عاجل

"الحياة السريّة لمها توفيق".. رواية نزع الأقنعة! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

 

كتبت بديعة زيدان:

 

تمتاز رواية "الحياة السرية لمها توفيق" للروائية المصرية هبة عبد العليم، بأنها تقدم سرداً نفسياً عميقاً لصورة مرآوية للوجه المكشوف علناً وللآخر المخفي خلف قناع، علاوة على ما تحويه من عناصر تجعلها مختلفة عن الكثير من الروايات العربية المعاصرة.
وتتناول الرواية الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، حكاية "مها عادل توفيق"، المصورّة والمترجمة المصرية، التي تصارع الوحدة بعد طلاقها، ولا تجد بدُّاً من إنشاء حساب سري وهمي على "فيسبوك" باسم "ماتي"، وهو اسم الدلع الذي كان والدها يصبغها به، لتنتزع لنفسها مساحة جديدة للتواصل مستترة خلف شخصية مجهولة، في زمن يتداخل فيه الواقعان الفعلي، إن كان ثمة واقع فعلي، بالافتراضي.
وتعكس الرواية حالة الانقسام بين "مها" و"ماتي"، في صوتين سرديين مختلفين، لكل منهما طباعه ونزاعاته، ما بين خضوع وخنوع من جهة، وتمرد وجرأة من جهة أخرى.
وهذه الحالة التي تفاقمت بعد الطلاق، تعود إلى حيث طفولتها في عائلة على الرغم من أنها تبدو تقليدية وعادية، إلا أنها تلعب دوراً كبيراً في تعميق هشاشتها النفسية، فيما شكلت حادثة ضرب شقيقها الأصغر لها نقطة محورية ومؤلمة في الرواية، وتحديداً حين يتحوّل مصدر الحماية المفترض إلى أداة للقمع الجسدي والنفسي، وهو ما ينسحب على عديد بل ربّما كثير من العائلات في المجتمعات التي تُعطي الذكور حقّ "الوصاية" حدّ "التأديب".
لكن الرواية لا تهاجم العائلة بمفهومها العام، بل تُظهر كيف أن العائلة المحافظة قد تخلق شخصيات ممزقة من الداخل، تميل إلى العزلة، ولا تملك أدوات التصريح أو التعبير، فـ"مها" لا تعلن كراهيتها لعائلتها، لكنها تؤكد على رفضها لقيمهم المتوارثة التي سلبتها حريتها.
من رحم واقع كهذا، تولد الشخصية البديلة "ماتي" كمخرج من القيود المتراكمة، والتي عبرها تنجح في كشف العوالم الخفية لنماذج من رجال يتخفّون خلف أقنعتهم الاجتماعية، مُمّثلين بالشيخ الداعية، والطبيب، والمهندس، مبرزة كيف أن الواقع الافتراضي، وخصوصاً في علاقات "ماتي"، يُزيل الأقنعة التي يرتديها الآخرون، ويكشف تناقضاتهم، وازدواجيتهم، فالشيخ الداعية الذي يظهر كشخص ملتزم علناً يتحدث عن الفضيلة، يدخل في دردشات مصوّرة مع "ماتي" مفعمة بالألفاظ والتصرفات التي تعكس رغبات جسدية مكبوتة، في كشف للتناقض بين الخطاب الديني العلني والرغبات الجسدية والنفسية المقموعة، وهو ما ينطبق على الطبيب والمهندس.
وكل من الشخصيات الثلاثة لا تعبر عن ذاتها بقدر ما تشكل انعكاساً لنماذج يعيشون حياة مزدوجة في مجتمعات تُقدّس الشكلانية، متأرجحين بين الظاهر الطاهر والباطن المعتم، في حالة لا يقينية حول أيهما حقيقة كل منهم كما حال "مها/ ماتي"، التي من خلال هويتها الزائفة، ترصد النفاق الاجتماعي العام.
"تحدثتُ إلى مصريّين وعرب، أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين، بائعي فاكهة وأصحاب شركات، فنّانين وحرفيّين وموظفين وتجّار. استهوتني اللعبة، وأدمنتها. لم يكن الأمر صعباً، فأنا قارئة نهمة ومصوّرة أرى القصة خلف كل كادر. الأكاذيب وصناعة القصص جزء من تكويني وعملي بالأساس.. أقضي الليلة مع الرجل منهم وهو يحاول إبهاري، أستمع لقصصه وأكاذيبه، وفي النهاية أقوم بحظره. لم أعد أستطيع التمييز بينهم. كانوا جميعاً نسخاً متشابهة. لا شيء حقيقي. لا شيء أصلي. لا شيء جديد".
وهنا لا تكتفي رواية "الحياة السرية لمها توفيق" بكشف حياة شخصيتها المحورية، بل تفضح أيضاً الطبقات الخفية من شخصيات الرجال المحيطين بها، وتكشف أن الانفصام بين الظاهر والباطن سمة إنسانية عامة.
ويمكن وصف الرواية بأنها جريئة لكونها تتناول موضوعات حسّاسة ومسكوتاً عنها اجتماعياً وسردياً إلى حد ما، بحيث تقدّمها من زاوية إنسانية غير نمطية، تكسر التابوهات، عبر الاقتحام المُغامِر لتفاصيل العلاقات الجنسية الافتراضية التي تخوضها "مها" عبر حسابها المزيف، ولكن دون أن يشكل هذا الاقتحام ومن ثم العرض نوعاً من الإثارة أو الفضائحية، بل كمرآة للعزلة النفسية، في طرح صريح جداً، لا يدين الشخصية المحورية بتكوينيها "مها" و"ماتي"، ولا يبررهما، بل يعرض التجربة كما هي.
وتكسر الرواية الصورة النمطية للمرأة "المحتشمة المطيعة"، فـ"مها" ليست خانعة ولا خارقة، بل امرأة تخوض تجربة حياتية، مليئة بالتناقضات، والرغبات، دون أن تعاقبها سردياً أو تحاكمها أخلاقياً.
واللافت في الرواية أنها نجحت في وصف المشاعر الجسدية والنفسية المرتبطة بالتجربة الرقمية دون استخدام ألفاظ بذيئة، وإن كان التصوير حقيقياً، يتخطى أي رقابة داخلية قد تفقد التوصيف حقيقيته، دون البحث المضني عن بدائل توصيفية قد تكون أكثر قبولاً اجتماعياً، ولكنها بالضرورة قد تهبط بالرواية فنيّاً، ومن هنا جاء التوازن بين الجرأة الأدبية والحرفية الفنيّة، بعيداً عن الوعظ، والمباشرة، مع ترك المساحة رحبة للمتلقي لتأمل التجربة من داخلها، والتعاطي معها إنسانيّاً لا قيميّاً، فهي رواية تكسر الصمت حول ما يعيشه كثير من النساء والرجال أيضاً في الخفاء من رغبة، ووحدة، وانفصام بين ما يعاش وما يظهر، وخطر التعلّق الرقمي والتمثيل الزائف، من خلال سرد ناعم وصادم في آن، وحسّاس لكنه غير خجول في الوقت ذاته.
وتميّز السرد بالذكاء والحداثة لجهة التقنية والأسلوب، كحال "السرد المزدوج"، عبر الانقسام بين صوتي "مها" و"ماتي"، ولكل منهما طابعه الذي هو انعكاس لطبيعة تكوين كل منهما، ما أنتج توتراً محموداً في السرد، نجح في أن يكون انعكاساً للصراع الداخلي بين الامتثال والانفجار، كما أن الرواية لا تتبع خطاً زمنياً تقليدياً، بل تنتقل بين الحاضر والماضي بسلاسة، من أيام الطفولة والعائلة، إلى الزواج فالطلاق، فالحكايات الرقمية الساخنة، عبر بنية زمنية متقطعة تعكش تشوش الشخصية المحورية.
وهنا يمكن القول إن الرواية اتكأت على أدوات سردية متطورة، لتعيد بناء اللغة والهوية والشكل الأدبي بما يتناسب وتعقيد العصر الرقمي والتمزق الداخلي للمرأة الحديثة، بحيث منحت هذه الفنيات الرواية طابعاً نفسياً وإنسانياً عميقاً، وجعلتها أقرب إلى تجربة شعورية حقيقية، لا مجرد حكاية أو "حدوتة".

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق