي ديانة مبنية ككل الديانات على قيم إنسانية، إذ تنسف الصهيونية بجرائمها كل هذه القيم.
الخلاصة أن عوامل الإسناد الخارجي للمستعمر الصهيوني مؤهلة على الزمن المتوسط والبعيد للتقلص تدريجيًا، وربما حتى للانقلاب التام على المشروع، مفاقمة بذلك -وبكيفية رهيبة- كل أخطار تفككه ونهايته.
لا إمكانية إذن للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين أن ينتهي بنفس النجاح المطلق كالذي عرفه المشروع الاستعماري الغربي في أميركا وأستراليا.
ماذا عن إمكانية النجاح النسبي أي بقاء المستعمرين في الأرض التي استعمروها مع إيجاد نوع من التعايش مع السكان الأصليين بعد اتضاح استحالة إبادتهم.. والنموذج هو دولة جنوب أفريقيا الحالية وإلى مدى نيوزيلندا حيث لم يُبَد الماوري وهم بصدد استرجاع بعض الحقوق.
للأسف لا توجد أي من الشروط الضرورية، فالمستعمرون حاليًا – ويجب وضع أكثر من خط أحمر تحت "حاليًا" – يرفضون كل الحقوق السياسية للسكان الأصليين، لا يرضون منهم إلا الخضوع للحصار الأزلي في غزة، وللأبارتايد في الأراضي المحتلة سنة 1948 ولسلب أراضيهم والهجرة "الطوعية" في الضفة الغربية.
إعلان
ما الذي يبقى من السيناريوهات الثلاثة؟ طبعًا سيناريو الفشل المطلق أي نهاية آخر مستعمرات أوروبا في القرن الواحد والعشرين، كما انتهت جلّ مستعمراتها في القرن العشرين.
(5)
مهلًا، يجب قبل الوثوب إلى هذا الاستنتاج تفحص إستراتيجيات هذه المستعمرة لفرض مفهومها للنجاح؛ لأن التاريخ لم يستنفد كل ما في جعبته من إمكانات.
هو معروف في خطوطه العريضة ويمكن تسميته الحلّ حسب نتنياهو وخياراته الأساسية كالتالي:
منع قيام أي دولة فلسطينية بكل الوسائل وفي أسرع وقت ممكن بتمزيق أوصال الضفة الغربية وإفراغ غزة. فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وعلى كل شعوب المنطقة بما يسمى التطبيع، وذلك بإمضاء اتفاقيات استسلام وتبادل خدمات مع الأنظمة دون اعتبار لهذه الشعوب التي يُفترض أنها ستملّ وتنسى، وأن الأجيال الجديدة ستكون لها رؤى وأولويات مختلفة عن جيل الآباء والأجداد. التأكد المتواصل من عدم صعود قوة إقليمية تهدد السيطرة المطلقة لإسرائيل على المنطقة، سواء كانت عربية أو غير عربية، والعمل الدائم على إضعاف هذه الدول، وإن أمكن تفتيتها. استعمال القوة في شكلها الفجّ لإرهاب الشعوب، وخاصة المحافظة على احتكار السلاح النووي إلى أن تنقرض كل إرادة مقاومة عند الشعب المستعمر، ومن يمعنون في التحالف معه.بتفحص هذه السياسات التي يسوق لها نتنياهو وكل اليمين المتطرف تحت مسميات اتفاقيات أبراهام أو الشرق الأوسط الجديد تكتشف -مرة أخرى باعتبار الزمن الطويل- أن شروط نجاحها منعدمة هي الأخرى وخاصة فيما يخص احتكار القوة العسكرية بصفة عامة، والسلاح النووي بصفة خاصة.
أن يتصور المخططون الإستراتيجيون في إسرائيل وأميركا القدرة على منع الأمم الثلاث الكبرى في المنطقة: الأمة العربية، والإيرانية، والتركية من امتلاك السلاح النووي وبقائها تحت رحمة شعب لا يتجاوز عدده سبعة ملايين شخص، قمةُ العمى لا يزيده غباء إلا الغرق في النظريات العنصرية عن تفوق مستدام.
لقد أثبتت معركة "طوفان الأقصى" – وقبلها معركة العبور سنة 1973 – سهولة تفويض هذه الغطرسة لخداع من يتوهمون أنفسهم أذكى من أنجبت الأرض.
أثبتت هذه الأحداث قدرة المقاوم الفلسطيني على التفوق الاستخباراتي والصمود في ساحة القتال؛ أي تدارك الفجوة الصغيرة في القدرات التي مكّنت الإسرائيليين من الانتصار حتى الآن.
هذا ما سيجبر هؤلاء على مراجعة خوارزمياتهم لتوسيع الفجوة التي ضاقت، لكن عامل رفع التحدي سيلعب من جديد لرفع قدرات المقاومة الفلسطينية وغدًا العربية. هكذا من تأقلُم هذا الطرف، وإجابة الطرف الآخر إلى لحظة تساوي القدرات أو انعكاس موازين القوى وتصفية الحسابات في آخر حرب تخوضها إسرائيل.
الآلية التي ستمكن الأمم الثلاث من تدارك تأخرهم في المجال النووي هي التي ركز عليها المؤرخ الكبير توينبي: التحدي.
هذا العامل النفسي هو الذي جعل من أحفاد مرابين وتجار، جنودًا بلا رحمة يبثون الرعب، هو أيضًا نفس العامل الذي يجعل أحفاد فلاحين فقراء يصبحون أبطال مقاومة تدوم منذ قرن.
هو الذي سيكسر، طال الزمن أو قصر، سلمًا أو حربًا، توهم إسرائيل أن بمقدور دولة صغيرة طارئة على المنطقة إخضاع أمم تاريخية كبرى نهضت أكثر من مرة من كل كبوة وما زال في جعبتها إمكانات هائلة لم تُستغل حتى الآن.
أخيرًا وليس آخرًا، الطامة الكبرى بالنسبة للمشروع الصهيوني أن رفضه يتفاقم جيلًا بعد جيل ويتوسع ويتعمق لمئات الملايين من العرب والمسلمين. فإن كان للإسرائيليين ألف سبب لكيلا يغفروا للفلسطينيين 7 أكتوبر/ تشرين الأول فإن للفلسطينيين والعرب مليون سبب لكيلا يغفروا للإسرائيليين ما ارتكبوا من جرائم خاصة السنتين الأخيرتين.
(6)
لقائل أن يقول إذن الآن يمكن أن نتنفس الصعداء والسؤال لم يعد: هل ستزول إسرائيل وإنما متى؟
مرة أخرى مهلًا، فالتاريخ ليس على ذمة أهوائنا ومصالحنا أو في خدمة الخير والحق، واسألوا الهنود الحمر عما فعله بعدالة قضيتهم.
إن كان على العقلاء الإسرائيليين وأصدقائهم الحقيقيين التفكير المعمق في ثمن مواصلة حلّ نتنياهو، فإن على العقلاء العرب وأصدقائهم الحقيقيين التفكير في تكلفة الرهان على سياسة "رمي اليهود إلى البحر".
يجب أن يتساءلوا في البداية عن مواقع القوة في الكيان الاستعماري دومًا في إطار الزمن الطويل.
إن قوة إسرائيل ليست في سلاحها الذي يمكن أن نضاهيه، ولا في جيشها "الذي لا يُقهر" والذي قهره أبطال غزّة، لكن في كونها دولة قانون ومؤسسات تسهر على مصالح شعب من المواطنين، أيْ دولة على درجة عالية من الكفاءة وشعب على درجة عالية من البذل والعطاء والتضحية. دولة كهذه قادرة على أن تهزم لعقود كثيرة قادمة دول استبداد وفساد وسوء استعمال مواردها، وأولها المورد البشري الذي جعلت منه شعبًا كسيحًا، شعبًا من الرعايا الأذلاء الخانعين.
هل كنا نعرف مهانة مشاهدة أطفالنا يموتون جوعًا في غزة لو كانت المظاهرات اليومية تخرج في شوارع مدننا احتجاجًا على سياسة حكوماتنا كما فعل الإسرائيليون على امتداد سنتين يوميًا في شوارع تل أبيب والقدس؟
ما دمنا شعوبًا من الرعايا تتحكم فيها دول تسيّرها الأجهزة الاستخباراتية فإن إسرائيل في مأمن لوقت طويل من كل تهديد حقيقي.
إنه ما فهمته جيدًا النخب الذكية التي تقود المستعمرة، فتصدت بقوة للربيع العربي. من يعرف أحسن من هذه النخب أنه إذا انطلق العالم العربي في مسار ناجح لبناء دول قانون ومؤسسات في خدمة شعوب من المواطنين وقادرة على التنسيق بينها لحماية الأمن القومي العربي، فإن ذلك بداية النهاية للمشروع الصهيوني برمته.
لاستقراء المستقبل بصفة موضوعية علينا أيضًا فهم درجة الخطورة في أشرس احتلال عرفته الأمة منذ الغزو المغولي والفرنجي.
أربعة عوامل خطورة يجب دراستها بدقة وأخذها دومًا في الحسبان:
العامل الديمغرافي: إن كان تغيير الأجيال في أوروبا وأميركا وفي وطننا العربي يلعب لصالحنا فإنه يلعب ضدنا في إسرائيل، فنسبة المتدينين اليوم هي 14%، لكن الخصوبة العالية عندهم سترفع هذه النسبة إلى 25% بحلول 2050، أي أنهم سيمرون من 1.2 مليون إلى 3.2 ملايين. أضف لهذا أنهم لا يهاجرون خلافًا لليهود العلمانيين، مما يعني أن هذه الشريحة الأكثر تطرفًا والمتزايدة عددًا وتأثيرًا هي التي ستتحكم في الخيارات السياسية الكبرى، ومن أهمها التهام الضفة الغربية بالكامل ومنع أي سلام ممكن وحتى أي تطبيع مقنع. العامل السياسي وأساسًا النظام الانتخابي الكارثي الذي يعطي تحت ذريعة التمثيلية للأقليات المتطرفة وزنًا ليس وزنها في الشارع، وذلك عبر لعبة التحالفات والابتزاز للأحزاب الكبرى العاجزة عن إيجاد الأغلبية الكافية للحكم. مما يعني أن ظاهرة تحكم بن غفير – سموتريتش في القرار الإسرائيلي لمزيد من العنف والحرب ستكون مستقبلًا القاعدة لا الشذوذ. العامل الأيديولوجي: يجب إمعان النظر لمعرفة الفضاء الخيالي الرمزي الروحي الذي يعيش فيه هؤلاء المتطرفون من أفكار عن رب خاص بهم اصطفاهم من بين كل شعوب الأرض ومنحهم أرضًا لا حق لغيرهم فيها، وكيف أن لهم الحق في قتل العماليق رضعًا وشيوخًا وحتى حيواناتهم، وأن البطل شمشون انتقم ممن عذبوه بإسقاط جدران المعبد فوق رأسه ورؤوسهم. العامل النفسي وأسميه لعنة فرويد. إنه شبه قانون استنبطه المحلل النفسي الشهير: أنت لا تحارب عدوًا زمنًا طويلًا دون أن تنتهي بمشابهته. هذا القانون هو الذي يعطينا اليوم عنصريين يهودًا ردوا على العنصرية الغربية بأسوأ منها. هذا القانون هو الذي يفسر لماذا وصف وزير الحرب Gallant الفلسطينيين بأنهم "حيوانات آدمية" يذكرنا بمقولة Himmler وزير دعاية النظام النازي عن اليهود بأنهم Untermenschen؛ أي ما تحت الإنسان. كذلك نفهم عشق الإسرائيليين للحروب الخاطفة على طريقة الألمان في الحرب العالمية الثانية وإيمانهم بأن كل مشكلة لا تحلها القوة، تحلها قوة أكبر.أمزج كل هذه العوامل بوجود سلاح نووي جاهز للاستعمال والنتيجة الأكثر احتمالًا أن النهاية قد تكون الهولوكوست النووي الذي يسقط فيه شمشون جدران المعبد أي كل الشرق الأوسط على رأس ساكنيه من ملايين اليهود والمسلمين والنصارى.
إذن ما الحل بعد الكف عن الجري مع المخادعين والمخدوعين وراء وهم تقادم عهده؟
(7)
بالعودة لنماذج الاستعمار الأوروبي ومدى نجاحها على الأمد الطويل، نجد أن أقلها تكلفة إنسانية هو النموذج الجنوب أفريقي. فقد استقرّ المستعمرون البيض في أرض ليست أرضهم منذ أربعة قرون ولم يبيدوا سكانها الأصليين، لا بنبل منهم وإنسانية لم يظهرها بنو عمومتهم في تعاملهم مع السكان الأصليين في أميركا وأستراليا، وإنما لاستحالة الأمر.
هذا ما أدى بهم بعد حروب طويلة لإبرام اتفاق فريد من نوعه في تاريخ الاستعمار، أي بناء دولة مشتركة مع السكان الأصليين الذين قبلوا بحل لم يكن عادلًا تمامًا لكنه كان موفرًا على الجميع حروبًا لا نهاية لها وآلامًا عبثية مع ضمان الكثير من حقوقهم السياسية والفردية. إنه ما أسميه حلّ مانديلا.
السؤال: ليس هل يمكن اللجوء لنفس الحل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإنما كيف نفعل لفرضه بما أنه البديل الوحيد للحرب الأزلية، ونهايتها، لا قدر الله، هولوكوست نووي يرحل بعشرات الملايين؟
أكثر من أي وقت مضى الخيار اليوم وغدًا بالنسبة للأجيال الجديدة والجادة من القادة السياسيين في المنطقة وفي أوروبا والعالم هو بين حل نتنياهو الذي يقود كل شعوب المنطقة إلى الهاوية وحل مانديلا الوحيد القادر على قيادتها لبر السلام.
آهِ كيف وهل هذا أصلًا ممكن في ضوء موجة الكراهية بين الشعبين وتوسعها لشعوب المنطقة؟ من أين لنا مانديلا آخر؟ وهل ثمة بين الإسرائيليين عاقل مثل دوكلارك الذي أنقذ البيض في جنوب أفريقيا من كارثة الكوارث؟… إلخ، إلخ.
آن الأوان للتفكير في مؤتمر "بازل 2" أو أي مؤتمر آخر يجمع الفلسطينيين والإسرائيليين وأصدقاءهم الحقيقيين للبحث في كل هذه المسائل والتفحص الهادئ البعيد عن صخب المعارك الآنية لصعوبات ومشاكل وتحديات الخيار، وما هي إستراتيجيات الدعوة والتمكين له؟.. على أمل ألا يكون السيف قد سبق العذل وأن التاريخ لم يتخذ الطريق المرعب الذي يمشي فيه المتطرفون بمزيج من الغباء والحقد ونحن لم ننتبه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق