كيف نفهم كواليس نهاية الحرب المفاجئة بين إيران وإسرائيل؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

لم تتجاوز درجات الحرارة في محافظة الأنبار العراقية 15 درجة ليلة الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني 2020، لكن الحرارة ارتفعت فجأة مع الانفجارات الكبيرة التي أعقبت سقوط صواريخ إيرانية على قاعدة عين الأسد الجوية، التي تستضيف قوات عسكرية أميركية. فقد أطلقت إيران 10 صواريخ باليستية على الأقل، بعد أيام من اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بغارة نفذتها مسيّرة أميركية في العراق.

حبس العالم أنفاسه، وتحدث المحللون أن حربًا شاملة على وشك الاندلاع؛ بعدما فقدت طهران أحد أهم قادتها منذ وقوع ثورتها قبل 45 عامًا. لكن الرواية الأميركية هوّنت من الأمر كثيرًا مع الإعلان أن الجيش لم يسجل أي قتلى بين صفوفه وأن هناك بعض الإصابات المحدودة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

هل يدفع شبح إسرائيل لتسريع التحالف بين إيران وباكستان؟

list 2 of 2

ماذا نعرف عن كاتس الذي وعد بحرق طهران؟

end of list

لاحقا، خرج الرئيس دونالد ترامب، في خطاب هادئ لا يشبه خطاباته عادة، ليوجه كلامه إلى الأميركيين والعالم بالقول:

"لقد اتصلوا بنا وقالوا لنا: ليس لدينا خيار، علينا أن نضربكم، لأننا نقدر أنفسنا، وقد تفهمتُ هذا! بدأنا بضربهم فعليهم أن يفعلوا شيئًا!". جرى إخلاء الملاجئ والمناطق المستهدفة قبل دقائق من الهجوم، وكأن الجميع كان يؤدي دورا متفقا عليه في مشهد شديد الانضباط، تستعرض إيران قوتها على الرد وتصل إلى عمق القواعد الأميركية، وتُظهر تحديها فعليا للسيادة الأميركية على منشآتها العسكرية، ولكن على نحو لا يُضطر واشنطن لردود لا تحتملها طهران.

في اليوم التالي، وصف المرشد الإيراني علي خامنئي الضربة بأنها "صفعة على وجه أميركا"، بينما قال الرئيس ترامب إنها "دليل على أن إيران اختارت التهدئة". ولكل منهما، بالفعل، ما يبرر سرديّته!

الإيرانيون من جانبهم قالوا في تصريحات إعلامية إن ضرباتهم الصاروخية على عين الأسد قتلت 80 عسكريًا أميركيا، وإنهم بهذا قد ثأروا لاغتيال سليماني. لم يعلق الأميركيون أكثر من ذلك، وبدا وكأن هذه الجولة قد انتهت بلا مزيد من التوتر.

إعلان

كان ذلك الحدث -من نواح عديدة- عرضًا مسرحيًا! ليس بمعنى كونه زائفًا أو مخادعًا، بل بالمعنى التقليدي لكلمة "المسرحية". كان ما شاهدناه قصة لها بداية، وعقدة، وذروة، ونهاية. فقد أبلغت إيران السلطات العراقية مسبقًا بنيتها شن الضربة، وبذلك علم الأميركيون فورًا. بعدها تجهزت المخابئ، وابتعد الجنود عن دائرة الخطر، ومع سقوط الصواريخ كان الضرر محدودًا. ومع إعلان الطرفين عن رضاهما عن النتيجة، هدأ الأمر.

وراء كواليس هذا الحدث والعديد من الأحداث المشابهة، يظهر منطق بات مفهومًا في مجالات الاستراتيجية العسكرية، والعلوم السياسية، ونظرية الألعاب؛ أن الحرب لا تُضرم للتدمير فحسب، بل يستخدمها الساسة للتواصل أيضًا!

ولا يشاهد الساسة في غرف التحكم والسيطرة القنوات الإخبارية مع وفرة الشاشات أمامهم، لأن صانع الحدث لن ينشغل بمتابعة محلل ليس عنده من المعلومات إلا ما سرّبه السياسي إليه في المقام الأول. يجتهد المحلل السياسي في تقديم رؤيته الموضوعية أو المتحيزة، ويعلو صوته في الاستوديو الإخباري، ساردًا كل الاحتمالات المتعلقة بالحرب ومآلاتها، لكن يغيب عنه أن ما يظهر أمامه على مسرح الحدث ليس سوى تمثيل لنص متفق عليه صُنع في الكواليس.

فخلف مسرح الحرب يقف الساسة ليضعوا اللمسات النهائية للمشهد، وعلى الخشبة تنتشر القوات المسلحة للفريقين، وفي المدرجات يجلس الصحفي والمحلل والإعلامي، ليتابعوا الحدث عن كثب. وإذا كنت تتساءل عزيزي القارئ عن مقعدك داخل المسرح، فالجواب أنك ذلك الشاب الذي لا يملك ثمن التذكرة وينتظر خروج الجمهور ليسمع منهم تفاصيل المسرحية.

خلّف النصف الأول من القرن 20، مرارة لاذعة بين الناس جميعًا بعد حربين عالميتين وحروب القوى الاستعمارية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من المدنيين والعسكريين على السواء. فمن المواجهات المملة القاتلة في الحرب العالمية الأولى، إلى كرة اللهب النووية في هيروشيما، أدرك الناس الكوارث التي قد تنتج عن العنف غير المقيّد.

انفجاري هيروشيما (يسار) وناغازاكي (يمين) في عام 1945 (ويكيبيديا)

كان أبرز ما خلفته الحروب هو التوسع الرهيب في الصناعات العسكرية، ويعني أن هذا العنف غير المقيد قد يصل إلى مراحل لا يمكن فيها السيطرة على اتجاهه وشدته. وقد توصل إلى هذه النتيجة، لا ضحايا العنف فحسب، بل مرتكبوه أيضًا.

لذلك، كانت هناك حاجة إلى التعامل مع الحرب، لا كوسيلة إفناء وتدمير فحسب، بل كآلية تفاوض وتواصل. في كتابه "استراتيجية الصراع" المنشور عام 1960، كتب توماس شيلينغ يقول إن "القدرة على الإيذاء هي قدرة على التفاوض، واستغلالها هو شكل من الدبلوماسية.. إنها دبلوماسية خشنة، لكنها تظل دبلوماسية".

قدّم شيلينغ، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، مفردات جديدة لفهم الصراع، ليس باعتباره فوضى غير عقلانية، بل باعتباره لعبة محسوبة من الترغيب، والترهيب، والأسقف أو العتبات. أما أطروحته المركزية فتمحورت حول أن الدبلوماسية الخشنة تعتمد غالبًا لا على استخدام القوة، بل على التلويح الجاد -أو التهديد الموثوق- باستخدامها، فتصبح الحرب، في جوهرها، محادثة عنيفة، لا عنفًا يقضي على الحوار.

إعلان

بدأ الأمر مبكرًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي أزمة مضيق تايوان الثانية عام 1958؛ بدأت الصين حملة قصف عنيف على جزر "كينمن" التي تسيطر عليها تايوان، في محاولة للضغط على تايبيه وواشنطن معا. لكن سرعان ما تحوّل هذا الهجوم إلى نمط بروتوكولي؛ في الأيام الفردية، كانت مدفعية الصين تطلق قذائفها، وفي الأيام الزوجية، كانت تايوان ترد بالمثل! لم يكن ثمّة هجمات مفاجئة ولا تحركات خاطفة، فقط إيقاع منتظم لوابلٍ من القذائف، وكأن طرفي النزاع وقّعا على اتفاق غير معلن لإدارة حرب بروتوكولية لا تتجاوز خطوطا حمراء.

في هذا النوع من العمليات؛ تُطَلق النيران تحت سقف التفاهم، ليس بغرض تدمير العدو أو مقدراته، بل لتوجيه رسائل سياسية، وتحقيق أهداف تفاوضية، وتجنب الانفجار الشامل، في ظل عمليات متوقعة وقابلة للتنبؤ، بما يسمح بتقليل آثارها التدميرية ومن ثم عدم استفزاز الخصم، فيما يشبه "مسرحية مدروسة" تُديرها الأطراف المتنازعة، لكنه في الحقيقة جزء من الإدارة الذكية لأدوات الحرب الحديثة.

ولعل أقدر السياسيين على الاستفادة من هذه الآلية، هم الاقتصاديون أو هؤلاء القادمون من خلفية المال والأعمال. فكيف يمكن فهم منطق هذا النوع من العمليات العسكرية؟

استخدمت متفجرات مصنعة من مادة آر دي إكس في الحرب العالمية الثانية (المتحف الملكي الحربي)
قنابل متفجرة من مادة آر دي إكس تم استخدامها في الحرب العالمية الثانية (المتحف الملكي الحربي)

عقلنة الحروب.. دروس العقود الصعبة

العنف شعبة من الجنون، وحده الإنسان قد ينفرد من بين الحيوانات بقدرته على عقلنة العنف وضبط حدوده لرغبته الشديدة في استدامته. خذ الملاكمة نموذجا.. كانت هذه الرياضة القاتلة نافذة للمجد الفرديّ بين المقاتلين في مجتمعات تقدّس القوة والبطولة، وتلبي شغفها في مشاهدة العنف شبه المنظم.

كانت الملاكمة قريبة جدًا من القتال الحر، وكان فرط العنف فيها عاملًا لانحسارها لفترات زمنية متباعدة، لكن في عام 1867، ظهرت "قوانين كوينزبيري" التي أرست أسس الملاكمة الحديثة، ورتبت  قواعد الاشتباك بين الباحثين عن المجد والمال، وضمنت للعنف المُقنّن الاستمرار.

في النصف الأول من القرن 20، وعلى وقع التحديث الصناعي الهائل وتطور أدوات الحرب، خاضت الدول المتصارعة في الحربين العالميتين حروبها بكامل جسدها، وبأقصى طاقة النار لديها. جرّت الحرب العالمية الأولى أوروبا إلى مستنقع من الخنادق والقنابل والغازات السامة، ومات أكثر من 16 مليون إنسان دون أن تُحسم قضية واحدة حسما نهائيا. ومن ثم اندلعت الحرب مرة ثانية؛ فيما يعرف بالحرب العالمية الثانية، لتستخدم كل دولة أقصى أدوات العنف الممكنة لديها، من قصف المدن إلى الإبادة الجماعية، وصولا إلى القنبلة النووية.

منذ ذلك الحين، بدأت الدول العظمى والصاعدة -على حد سواء- تتعلم. لم تعد الحروب الشاملة خيارا مأمونا، ولا وسيلة مضمونة لتحقيق المصالح. العقلانية العسكرية هنا لا تعني النبذ الكلّي لمنطق الحرب الشاملة، لكنه بات استثناء، كما أعيدت هندستها على أسس أكثر برودة وتوازنا. فبدلا من تحشيد الجيوش وخوض حروب إبادة، أصبحت الدول تُراكم القوة وتلوّح بها دون استخدامها، وتلجأ إلى محاكاة العنف وإظهار القدرة على استخدامه، دون تفريغ طاقته بالكامل.

فالحرب ليست صراعًا دمويًا عبثيا، وإنما وسيلة لفرض إرادتك السياسية على خصمك، أو هي "استمرار للسياسة بوسائل أخرى" كما يقول الفيلسوف العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز. في هذا الإطار؛ لا تهدف العمليات العسكرية الرمزية -حتى لو تضمنت ضرب القواعد العسكرية أو إطلاق المسيّرات- إلى شلّ قدرات الخصم، بل إلى إرسال رسالة دقيقة، ومحسوبة، ومشفرة بلغة النار، دون فتح الباب على جحيم الحرب الشاملة، بل أحيانا لتفريغ طاقة التصعيد وإنهاء الصراع وتوفير نهاية للحرب تحفظ ماء وجه أطرافها.

إعلان

لنأخذ مثالا لواحدة من هذه العمليات "الاستعراضية"؛ في فجر يوم 6 أبريل/نيسان 2017، أطلقت مدمرتان أميركيتان في البحر المتوسط 59 صاروخا من طراز "توماهوك" باتجاه قاعدة الشعيرات الجوية التابعة للنظام السوري، في أول استخدام مباشر للقوة العسكرية من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب.

وجاءت الضربة ردا معلنا على هجوم كيميائي مروّع استُخدم فيه غاز السارين في بلدة خان شيخون، وأوقع عشرات القتلى، بينهم أطفال. بدت الضربة حينها مثل تصعيد مفاجئ، لكنْ سرعان ما اتضح أنها عمل محسوب ومحكوم بسقف سياسي محدد، إذ أبلغت الولايات المتحدة روسيا مسبقًا عبر قنوات "فض الاشتباك" القائمة بين الجيشين، ما أتاح لموسكو إخلاء عناصرها من القاعدة، وأتاح أيضا للنظام السوري تقليص الخسائر البشرية.

ضحايا الكيميائي في خان شيخون.. ماتوا نياما
أطفال ماتوا نياما على إثر الهجوم الكيميائي في خان شيخون (شبكة شام)

عادت القاعدة للعمل خلال 48 ساعة فقط. لم يكن ذلك عجزا تقنيا بطبيعة الحال، بل قرارا واعيا بأن تبقى الضربة في إطارها الرمزي، كانت استعراضا دقيقا للقوة النارية الأميركية، ليس لفرض تغيير ميداني، بل لصياغة مشهد ردعي أمام الرأي العام. صُمّمت العملية لتقول ما يلي: "لدينا القدرة، ولدينا الإرادة، لكننا نُحسن ضبط النفس".

وقبل هذا التاريخ بعقود؛ في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1962، التقطت طائرة تجسس أميركية من طراز "يو-2" صورا كشفت النقاب عن أخطر تصعيد حدث خلال سنوات الحرب الباردة؛ منصات صواريخ نووية سوفياتية متوسطة المدى نُصبت في كوبا، على بُعد أقل من 150 كلم من سواحل فلوريدا الأميركية.

وخلف المشهد العلني المأزوم من خطابات التهديد والتحذير وإعلان حالة الطوارئ في واشنطن ورفع مستوى التأهب النووي إلى "DEFCON 2" (أعلى مستوى في الاستعداد القتالي)؛ كان ثمة مشهد يُعد خلف الستار لتهدئة التصعيد بين الطرفين مع حفظ ماء الوجه لكل منهما.

في 28 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن خروتشوف أن بلاده ستسحب الصواريخ من كوبا، مقابل تعهد أميركي علني بعدم غزو الجزيرة، وتعهد سري -عُرف لاحقا- تضمّن سحب صواريخ "جوبيتر" الأميركية من تركيا، على حدود الاتحاد السوفياتي.

وهكذا، ما بدا تصعيدا من قبل خروتشوف ثم كينيدي، كان في جوهره مشهدا استعراضيا محكوما بضوابط الردع المتبادل. كل طرف أظهر قدرته على التصعيد، دون أن ينزلق إليه فعليا. وخرج الطرفان لاحقا ليدّعيا النصر؛ كينيدي بوصفه من أجبر السوفيات على التراجع، وخروتشوف بوصفه من انتزع ضمانات استراتيجية لأمن بلاده.

كان كل ذلك يتم في الخفاء، ولا يطلع عليه المتابعون إلا لاحقًا بعد رفع السلطات السريّة عنها، ولكن مع مجيء رجل الأعمال الأميركي دونالد ترامب لقيادة البيت الأبيض ستكتسب هذه الأحداث بُعدًا أكثر دراميّة وسرعة في الكشف عنها.

ولا أكتمُ الأسرار لكن أنمُّها … ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي

وإنّ ضعيف القلب مَن بات ليلةً … تُقلّبه الأسرار جنبًا إلى جنب

هذه أبياتٌ قالها شاعر عربيٌ في القرن الثاني الهجري كان يضيق بكتم الأسرار، وبعد 13 قرنًا، سيُدخلها ترامب إلى العُرف السياسيّ بممارساته الدرامية التي قد تقوض عمل أجهزته الاستخباراتية.

ففي مايو/أيار 2017، وخلال اجتماع في البيت الأبيض مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسفير الروسي، أفشى ترامب معلومات استخباراتية شديدة السرية دون إذن، وهو ما أدى لاحقًا إلى سحب مصدر استخباراتي من روسيا خشية كشفه. وفي حادثة أخرى عام 2019، نشر ترامب عبر تويتر صورة عالية الدقة لموقع إيراني لإطلاق الصواريخ، التقطها قمر صناعي أميركي تجسسي، كاشفًا بذلك عن قدرات الأقمار الصناعية الأميركية أمام العالم.

الحرب بوصفها فنًّا لا صداما أعمى

في قرون ما قبل الميلاد، كتب الاستراتيجي الصيني صن تزو، أحد أكثر نصوص الاستراتيجية العسكرية بروزًا في التاريخ، تحت عنوان "فن الحرب". منذ ذلك التاريخ، اعتُبر التخطيط العسكري فنّا يقتضي استعراض القوة واستخدامها لتحقيق غايات سياسية بأقصر الطرق وأقلها كلفة، ضمن مبدأ "الاقتصاد في القوة"، أحد أهم مبادئ الاستراتيجية العسكرية.

واتصالاً بالفن؛ كثيرا ما يستخدم في اللغة العسكرية الحديثة تعبير "مسرح العمليات"، الذي يشير إلى المساحة الجغرافية التي تجرى فيها الحرب، بما يشمل ميادين القتال المباشر وخطوط الإمداد وقواعد الدعم الخلفية. لكن ما يلفت الانتباه ليس المفهوم الاستراتيجي بقدر ما هو المصطلح نفسه: لماذا "مسرح"؟ ولماذا تُوصف العمليات الحربية بلغة يبدو أنها مستعارة من عالم الفن؟

إعلان

الجواب يبدأ من أوروبا، وتحديدا من الأدبيات العسكرية الفرنسية في القرن 17، حيث بدأ استخدام تعبير "Le Théâtre De La Guerre"، أي "مسرح الحرب". وقد تبنّت اللغات الأوروبية الأخرى هذا المفهوم، قبل أن ينتقل لاحقا إلى العربية ضمن الترجمات الحديثة للعلوم العسكرية. يبدو أن الاختيار لم يكن ارتجاليا، بل ارتكز على تشابه عميق بين ما يجري على خشبة المسرح الفني، وما يحدث في فضاء الحرب الواسع.

في المسرح الفني، ثمة منصة تُعرض عليها قصة أمام جمهور، بوجود مُخرج يدير العمل، وممثلين يؤدون أدوارهم وفق نص محدد. والحرب أيضا لا تبدو بعيدة، إذ إن مسرح العمليات هو كذلك منصة كبيرة، تُعرض عليها مشاهد النار والصدام، يحركها قادة سياسيون وعسكريون مثلما يحرك المخرجون أحداث المسرحية، ويشارك فيها الجنود والآليات لتنفيذ أدوار مخططة سلفا. وحتى "الجمهور" موجود، وإن اختلف؛ إنه الرأي العام، والمجتمع الدولي، وربما التاريخ نفسه الذي يشاهد ويقيّم. وفي الحالتين، لا يُكشف للجمهور كل ما يدور خلف الكواليس، فما يبدو مشهدا بطوليا قد يكون نتيجة حسابات خفية، وما يبدو تراجعا قد تكون جرت مقايضته بمكتبات سياسية عالية.

وضمن إطار هذا النوع من الفن؛ تبدو العمليات العسكرية أكبر من مجرد صدام عنيف، بل رسالة تُوجّه للعدو، وللحلفاء، وللعالم، ليس فقط لتحقيق نصر ميداني، بل ربما لإيصال فكرة، أو فرض مشهد، أو إظهار قوة. وكأن الحرب خطاب يُلقى أمام جمهور، له بداية، ونقطة ذروة، وربما خاتمة درامية.

الشخصية المسرحية كحكم في الصراع

في 28 فبراير/شباط 2025، شهد البيت الأبيض مشهدًا غير مسبوق حين تحول اجتماع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى مواجهة علنية حادة أمام وسائل الإعلام. في نهاية النقاش سيختم ترامب بعبارة تكشف حاسته الدرامية التي اكتسبها من العمل الإعلامي ويقول: "سيكون هذا عرضًا تلفزيونيا رائعًا".

لقد صقل ترامب القادم إلى السياسة من تلفزيون الواقع مهاراته الإعلامية عبر برنامج "The Apprentice" الذي انطلق عام 2004، والذي ساهم في تغيير صورة ترامب لدى الشعب الأميركي من رجل أعمال مثير للجدل إلى أيقونة للسلطة والثراء والقدرة الحاسمة على اتخاذ القرار. الجملة التي صارت توقيعه الشهير "أنت مطرود" (You’re Fired) لم تكن مجرد عبارة ختامية للحلقات، بل أداء مسرحي صاغ ملامح شخصيته أمام الجمهور الأميركي كقائد صارم لا يتردد في قطع العلاقات مع الفاشلين.

هذه العقلية الاستعراضية ستخدمه كثيرًا في حملاته الانتخابية لإقناع الناخب الأميركي بانتخابه، ولاحقا في ممارساته السياسية، لتتوج بمشهد الحرب الأخيرة.

لم تكن عملية 13 يونيو/حزيران الإسرائيلية مجرد ضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية؛ لقد كانت، في جوهرها، امتداداً لخطة استراتيجية كبرى صاغتها واشنطن وتل أبيب معاً، تهدف إلى زعزعة أركان النظام نفسه ودفعه نحو السقوط. قامت الخطة على فرضية أن موجة متزامنة من الضربات الجوية والصاروخية عالية الدقة، مدعومة بهجمات سيبرانية مركزة وحملات نفسية داخلية، ستكون كفيلة بإشعال الداخل الإيراني، وتحفيز احتجاجات شعبية تتحول سريعاً إلى انتفاضة شاملة تنقلب على النظام من الداخل.

في الساعات الأولى التي تلت الضربة، اتضح أن الأثر الفعلي للعملية على تماسك النظام الإيراني كان دون سقف التوقعات.. لم يتحول السخط الشعبي إلى انفجار سياسي، وصمدت المؤسسات الأمنية أمام موجة التهديد. هنا، دخلت الواقعية البراغماتية لتلملم المشهد؛ إذ بدأ الطرفان، الأميركي والإيراني، يتجهان نحو إدارة الحرب، ليحولوا دون تدحرجها إلى مواجهة صفرية ليست مضمونة العواقب.

تقاطعت في الخلفية قنوات الاتصال غير الرسمية، لترتيب مشهد يسمح لجميع الأطراف بالخروج بمكاسب متوازنة دون دفع الثمن الكامل للحرب. إيران، التي بدت مستعدة سلفاً للضربة، أخلت منشآتها النووية من المواد الحساسة والكوادر العلمية قبيل القصف بساعات، في ما بدا إشارة ضمنية لاستعدادها لفصل الضربة العسكرية عن انهيار البنية النووية بالكامل.

في المقابل، نفذت الولايات المتحدة وإسرائيل ضربات جوية مركزة، صُممت بعناية كي تكون مؤثرة بما يكفي لإعلان النصر سياسياً، لكنها دون أن تصل إلى الحد الذي يؤدي إلى انهيار شامل أو مجازر واسعة.

جاء الرد الإيراني متناغماً مع هذا الإيقاع؛ إطلاق صواريخ على قواعد عسكرية في قطر والعراق، مقروناً بتحذيرات مسبقة سمحت بإخلاء المواقع المستهدفة، في رسالة صريحة: إيران قادرة على الرد، لكنها لا تسعى للتصعيد. واشنطن بدورها تلقفت الرسالة وفهمتها جيداً، معتبرة أن الرد الإيراني، رغم صخبه الإعلامي، يبقى ضمن قواعد الاشتباك المضبوطة.

هكذا أعادت العملية رسم المشهد؛ لم يعد إسقاط النظام الإيراني هدفاً فورياً، بل تحول إلى خطة بعيدة المدى، تقوم على إنهاك طهران تدريجياً، وتقليم قدراتها النووية، دون إغلاق باب التفاوض بالكامل. تحولت الحرب من مشروع حسم جذري إلى مسرح معقد من استعراض القوة، وضبط الإيقاع، وتبادل الرسائل، في مشهد محسوب بعناية، تجنبت خلاله جميع الأطراف الوقوع في فخ حرب لا يريدها أحد.

هل كانت إيران تمثل قصف إسرائيل؟

في أكتوبر/تشرين الأول 2024، انطلقت أكثر من 150 طائرة مسيّرة من العمق الإيراني، لتعبر الأجواء العراقية نحو الأردن، ومنها باتجاه المجال الجوي الإسرائيلي، في مشهد علني يراقبه العالم كله قبل أن تراقبه رادارات تل أبيب، وكأننا أمام مشهد من مسرحية كبرى تُعرض على جمهور عالمي مفتوح. لكن هذه المسرحية، بعكس ما قد يفكر فيه البعض، لم تكن كذبا ولا ارتجالا ولا تضليلا، بل كانت درجة متقدمة من درجات الحرب بوصفها فنا، حيث تُمارَس القوة عبر محاكاتها، بدلا من استنفادها.

هنا؛ تتحول المسيّرات والصواريخ الباليستية إلى قوة ناعمة بوسائل صلبة، تعيد صياغة موازين الردع، بالتلويح بالقوة كما لو كانت قد استُخدمت، والأهم من ذلك؛ تمنع الانفلات حين لا تكون الأطراف مستعدة لتحمل عواقبه.

لكن، إذا كان هدف الحروب إثبات الكرامة الوطنية والشرف أو التفوق والقوة، فالرياضة -ربما- قادرة على تحقيق ذلك الهدف من دون دفع الثمن الباهظ للحرب. ولعل هذا هو محور التحول الذي نأمل أن تتبناه العلاقات الدولية بشكل أوسع في المستقبل.

يتوافق هذا التحول مع ما نظّر له نوربرت إلياس وإريك دونينغ في دراساتهما الاجتماعية عن الرياضة. ففي كتابهما "البحث عن الإثارة.. الرياضة والترفيه في عملية التمدن" المنشور عام 1986، يشيران إلى أن الرياضات الحديثة تطورت كمنفذ "حضاري" للعنف، أي باعتبارها مجالا مؤسسيا منظما يُمكن فيه تفريغ الطاقات الجسدية والعاطفية ضمن قواعد تحدُّ من الأذى الحقيقي. وبهذا المعنى، تُصبح الرياضة نوعًا من تحويل الغريزة القتالية إلى سياق أكثر قبولًا وضبطًا.

علاوة على ذلك، رأى علماء الاجتماع في الرياضة بديلا للحرب في نظرية السياسة الحديثة. فعالم الاجتماع ألين غاتمان، لاحظ أن الرياضات الحديثة تُشبه "طقوسًا علمانية" تُؤدي وظيفة إظهار الهوية الوطنية والنماذج الذكورية في سياق لم تعد الحرب فيه خيارًا مقبولًا سياسيًا أو أخلاقيًا. الطقوس والأعلام والنشيد الوطني في البطولات الدولية تُحاكي مسرح الحرب، ولكنها تُتوج بالمصافحات.

وتُعد الألعاب الأولمبية بشكل خاص ساحة لهذا النوع من الصراع الرمزي. فقد تصوّر مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، بيير دي كوبرتان، البطولة كوسيلة لتعزيز السلام من خلال التشجيع على التفاهم المتبادل والاحترام عبر المنافسة الرياضية، شعارُه أسرع، أعلى، أقوى، يحتفي بالتفوق البشري دون الحاجة إلى العنف.

وقد حدث ذلك بالفعل، فبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية معها وفرضت حصاراً اقتصادياً عليها، واستمرت هذه القطيعة عقودا عدة.

لكن خلال بطولة العالم لتنس الطاولة في ناغويا باليابان في ربيع عام 1971، حدث موقف عفوي بين لاعب تنس الطاولة الأميركي غلين كوان (Glenn Cowan) واللاعب الصيني الشهير تشوانغ زدونغ (Zhuang Zedong). قاد هذا التفاعل الودي إلى دعوة مفاجئة من بكين للفريق الأميركي إلى زيارة الصين.

وفي 10 أبريل/نيسان 1971، أصبح فريق تنس الطاولة الأميركي أول وفد أميركي رسمي يزور الصين منذ عام 1949. قضى الوفد 10 أيام في البلاد، حيث لعبوا مباريات استعراضية ودية مع اللاعبين الصينيين، وزاروا المعالم السياحية، وتفاعلوا مع الشعب الصيني.

مهدت "دبلوماسية تنس الطاولة" الطريق للزيارة التاريخية للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين في فبراير/شباط 1972، التي كانت أول زيارة لرئيس أميركي إلى الصين الشيوعية. هذه الزيارة أدت في النهاية إلى توقيع "بيان شنغهاي" وبدء عملية تطبيع العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين.

هذا التحول في الحرب لا يعني أن خطر الحروب الحقيقية والعنف غير المنضبط قد اختفى، بل على العكس، فالمسرح دائمًا مُعدّ، والممثلون دائمًا مسلحون. لكن يكشف هذا التناسق أنه حتى في الحرب، تسعى الدول إلى السيطرة، وإلى رواية تُحكى، ونهاية تُرضي.

ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينسى أن هذا المسرح، مهما بدا منسقًا ومنضبطًا، قد يخرج عن السيطرة. فالعروض المسرحية، مهما كانت محكمة، تظل معرّضة لأن يحولها الممثلون إلى ارتجال، وحينها قد تعود الحرب إلى سيرتها الأولى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق