قراءة نفسية في الإستراتيجيات المجنونة - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في فيلم ستانلي كوبريك "دكتور سترينجلوف"، لا يظهر الفناء النووي من الفوضى، بل من دقة الأنظمة المصممة لضمان النظام. يجسّد الفيلم كيف تتقاطع الأيديولوجيا، والأتمتة، والولاء للإجراءات، لتنتج الكارثة.

إن هوس الجنرال ريبر بنظرية "تسلل الشيوعيين عبر فلورة المياه" يطلق سلسلة أحداث تكشف هشاشة المنطق الكامن وراء فكرة "الدمار المتبادل المؤكد". أما البيروقراطيون في غرفة الحرب، فيبقون مشلولي الحركة بفعل الإجراءات، عاجزين عن إيقاف المسار نحو الفناء.

ويكشف الفيلم عبثية هذه العقائد عندما يكشف السوفيات عن وجود جهاز يوم القيامة السري المصمم لإفناء الكوكب إذا تعرضوا لهجوم. بيدَ أن كونه سرًا من الأساس قد أجهض الغاية منه كرادع. وهنا يكمن التناقض: فهو سلاح عقلاني لدرجة أنه يضمن نهاية العالم، ولا عقلاني في الآن نفسه إذ يلغي مساحة الحكم البشري والمساءلة الأخلاقية.

واللافت أن هذه الآلة لا تظهر أبدًا في الفيلم، إنما يتم التلميح إليها ووصفها دون رؤيتها. وغيابها ذاته هو المغزى: فالردع لا يتحقق عبر التصريح، بل عبر الإيحاء.

وقد تردّد هذا التماثل الشاذ في المواجهة التي استمرت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل، والتي بدأت في 9 يونيو/ حزيران بعد أن شنت إسرائيل هجمات غير مبررة على إيران. ورغم أن الأسلحة النووية لم تُستخدم، فإن النزاع دار في ظل تهديد دائم بتصعيد إقليمي ذي عواقب عالمية.

لقد تطورت عبثيات الحرب الباردة التي سخر منها كوبريك في "دكتور سترينجلوف" إلى نمط خبيث في سياق الحروب المعاصرة.

فما كان ذات يوم مسرحيًا في جنونه، أي نظرية الردع، أصبح آليًا، وخوارزميًا، وهادئًا، متغلغلًا في الأنظمة التي تحكم الفعل العسكري اليوم. وهكذا، فإن مجرد امتلاك هذه الأسلحة بات شكلًا جديدًا من التهديد. فالردع لم يعد صراخًا بل همسًا يسمعه الخصم جيدًا.

إعلان

دخلت إسرائيل الحرب بلا إستراتيجية خروج واضحة، معتمدة إلى حد بعيد على افتراض تدخل الولايات المتحدة. وبينما ركزت الضربات الأولية على المواقع النووية، توسعت بحلول 23 يونيو/ حزيران لتشمل أهدافًا غير نووية، كالسجون، في إشارة إلى نية أوسع لزعزعة أو ربما إسقاط النظام الإيراني.

يسخر "دكتور سترينجلوف" من تهديد الردع النووي، حيث لا ينشأ الفناء من الفوضى، بل من منطق بارد منهجي لهياكل أُنشئت لحفظ النظام. يكشف الفيلم كيف تتضافر الأيديولوجيا والتكنولوجيا والطاعة البيروقراطية لخلق الكارثة لا عبر الجنون، بل عبر تصميم متقن.

أما اللغة التي غمرت أزمة إيران- إسرائيل من قبيل "الدفاع عن الوطن"، و"القضاء على التهديدات"، و"العدالة الإلهية"، فمشبعة بالمطلقات الأخلاقية. ونظرًا للطابع التاريخي لهذه الحرب، ظلت هذه الشعارات متكررة عبر العقود، وتعود إلى السطح عند كل توتر حاد.

تبيّن الحروب المعاصرة أنها لم تعد مجرد صدام قرارات، بل هي تلاقٍ للأنظمة: الأيديولوجية، والتكنولوجية، والنفسية، تتحرك جميعًا بزخم لا يكترث بمعاناة الإنسان.
وكما في "دكتور سترينجلوف"، بدت الإرادة البشرية ثانوية أمام منطق الأنظمة التي انطلقت بالفعل. ويذكّرنا الفيلم بأن "فن الردع هو زرع الخوف في ذهن العدو من الهجوم".

إنها، قبل كل شيء، مسرحية قلق، ليست مسألة دقة علمية بقدر ما هي رقصة نفسية. وفي هذه الرقصة المروعة، ما يهم ليس السلاح ذاته، بل الظل الذي يلقيه على خيال العدو.

الضرورة المشيدة على الخيال

تقدّم نظرية الأيديولوجيا لدى الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجيك عدسة نافعة هنا؛ فالنزاعات من هذا النوع لا تُخاض فقط، بل يُعتَقَد أنها حتمية. ويرى جيجيك أن الأيديولوجيا لا تعمل على حجب الواقع فحسب، بل على تقديم الأزمات كضرورات داخلية.

"وظيفة الأيديولوجيا"، كما يكتب، "ليست في تقديم صور زائفة عن الواقع، بل في تقديم الواقع نفسه مبنيًّا بالضرورة على خيال معين".

وهذا ما حدث في نزاع إيران-إسرائيل: فقد صيغت القرارات الإستراتيجية لا كخيارات ظرفية، بل كمسار "عقلاني" وحيد ممكن ضمن سرديات أيديولوجية سابقة البناء.

يمكن النظر إلى حرب إسرائيل مع إيران كتصعيد مباشر لحملتها العسكرية الأوسع بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. فبعد استهدافها الجماعات المدعومة إيرانيًا مثل "حزب الله" في لبنان، و"أنصار الله" في اليمن، انتقلت إسرائيل من مواجهة الوكلاء إلى مواجهة إيران نفسها.

غير أن جوهر الصراع أعمق وأبعد زمنًا. فقد دعت إيران مرارًا إلى إزالة إسرائيل، في حين صوّر القادة الإسرائيليون إيران دائمًا كتهديد وجودي. لم تكن هذه مجرد مواقف جيوسياسية أو عبارات خطابية، بل هياكل أيديولوجية حوّلت الحرب إلى التزام ما ورائي.

وهذا يعكس رؤية "سترينجلوف" لعالم أصبحت فيه ماكينة الحرب اللغة الوحيدة المتاحة، وأي حديث بخلافها يعد خيانة لمنطق النظام.

إن بصيرة جيجيك بشأن "الفاعلية الرمزية" للأنظمة الأيديولوجية تكشف الكثير هنا؛ فالأيديولوجيا تظل قائمة حتى إن لم يؤمن بها أحد ما دام الجميع يتصرفون كما لو كانوا يؤمنون.

إعلان

وفي المواجهة التي دامت اثني عشر يومًا، أدت الدولتان رقصة التصعيد، لا لأنهما أرادتا الحرب بالضرورة، بل لأن الأنظمة التي شيّدتاها فرضت ذلك. وكجهاز يوم القيامة، لم يكن بالإمكان تعطيل هذه الأنظمة دون الظهور بمظهر الضعف. أصبح الدمار المتبادل ليس مجرد احتمال، بل النهاية المنطقية.

ويذكّر ذلك بهجمات إيران الانتقامية في أبريل/ نيسان 2024 على إسرائيل ردًا على قصف قنصليتها في سوريا، وهو تصعيد لم يكن الغرض منه على الأرجح إشعال حرب شاملة.

بكسلات وإشعارات بدل اللحم والحزن

يرى جيجيك أن الرعب الحقيقي لا يكمن في اللاعقلانية بل في فرط العقلانية: حين يتخفى الجنون في ثوب الإستراتيجية.

أما الفيلسوف بيونغ-تشول هان فيقدّم منظارًا مكملًا بالإشارة إلى تجرّد العنف في الحرب الرقمية. فهو يصف "اختفاء الآخر" في ساحة المعركة الرقمية: حيث يصبح النزاع مسألة بكسلات وإشعارات بدلًا من اللحم والحزن.

وأثناء المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، كانت معظم الصور المتداولة عالميًا لقطاتِ شاشة: أقواس صواريخ، أهدافًا بالأشعة تحت الحمراء، رؤوسًا حربية معترضة، وصورًا معقمة خالية من الألم. صار الموتى مجرد أرقام في الإحصاءات.

وكما يحذر هان، كلما زادت افتراضية الحرب، زاد تآكل التعاطف. فالحرب تصبحُ محاكاةً، والمشاهدون متفرجين مخدَّرين بدلًا من شهودٍ مذعورين.

وهكذا، خيضت حرب الأيام الاثني عشر ليس فقط على الأرض، بل على الشاشات، وتغريدات التواصل الاجتماعي، ولوحات القيادة العسكرية، وعناوين الأخبار المتحركة. القتل جرى بدقة عالية، أما الحزن فلم يُرَ. كانت الأهداف "تُزال" لا "تُقتل". تنهار الأبنية فوق العائلات، لكن ما يصل إلى وعي الجمهور أنماط هندسية للدمار بلا سياق إنساني.

ويحذّر هان من أن هذا التخدير الجمعي يؤدي إلى "مجتمع التحكم الكامل"، حيث يمكن للحرب أن تستمر بلا مقاومة شعبية، لأن تكلفتها الأخلاقية قد أُفرغت من معناها. والخسارة ليست في الأرواح وحدها، بل في المعنى ذاته.

أجهزة يوم القيامة الجديدة

يفسر علم النفس الاجتماعي كيف يؤدي تقسيم الجماعات إلى "نحن" و"هم" لتعميق اللاعقلانية الجماعية. ففي زمن الحرب، يشتد الميل إلى تفضيل الذات وتجريد الآخر من إنسانيته.

خلال الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، كانت كل وسيلة إعلامية تؤبن ضحاياها، وتهمّش ضحايا العدو. صارت المأساة قبلية. لم يكن التعاطف غائبًا، لكنه كان انتقائيًا.

هذا الصدى المتبادل للصمم أتاح تسويغ العنف بهدوء، ليس عبر كراهية فجة، بل عبر تطبيع اللامبالاة.

وهنا نصل إلى السؤال الأشد قتامة لدى جيجيك: ماذا يحدث حين نتعلم أن نتعايش مع العبث؟ حين تقنعنا الأيديولوجيا أن ضربة طائرة مسيرة على طفل في الثانية "مؤسفة لكنها ضرورية"؟

ومع ازدياد ذكاء الآلات، يبدو أن البشر أكثر استعدادًا لتفويض الأخلاق لها. الاستهداف المعزز بالذكاء الاصطناعي، بروتوكولات الانتقام التنبُّئِية، أنظمة الاعتراض المؤتمتة، هذه كلها أجهزة يوم القيامة الجديدة.

هي لا تتطلب الكراهية لتعمل. بل تحتاج إلى اللامبالاة. وهذه هي الثمرة التي تزرعها الحرب الرقمية.

في "دكتور سترينجلوف" هناك عبارة شهيرة: "تعلمت ألا أقلق وأحب القنبلة". أما اليوم، فلم نكتفِ بحبها، بل حولناها إلى لعبة، ورقّمناها، وجمّلناها. لم نعد نخشى القنبلة بقدر ما نخشى الظهور بمظهر الضعيف.

مفارقة الحرب الحديثة أنه كلما امتلكنا قوة أكبر، ازددنا هشاشة. وفي هذا الضعف، نتشبث بوهم أن الدمار ليس حتميًا فحسب، بل يحمل معنى.

أزمة إيران-إسرائيل، رغم قصرها، تمنحنا لمحة مرعبة عن مستقبل تصبح فيه الحرب مؤتمتة، والأيديولوجيا طقسًا، والتعاطف أثرًا منسيًا.

فإذا كان جيجيك يكشف كيف تبرر الأيديولوجيا الفناء، وهان يفضح كيف تخفي الرقمنة هذا الفناء، فإن علم النفس الاجتماعي يبيّن كيف تبقي الديناميات الجماعية على استمراره.

إعلان

معًا، يقدمون تحذيرًا: حين لا نعود نرى الآخرين كبشر، بل كضحايا ضروريين في منطق كوني جبار، فإن آلة يوم القيامة لا تصبح شيئًا نخشاه؛ بل شيئًا نسكن فيه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق