"الملجأ".. شيفرة مسرحية حول فلسطين والإبادة في عالم اللاحقيقة! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

 

كتبت بديعة زيدان:

 

بين صاروخ وآخر، حيث الفزع، والمقابر الجماعية، والأجساد الملتوية من الألم، يلجأ الممثلان "جواد" و"سلوى" إلى المسرح، حيث كانا من بين نجومه، هرباً من الموت في حرب مجنونة، ليشكّل الملاذ الفعلي والمجازي لهما، ولشخصيات أخرى كالحارس "نوفل"، وفارّين آخرين من الموت المجاني كالراقصة "شهلا" الباحثة في العالم الجديد، عن تقديم عرض أدائي، والصحافي "نوفل"، الذي يدعي، في مراوحة بين واقع وسراب، أنه قادم لإعداد مادة صحافية حول المسرح في الجغرافيا اللامحددة، وفي زمن الرعب، حيث الروائح الكريهة، التي كانت بشرية، ذات يوم، وحيث الإبادة تتواصل.
الحديث هنا عن مسرحية "الملجأ" الأردنية عن فكرة للفنانة سوسن دروزة وإخراجها بالاشتراك مع الحاكم مسعود، اتكاءً على سينوغرافيا للفنان إيهاب الخطيب، وتجسيد كل من الفنانين: يوسف الشوابكة، وحلا سامي، ومنذر خليل، وسنابل ضمرة، وتامر العساف، وعبد الله الخليل، ومحمد مغاريز، عن نص صاغه نجيب نصير وفريق المخرجين ضمن ورشة عمل لـ"معمل 612"، الجهة المنتجة والمنفذة، واحتضنتها خشبة مسرح أسامة المشيني في العاصمة الأردنية عمّان، مساء أول من أمس.
ويحمل العمل رمزيات ودلالات عديدة، في تجاوز للجغرافيا والزمان الذي يبدو أنه ليس بعيداً، حيث الحديث عن مفاهيم كبرى باتت ضبابية لدى البعض في عالم اللاحقيقة، كالوطن، والهوية، والانتماء، والإنسانية، والصمود، والخذلان، والخيانة، وغيرها، في إشارات على رادار الملتقي عليه أن يلتقطها، ومن ثم يحولّها إلى "كودات" يمكنه عبرها فك شيفرتها، على طريقته، لعله يرى أنها غزة القريبة البعيدة، بالفارق بين المسافة بالكيلومترات والمسافات الشعورية.
ثمة إشارات قد تبدو غامضة، لكنها سرعان ما تتضح إذا تم فك الشيفرة بنجاح، فالمسرحية، كما أراها، تتحدث عن فلسطين، والخطط التي تهدف إلى سرقة الأرض، منذ وعد بلفور، مروراً بالنكبة، فالنكسة، والقرارات الأممية التي قادت إلى "أوسلو" وما بعدها، دون ذكر أي منها، فالعرض الذي يمكن إسقاطه على أي حرب في أي جغرافيا، لم يغفل الخطط القديمة القائمة على تزوير التاريخ تارة، وإعداد الخطط العسكرية واللاعسكرية الجديدة تارة أخرى للسطو على المسرح، الذي هو رمز البلاد، لعل النوارس على الشواطئ المنكوبة بالغزاة وموتهم الذي نثروه في بحر البلاد، وداخل أزقة مخيماتها، وأحيائها الراقية، التي لم تعد إلا محض ذاكرة، تنفجر بقنابل متوجهة، وتتلاشى، بينما تُنفّذ الحيتان انتحاراً جماعياً، كي لا تُدمغ بنجمة لا يريدونها وشم عار على أجسادهم.
ويمثل أسلوب "المسرح داخل المسرح" إحدى أبرز التقنيات في مسرحية "الملجأ"، فلا يقتصر هذا الأسلوب على كونه مجرد تقنية فنية، بل هو جزء أساسي من بنية العمل ودلالاته، حيث امتزاج الواقع بالخيال، فالمسرحية تدور في "سرداب" مهجور يُستخدم كملجأ من القصف، وفيه، يقوم الممثلون بتمثيل مسرحيات أخرى، ويعيدون إحياء ذكرياتهم الفنية، وهنا يبرز تداخل "واقع" الشخصيات كنازحين أو لاجئين جدد و"خيال" أدوارهم المسرحية، ما يخلق طبقات متعددة من المعنى، وبالتالي من التأويل، علاوة على بروز الشخصيات المزدوجة، فكل شخصية في المسرحية تحمل في داخلها اثنتين، الأولى تمثل هويتها الحقيقية كفنان، والثانية هي الشخصية التي تؤديها على الخشبة داخل المسرحية، في انعكاس لذلك الصراع الداخلي بين هويتهم الإنسانية وهويتهم الفنية.
وفي الإطار نفسه، تم تكسير الوهم المسرحي، فالعمل لا يخفي حقيقة أن ما نشاهده مسرحية، بل يُبرز هذا الأمر، عبر المَشاهِد التي يتدرب فيها الممثلون على أدوارهم، أو يتحدثون عن المسرح كمهنة، ما يجعل المُتلقي على دراية دائمة بالعملية الفنية، لذا فأسلوب "المسرح داخل المسرح" في "الملجأ" ليس مجرد حيلة فنية، بل هو مرآة تعكس صراعات الشخصيات الداخلية، وتُعبر عن دور الفن كملجأ وفعل مقاومة في وجه الحروب ومجرميها.
ولكون مسرحية "الملجأ" عملاً فنياً لا يمكن حصره في قالب واحد، نراه يستعير الكثير من ملامح مسرح العبث ليُعبر عن حالة اليأس واللاجدوى التي تعيشها الشخصيات في ظل الحرب، فالعمل لا يهدف إلى تقديم قصة منطقية بالمفهوم الكلاسيكي، بل إلى عكس حالة نفسية ووجودية معقدة، عبر غياب الحبكة التقليدية، وطغيان اللغة المتقطعة والساخرة أيضاً، في مزج بين الفصحى والدارجة، والشخصيات المحاصرة جوانيّاً وبرّانياً، علاوة على المواقف العبثية، لجهة تبيان عبثية الحرب، وفقدان الهوية، دون الابتعاد عن نقد الواقع السياسي.
وإضافة إلى الكثير من ملامح مسرح العبث، نرى في "الملجأ" بعض ملامح الدراما المأساوية، وملامح أخرى من "الكوميديا السوداء"، وحتى المسرح الوثائقي، والمسرح الملحمي.
الفنانة سوسن دروزة، التي اشتهرت بأسلوب إخراجي يتكئ على البصريّات، ويعتمد بشكل محوري على الرموز والإسقاطات، قالت في حديث لـ"الأيام"، هذه المسرحية عبارة عن عمل ضمن ورشة، نصبو أن يكون نقطة انطلاق لجهة ترسيخ نوع يحمل عنوان أو تصنيف "مسرح الملجأ"، ما زلنا نعمل على تطوير "المانيفيستو" الخاص به، حيث المسرح هو الملجأ الحقيقي والملجأ المفترض، ومن داخله وعبره، يمكننا تخليق ألف حكاية وحكاية.

 

أخبار ذات صلة

0 تعليق