التنميط العرقي بفرنسا ثقوب في رداء الديمقراطية - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

يقول الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول: "من الجيد جدا وجود فرنسيين ذوي بشرة صفراء أو سوداء أو سمراء.. إنهم يثبتون أن فرنسا منفتحة ولها رسالة عالمية، لكن بشرط أن يظلوا أقلية صغيرة لتبقى فرنسا فرنسا، فنحن، في النهاية، شعب أوروبي من العرق الأبيض والثقافة اليونانية واللاتينية والدين المسيحي".

ويرى بعض المراقبين أن هذه المقولة تعكس حالة من الاستعلاء التي طبعت الحياة السياسية الفرنسية، ويعتبرون أن مثل هذه التصريحات ساهمت في ترسيخ ظاهرة التنميط العرقي التي أُدينت فرنسا بسببها مؤخرا من قبل محكمة أوروبية.

Africain members of the community pose next to French President Charles de Gaulle (C), on September 11, 1959 during the 5th executive council of the community at Elysee Palace, among them Congolese Fulbert Youlou (in white), French prime minister Michel Debre (at De Gaulle's Right), and Ivroy Felix Houphouet-Boigny (2ndR) and Leon M'Ba (R). (Photo by AFP)
أعضاء من الجالية الأفريقية يقفون بجانب الرئيس الفرنسي شارل ديغول (وسط) في قصر الإليزيه عام 1959 (الفرنسية)

التنميط العرقي

تعرف منظمة العفو الدولية التنميط العرقي بأنه تحقق من الهوية تقوم به الشرطة على أساس ملامح الوجه والخصائص الجسدية المرتبطة بأصل الشخص، ويُعتبر تصرفا غير قانوني لما يحمله من تمييز وإذلال وحط من قدر الأشخاص، ويمكن أن يترك آثارا خطيرة ومدمرة على كل من يقع ضحية له.

وتعتبر اللجنة الأوروبية لمكافحة العنصرية والتعصب التابعة للمجلس الأوروبي أن التنميط العرقي هو "استخدام الشرطة، دون مبرر موضوعي ومعقول، لعوامل مثل العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو الجنسية في أنشطة السيطرة أو المراقبة أو التحقيق".

وبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية، فإن ممارسات التنميط العرقي منتشرة وموثقة في فرنسا على نطاق واسع، وهي متجذرة بعمق في عمل الشرطة، فالشخص الذي يُنظر إليه على أنه أسود أو عربي يكون أكثر عرضة للتوقف بـ20 مرة من بقية السكان.

وترى المنظمة أنه رغم إدانة هذه الممارسة من طرف مؤسسات حقوق الإنسان الأوروبية والدولية وحتى الفرنسية، فإن القوانين الفرنسية لم تحظر حتى الآن وبشكل لا لبس فيه التحقق من الهوية على أسس تمييزية.

إعلان

اعتراف رسمي

تؤكد منظمة العفو الدولية أنها أطلقت في عام 2021، رفقة 5 منظمات فرنسية ودولية منها منظمة هيومن رايتس ووتش، أول عمل جماعي ضد ممارسات التنميط العرقي في فرنسا وطالبت الحكومة بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية اللازمة لوضع حد لتلك الممارسات.

ونظرا لعدم تجاوب الحكومة لجأت المنظمات إلى مجلس الدولة (أعلى هيئة قضائية في فرنسا) الذي أصدر في أكتوبر/تشرين الأول 2023 حكما اعترف فيه بوجود عمليات تحقق تمييزية في الهوية، ولكنه لم يستخدم سلطته لإصدار الأوامر للحكومة باتخاذ التدابير اللازمة لوضع حد لذلك.

وإزاء تقاعس الحكومة عن اتخاذ أي إجراءات للحد من ظاهرة التنميط العرقي، قررنا، تقول المنظمة، رفع الأمر إلى العدالة الدولية، ففي أبريل/نيسان 2024 تم إحالة القضية إلى لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعربت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عن قلقها إزاء استمرار ممارسات التنميط العرقي في فرنسا وانتقدت عدم وجود تدابير فعالة لوضع حد لها.

الشرطة الفرنسية تعتقل متظاهرا خلال مظاهرة ضد الظلم الاجتماعي في باريس (شترستوك)

إدانة الدولة الفرنسية

حسب وكالة الصحافة الفرنسية وفي سابقة من نوعها، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 26 يونيو/حزيران المنصرم بإدانة فرنسا بسبب ظاهرة التنميط العرقي ضد أحد مواطنيها.

وأمرت المحكمة -وهي إحدى أعلى محاكم الاتحاد الأوروبي– الدولة الفرنسية بدفع تعويضات لمواطن من ذوي الأصول العربية يدعى كريم طويل رأت المحكمة أنه تعرض لمعاملة تمييزية ومورس عليه التنميط العرقي من طرف الشرطة الفرنسية.

واعتبرت المحكمة أن التحقيقات كشفت عن مجموعة من الأدلة الخطيرة والدقيقة والمتسقة على أن ممارسات الشرطة ضد كريم طويل تمت "بناء على مظهره" مما يمثل انتهاكا للمادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وخلصت المحكمة إلى أن الحكومة لم تقدم أي مبرر موضوعي ومعقول لمسألة إيقاف الشرطة لكريم طويل 3 مرات خلال 10 أيام في مدينة بيزنسون شرقي فرنسا.

وحسب تقرير نشرته صحيفة "انديبندان" الفرنسية حول الموضوع، فقد وصفت المحكمة الأوروبية القضية بأنها "مؤثرة" مما يعني أنه ستكون لها تبعات على فرنسا وتشريعاتها.

ونقلت الصحيفة عن أحد المحامين عن المدعين في القضية بأن الحكم بمثابة انتصار، لأن هناك إدانة في نهاية المطاف، وهذا يعني أن الدولة الفرنسية يجب أن تتحمل مسؤوليتها وتغير طريقة سيطرتها على الهوية.

المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قضت بإدانة فرنسا بسبب ظاهرة التنميط العرقي ضد أحد مواطنيها (الفرنسية)

ووفقا لموقع "لو كلوب جيرديك" الفرنسي المختص في المجال القضائي، فإن قضية طويل ليست حالة فردية وتعتبر تتويجا لمعركة قانونية طويلة بدأت منذ عام 2011.

ففي ذلك العام بدأت مجموعة مكونة من 13 رجلا من أصل عربي أو أفريقي معركة قانونية ضد الحكومة الفرنسية منددين بممارسات تمييزية من قبل الشرطة تتعلق بالتحقيق بناء على ملامح الوجه والجسد وما يمثله ذلك من إهانات.

وقد تقدم المتضررون أولا برسالة إلى وزير الداخلية لمعرفة أسباب ما يعتبرونه عمليات تحقيق تمييزية خضعوا لها، لكنهم لم يلقوا ردا، فرفعوا دعوى قضائية ضد وزير الداخلية أمام المحكمة العليا في باريس التي رفضت الدعوى.

إعلان

وبعد استنفاد سبل الانتصاف محليا تقدم 6 من هؤلاء المتضررين بشكوى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 2017، استنادا إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي 26 يونيو/حزيران المنتهي أصدرت المحكمة حكمها بإدانة فرنسا في قضية أحد المدعين وهو كريم طويل، بينما اعتبرت أنه بالنسبة للمتبقين لم يتوفر ما يكفي من الأدلة لإثبات حصول معاملة تمييزية ضدهم.

لكن وكالة الصحافة الفرنسية نقلت عن أحد محامي المدعين يدعى بن عاشور قوله إن القضية ستستمر من أجل التصدي لهذه الظاهرة، مذكرا بأنه في أبريل/نيسان 2024، توجهت 5 منظمات فرنسية ودولية إلى الأمم المتحدة للاعتراف بـ"الطبيعة الرسمية" لهذا التمييز.

وبحسب استطلاع أجرته منظمة المدافع عن الحقوق ونشرته صحيفة "لا بروفانس" الفرنسية، أفاد 26% من المشاركين بأنهم تعرضوا للتوقيف من قبل الشرطة أو الدرك مرة واحدة على الأقل في السنوات الخمس الماضية، مقارنة بـ16% في عام 2016.

Police officers check young men's identity in downtown Marseille, southern France, on March 21, 2024, two days after the visit of French President, focused on security and drug trafficking. Emmanuel Macron launched on March 19, 2024 a major operation against drug trafficking in Marseille and other French cities, saying that gangland battles that last year left dozens dead had made life a misery for residents. (Photo by Nicolas TUCAT / AFP)
ضابطا شرطة يتحققان من هوية شخص خارج محطة قطار غار دو نور في باريس (الفرنسية)

وجه باريس المظلم

حسب تقرير على شبكة تي آر تي الدولية التركية بعنوان "حرية مساواة إخاء في فرنسا إلا أن تكون أسود أو عربيا" فإن باريس التي عرفت بمدينة الرومانسية والأضواء، لها وجه آخر مظلم وخطير للغاية، حيث يعتقل الأشخاص ذوو البشرة الداكنة أو الأصول العربية، ويُعذبون ويُصنفون على أنهم "غرباء" وغير فرنسيين بما فيه الكفاية.

وفي تصريح لشبكة تي آر تي أكدت الدكتورة أمينة عيشاتا داس، عالمة سياسية في جامعة دي مونتفورت، أن التنميط العرقي يجب فهمه كعرض من أعراض مشاكل منهجية كبرى تعاني منها فرنسا.

ويورد تقرير تي آر تي أنه غالبا ما تتفاقم عمليات التحقق من الهوية التي تجريها الشرطة، والتي تستهدف تحديدا الشباب السود والعرب، إلى عنف، ومن الأمثلة المروعة الأخيرة حادثة إطلاق النار التي أودت بحياة نائل، وهو شاب جزائري يبلغ من العمر 17 عاما، أثناء توقيفه على طريق عام، وقد أدت هذه الحوادث إلى تفاقم الشعور بالظلم.

وكشف استطلاع أجراه المجلس التمثيلي لجمعيات السود في فرنسا أن 91% من المشاركين السود أفادوا بتعرضهم للتمييز العنصري، وذكر 85% منهم أن لون بشرتهم هو السبب المباشر.

ووفقا لتقرير صادر عن وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية، تعرّض ما يقرب من نصف المسلمين المستطلعة آراؤهم في فرنسا للعنصرية في حياتهم اليومية، والتي غالبا ما ترتبط بألوانهم أو ملابسهم أو أصولهم العرقية أو معتقداتهم.

ويعاني المسلمون من التمييز عند التقدم للوظائف، وتواجه النساء اللواتي يرتدين رموزا دينية ظاهرة، مثل الحجاب، مستويات أعلى من التحيز في مكان العمل، حيث تتعرض 45% منهن للتمييز في بيئات العمل، وهي زيادة كبيرة عن 31% في عام 2016.

وتجادل عيشاتا داس بأن هذه الممارسات التمييزية مُتجذرة بعمق في الأطر العنصرية العالمية المنبثقة عن الاستعمار، والتي تنزع الصفة الإنسانية عن السكان السود والعرب/المسلمين وتبيح استهدافهم دون الخشية من أي عواقب، على ما يبدو.

وتشمل آثار التنميط العنصري في فرنسا ما هو أبعد من تجاوزات أجهزة الشرطة، فحسب عيشاتا داس فإن للممارسات العنصرية المُمنهجة تأثيرا كبيرا على المجتمعات المُهمشة على مُستويات مُتعددة فمن المرجح أن تجد هذه المجتمعات نفسها مستبعدة من التعليم، كما هو الحال من خلال حظر الرموز الدينية البارزة في المدارس.

ويخلص تقرير تي آر تي إلى أنه رغم انتشار ظاهرة التنميط العرقي لا يتقدم سوى جزء ضئيل من الضحايا بشكاوى بسبب انعدام الثقة بالنظام القضائي الفرنسي.

فرنسا وعنصرية الدولة

في مقال نشرته المجلة الألمانية "إنترناشونال بوليتيك كوارترلي" تحت عنوان "مشكلة فرنسا في العنصرية وليس الهجرة" اعتبر الكاتب جوزيف دي ويك أنه على الرغم من انخفاض إحصاءات الهجرة لعقود، لا يزال السياسيون الفرنسيون قلقين من استيلاء الأجانب على البلاد.

إعلان

ويعتبر الكاتب أن فرنسا تعاني من أزمة عنصرية روج لها ساستها ومفكروها، ومن هؤلاء رينو كامو الذي أصدر عام 2011 واحدا من أكثر الكتب مبيعا تحت عنوان "الاستبدال الكبير"، حاول من خلاله ترسيخ فكرة أن الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط تُقوّض هوية فرنسا وثقافتها وأن المهاجرين المسلمين جزء من "غزو فرنسا".

ويرى الكاتب أن نظرية كامو "الاستبدالية" التي تُروّج لـ"إبادة جماعية" للسكان البيض في فرنسا ألهمت إرهابيين من دعاة تفوق العرق الأبيض، من كرايستشيرش في نيوزيلندا إلى بوفالو في الولايات المتحدة.

ولا تزال أفكار كامو الاستبدالية تكتسب زخما في فرنسا ليس بالنسبة لليمين المتطرف فحسب بل لمعظم الساسة الفرنسيين، فها هو وزير الداخلية المحسوب على الوسط برونو روتايو يقول إن الحد من الهجرة أمر بالغ الأهمية، لدرجة أنه قد يستلزم التنازل عن سيادة القانون.

ويعتبر الكاتب دي ويك أن القلق الهوياتي الفرنسي المتعلق بالهجرة أمر مُفاجئ وخطير لـ3 أسباب:

أولا، ظلت مستويات الهجرة في فرنسا متواضعة نسبيا لفترة طويلة، وهي الأدنى في أوروبا الغربية، فبين عامي 2004 و2024 بلغ صافي الهجرة إلى فرنسا 183 ألف شخص مُقارنة بـ663 ألفا إلى ألمانيا. ثانيا، لا تطبق في فرنسا سياسات تقدمية تهدف إلى تحقيق حلم الجمهورية بالمساواة العرقية ليكون هذا القلق الهوياتي ردة فعل عليها، ففي فرنسا هناك القليل من سياسات العمل الإيجابي الداعمة للأقليات العرقية التي قد تجعل الأغلبية البيضاء في فرنسا تشعر بالحرمان. ثالثا، هناك تطبيع مخيف في فرنسا مع الخطابات القومية وتقبل لها في السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال صرح وزير الداخلية روتايو أن "الجيلين الثاني والثالث (من المهاجرين) فرنسيون في هويتهم الرسمية لكن يعيشون حالة من التراجع نحو جذورهم العرقية".

وفي السياق ذاته، تتنزل تصريحات الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيك عندما قال: "لا يريد الفرنسيون الأصليون أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم، أو أن يغادروا!".

كما تم مؤخرا تداول تقارير تحذر من أن "أراضي فرنسية بأكملها ستكون قريبا تحت سيطرة الإسلاميين"، والغريب أن وسائل إعلام محافظة وازنة ناقشت بجدية مثل هذه التصريحات الخالية من أي أساس واقعي.

ويخلص الكاتب إلى أن هناك تقليدا عريقا لدى السياسيين والمفكرين الفرنسيين، ربما جذره الجنرال شارل ديغول، وهو أنهم يدّعون ظاهريا عالمية الجمهورية، لكنهم في أعماقهم يُفكرون في مواطنيهم "الحقيقيين" كشعب من عرق وثقافة معيّنة.

ولأوروبا نصيب من التنميط العرقي

حسب تقرير للصحفي لورين ووكر نشره موقع يورونيوز في 28 مايو/أيار الماضي، فقد دقت هيئة مراقبة حقوق الإنسان التابعة لمجلس أوروبا ناقوس الخطر، معتبرة أن العمليات التمييزية التي تدخل ضمن ظاهرة التنميط العرقي أصبحت منتشرة في الاتحاد الأوروبي عموما.

وأوضحت الهيئة أن هذا التمييز يتجلى في تصرف هيئات إنفاذ القانون على أساس الأصل العرقي أو لون البشرة أو الدين أو الجنسية وليس على أساس الأدلة الموضوعية.

وحذر رئيس اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية بيرتيل كوتييه في تصريح ليورونيوز قائلا: "لقد لاحظنا أنه لا توجد دولة أوروبية محصنة حقا ضد التمييز العنصري".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق