
أستاذ العلوم السياسية بالولايات المتحدة الأميركية. ومؤلف كتاب "الإسلام والسلطوية والتأخر: مقارنة عالمية وتاريخية"
8/7/2025-|آخر تحديث: 11:48 (توقيت مكة)
لطالما كانت الليبرالية الأيديولوجيا السائدة التي تشكّل الأنظمة السياسية والاقتصادية في العديد من الدول الغربية. فالليبرالية تقوم على سيادة القانون، وحماية حقوق الملكية، وفصل السلطات، وهي كلها أسس تهدف إلى صيانة الحريات الفردية.
كما أن الليبرالية وفّرت أساسًا للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وسعت إلى تعزيز القانون الدولي وحقوق الإنسان.
بيدَ أن الليبرالية اليوم تواجه أزمة عميقة على المستويين؛ الدولي والداخلي. فعلى الصعيد الدولي، يتمحور النقد الأساسي للمؤسسات الليبرالية حول ما يُنظر إليه من ضعفها، بل ومن نفاقها المتزايد.
إذ يُنظر إلى هذه المؤسسات غالبًا على أنها تخدم المصالح الإستراتيجية للدول الغربية الكبرى و"إسرائيل"، بدلًا من أن تكرّس، فعلًا، نظامًا دوليًا قائمًا على القواعد.
لقد دفعت العمليات العسكرية الأخيرة لـ"إسرائيل"، ولا سيما عدوانها المدمّر على غزة الذي أسفر عن استشهاد أكثر من خمسين ألف فلسطيني، المؤسسات الدولية إلى أزمة وجودية حقيقية.
وتُبرز هذه الأحداث كيف أن القوى الغربية- خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتعطيل قرارات وقف إطلاق النار متى شاءت.
كما تكشف عن تآكل مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية، كما حدث عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدعي العام للمحكمة كريم خان عقب إصداره مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
أما داخليًا، فالليبرالية أيضًا تمرّ بأزمة، بل حتى في الدولة التي تُسمّى "قائدة العالم الحر"، أي الولايات المتحدة. فقد شكّل قادة شعبويون حول العالم، مثل دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو، وناريندرا مودي، تحالفات مناهضة لليبرالية مع قوى دينية وقومية، متحدّين بذلك المعايير والمؤسسات الليبرالية في بلدانهم.
إعلان
وعلى عكس الليبرالية، لا تُعدّ الشعبوية أيديولوجيا واضحة المعالم؛ بل هي حركة سياسية تدّعي تمثيل "الشعب" ضد "النخبة" الفاسدة و"الدخلاء" المهددِّين؛ بمن فيهم المهاجرون والأقليات. وغالبًا ما يُضعف القادة الشعبويون سيادة القانون، ويقوّضون مبدأ فصل السلطات، ويوسّعون سيطرة الدولة على الحريات الفردية.
فكيف يمكن لليبرالية، إذن، أن تواجه الشعبوية بشكل فعّال؟ يجب أن تبدأ بمواجهة مشكلاتها الذاتية، وخاصة تورطها في النيوليبرالية والمعايير المزدوجة للنظام الدولي الذي تقوده الدول الغربية.
خلال العقود الثلاثة الماضية، باتت الليبرالية ترتبط بشكل متزايد بسياسات اقتصادية نيوليبرالية عمّقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ففي الولايات المتحدة، يتمثل الأثر الأكثر وضوحًا لهذا التفاوت في تزايد أعداد المشردين، والذين تجاوز عددهم الآن 650 ألف شخص.
ومع أن بعض عناصر النيوليبرالية، مثل حماية حقوق الملكية واقتصادات السوق، لها جاذبية عالمية، فإن هذا النموذج أيضًا قوبل بانتقادات واسعة نظرًا لأنه يُغني الأغنياء على حساب الفقراء.
وقد أصبح هذا التفاوت الاقتصادي المتنامي أرضًا خصبة للخطاب الشعبوي. فبحسب بيانات الاحتياطي الفدرالي الأميركي لعام 2025، يسيطر 1% من الأميركيين على 31% من الثروة الوطنية. وتملك الشريحة من 2% إلى 10% ما نسبته 36%، أما الفئة بين 11% و50% فتمتلك 30%. وفي المقابل الصارخ، لا يملك نصف السكان الأدنى سوى 3% من الثروة.
إن مثل هذه الفوارق تغذي الخطاب الشعبوي الذي يصوّر المجتمع كساحة صراع بين نخبة فاسدة وجماهير مقهورة. لذلك، فإن الراغبين في التصدي للشعبوية عليهم أيضًا أن يواجهوا الظروف الاقتصادية التي تغذيها، عبر معالجة التفاوت داخل الدول والظلم الاقتصادي على مستوى العالم.
وعلى الساحة الدولية، يتعين على الليبرالية كذلك أن تواجه المعايير المزدوجة التي طالما قوضت مصداقيتها. فعندما تستخدم الدول الغربية المؤسسات الدولية لحماية نفسها و"إسرائيل" من المساءلة بشأن الحروب والجرائم العسكرية- بينما تدين بشدة روسيا أو غيرها من القوى غير الغربية- فإنها بذلك تزعزع شرعية هذه المؤسسات نفسها.
فالقوة السياسية لا تقوم فقط على القوة العسكرية أو الهيمنة الاقتصادية؛ إنما تعد الشرعية عنصرًا أساسيًا أيضًا.
وحين يتجاهل قادة- يدعون الليبرالية، مثل جو بايدن- الأعراف الدولية خدمةً لمصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل"، فإنهم يضعفون النظام الدولي، ويجعلونه عرضة لاستغلال الفاعلين الشعبويين.
ولكي تتمكن الدول الغربية من مواجهة الشعبوية بشكل موثوق على الصعيد العالمي، فلا بد أن تجدد التزامها بالمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. فاستعادة سلطة هذه المؤسسات وحيادها أمر ضروري لإعادة بناء شرعية النظام الليبرالي.
وعلاوة على ذلك، ينبغي لليبرالية أن تواجه أوجه القصور في ذاتها، وخاصة ارتباطها بنموذج رأسمالي يعمّق الفوارق الطبقية.
وبمعالجة هذه العلل الداخلية وتجديد التزاماتها الجوهرية، يمكن لليبرالية أن تعيد فرض نفسها بديلًا موثوقًا ومرنًا للشعبوية على الصعيدين؛ الداخلي والدولي.
إعلان
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق