على خط النار، حيث يُفترض أن يكون الصحفي شاهدا لا شريكا، تكشف مشاهد متداولة عن وجوه ترتدي الدرع الصحفي، لكنها تحمل بين طياتها لغة الرصاص والدعاية الحربية.
أمام الكاميرا، يظهرون كإعلاميين، وخلفها يتحولون إلى أدوات في ماكينة الاحتلال، يرافقون جنوده في الميدان، ويلتقطون الصور إلى جانب أسلحتهم، ويطلقون دعوات صريحة لسفك دماء الفلسطينيين.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsأنس الشريف ضد نيويورك تايمز.. القاتل فقط هو من يملك الحقيقة
كيف تحول صحفيو غزة إلى ضحايا “رخصة القتل” الغربية لإسرائيل؟
هذا التداخل الفاضح بين الكاميرا والبندقية لا يخرق فقط جوهر مهنة الصحافة، بل يهدم الأساس الذي وضعه القانون الدولي الإنساني، القائم على الحياد وحظر انخراط الصحفيين في أي عمل قتالي.
في هذه المشاهد، لا يكون الصحفي مجرد ناقل للحقيقة، بل يصبح جزءا من رواية القتل نفسها، يمسح حدود الفاصل بين الميدان الإعلامي ومسرح العمليات العسكرية، ليعيد رسمها بمداد التحريض والتعبئة.
وبينما تنص الاتفاقيات الدولية على حماية الصحفيين باعتبارهم مدنيين، نجد هنا من يتخلى عن هذا الحصن الأخلاقي والقانوني، ليقف في صف المقاتل لا المراقب، وفي صف الدعاية لا الحقيقة.
ما سنعرضه في هذا الملف ليس لقطات عابرة، بل أدلة بصرية دامغة تضع هذه الازدواجية تحت المجهر، وتفتح الباب أمام أسئلة ملحة عن مصداقية الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، والتبعات القانونية لمثل هذه الانتهاكات.
رصد فريق "الجزيرة تحقق" في هذا التقرير نماذج فاضحة لصحفيين إسرائيليين تخلوا طواعية عن صفة الناقل المستقل للحدث، وتحولوا إلى فاعلين مباشرين في مسرح الجريمة، مشاركين في هدم المنازل وقتل المدنيين، أو حتى قيادة فرق قتالية في غزة والضفة الغربية ولبنان، والتباهي علنا بهذه الأفعال، في تحد صارخ للقوانين الدولية ولقيم العمل الصحفي، بينما يرتدون خوذات الصحافة ودروعها أمام الكاميرا.
داني كشمارو
من بين هذه النماذج، ما بثته القناة الـ12 الإسرائيلية من توثيق لمراسلها داني كشمارو خلال مشاركته في "يوم قتالي" بلبنان رفقة قائد لواء غولاني العقيد عدي غانون، قرب بلدة عيتا الشعب، على بعد 500 متر من الحدود، في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
إعلان
وظهر كشمارو مرتديا درعا يحمل شعار القناة وخوذة الصحافة، وهو يضغط على زر تفجير منزل عربي هناك، مبررا الفعل بقوله "فجرنا منزلا يطل على إسرائيل وكان يشكل تهديدا".
روعي ينوفيسكي
أما الصحفي روعي ينوفيسكي، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ قاد بنفسه فريق احتياط من المقاتلين بغزة، في مهمة أعلن أنها "قتل المخربين"، وبثت القناة الـ13 مشاهد ترويجية لبرنامجه "100 يوم في أكتوبر" بلباس عسكري في أرض الميدان، توثق تدمير منازل مدنية وعمليات قتالية في جباليا وحي التفاح.
ألون بن دافيد
كما عرضت القناة الـ13 الإسرائيلية تقريرا لمراسلها ألون بن دافيد، الذي دخل غزة مرتديا درعا وخوذة كتب عليهما "Press" وتعني "صحافة"، حاملا ميكروفون القناة، وأجرى مقابلات مع جنود إسرائيليين داخل منازل الفلسطينيين، وداخل الدبابات ومواقع القتال المختلفة.
إيتاي بلومنتال
وفي مشهد مشابه، نشرت هيئة البث الإسرائيلية تغطية للمراسل إيتاي بلومنتال من قلب حي الزيتون في غزة، برفقة قوات ناحال، موثقا عمليات تدمير البنية التحتية، وتصفيات ميدانية، واكتشاف أنفاق جديدة، بينما يرتدي خوذة ودرع الصحافة ويحمل ميكروفون القناة.
إيلي أفيف
وفي الضفة الغربية، أظهر مقطع متداول المراسل إيلي أفيف من القناة الـ14 الإسرائيلية، وهو يحمل سلاحا خلال اقتحام أحد المنازل في مخيم الجلزون، معلقا بسخرية على واقع المخيمات الفلسطينية، قبل أن يظهر في مشهد آخر متحدثا عن قصف تل أبيب، حاملا السلاح وميكروفون القناة في آن واحد.
@eliyaviv10 האמת שמסתתרת מאחורי״מחנות הפליטים״ #צהל #מילואים #מילואים???????? #חיילים #ישראל #יהודהושומרון
♬ צליל מקורי – eliyaviv10
ينون مغال
كما لجأ بعض الصحفيين إلى التفاخر بخدمتهم القتالية، إذ نشر ينون مغال مقارنة بين الخدمة العسكرية لصحفيي القناة الـ14 وزملائهم في قنوات 11 و12 و13، متسائلا "من هم أبطال الشاشة ولوحة المفاتيح؟ ومن هم المقاتلون الحقيقيون؟".
تسفيكا يحزكيلي
ولم يقتصر الأمر على الميدان، بل امتد إلى التحريض العلني من داخل الأستوديوهات، مثل تصريح تسفيكا يحزكيلي على القناة الـ13 في ديسمبر/كانون الأول 2023، مطالبا بقتل 100 ألف فلسطيني وعدم التمييز بين مدني ومقاتل، وتشبيهه ذلك بضربة "الطيور الجارحة" في عملية "الرصاص المصبوب".
شمعون ريكلين
وكذلك شمعون ريكلين الذي صرح على القناة الـ14، الذي قال "لا أنام جيدا من دون أن أرى بيوتا تنهار في غزة.. المزيد من البيوت، المزيد من الأبراج، حتى لا يكون لهم مكان يعودون إليه".
ملاحقة الحقيقة
بينما يمنح الصحفيون الإسرائيليون حرية الظهور بالسلاح في ساحات القتال والتحريض على قتل الفلسطينيين، يلاحق الاحتلال الصحفيين الفلسطينيين العزل لمجرد قيامهم بعملهم المهني.
إعلان
ففي مايو/أيار الماضي، استشهد الصحفي حسن أصليح بقصف مجمع ناصر الطبي في غزة، حيث كان يتلقى العلاج من إصابة سابقة، بعد حملة تحريض رسمية زعمت انتماءه لحماس استنادا إلى صورة مع رئيس المكتب السياسي للحركة يحيى السنوار، رغم أن وجوده كان للتغطية الإخبارية فقط.
واغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي في وقت متأخر من مساء الأحد الماضي مراسلي الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، بعدما استهدف خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء في مدينة غزة.
وبالإضافة إلى أنس الشريف ومحمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل، استشهد أيضا في الغارة الصحفي محمد الخالدي والمصور مؤمن عليوة، وفقا لمصادر فلسطينية.
وفي بيان نشره بعد الغارة، أقر الجيش الإسرائيلي باستهداف الزميل أنس الشريف ووصفه بأنه "إرهابي تنكر بزي صحفي في قناة الجزيرة".
وادعى جيش الاحتلال أن أنس الشريف كان قائد خلية في حركة حماس وروّج لإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
وكان الشهيد تعرّض في الآونة الأخيرة لحملة تحريض إسرائيلية واسعة بسبب تغطيته صور العدوان والتجويع في قطاع غزة.
وخلال حربها على قطاع غزة، اغتالت إسرائيل أيضا عددا من صحفيي شبكة الجزيرة بينهم إسماعيل الغول وحسام شبات.
ووفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفع عدد الشهداء الصحفيين منذ بدء الحرب إلى 238، بينما تؤكد لجنة حماية الصحفيين أن الأشهر الأولى من حرب غزة شهدت العدد الأكبر من الصحفيين القتلى في أي نزاع خلال عام واحد، مطالبة بتحقيقات دولية مستقلة، ومذكرة بأن استهداف الصحفيين المدنيين جريمة حرب تستوجب المحاسبة.
الضفة شاهدة
لم يقتصر الاستهداف الممنهج على الصحفيين في غزة، بل امتد إلى الضفة الغربية، حيث يواجه الصحفيون هناك تهديدات مباشرة وأخطارا يومية خلال تغطياتهم الميدانية لعمليات الاقتحام والهدم والممارسات الإسرائيلية بحق المدنيين.
هذه الانتهاكات، تنوعت بين القتل المباشر والتهديد بالقتل، والمنع من التغطية، والاعتداء الجسدي، والترهيب لدفع الصحفيين إلى التوقف عن عملهم، رغم أنهم لا يشكلون أي خطر على قوات الاحتلال.
في 25 ديسمبر/كانون الأول 2024، وثقت الصحفية رغد سلامة محاولة دهس متعمدة من جيب عسكري إسرائيلي خلال تغطيتها الأحداث في مخيم طولكرم.
View this post on Instagram
A post shared by Raghad Salameh (@raghd.salama)
وفي 18 مايو/أيار 2021، تعرضت الصحفية المقدسية لطيفة عبد اللطيف لاعتداء وحشي من قوات الاحتلال التي نزعت حجابها بالقوة، أثناء تغطية اقتحام المستوطنين لمنطقة باب العامود في القدس المحتلة.
كما وثقت الصحفية راية عروق تعرضها وزميل لها لاستهداف مباشر برصاص قناص إسرائيلي وإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع في مخيم جنين، رغم ارتدائهما الزي الصحفي. وتعرضت عروق لاحقا لمحاولة دهس ثانية وتشويش متعمد على تغطيتها من قِبل جيب عسكري إسرائيلي.
View this post on Instagram
A post shared by translating_palestinee48 (@translating_palestinee48)
View this post on Instagram
A post shared by راية عروق (@raya.orouq)
View this post on Instagram
A post shared by راية عروق (@raya.orouq)
ولا تقتصر هذه الانتهاكات على حوادث فردية، بل تتكرر بشكل واسع في طولكرم، ورام الله، وقلقيلية، والخليل، حيث توثق المشاهد طرد الصحفيين بالقوة، وضربهم، واعتقالهم أمام الكاميرات وفي بث مباشر، دون اكتراث بالقوانين أو العواقب.
اغتيالات موثقة
لم تتوقف الاعتداءات عند الترهيب، بل وصلت إلى القتل المباشر لصحفيين بارزين، ففي 11 مايو/أيار 2022، اغتالت قوات الاحتلال الصحفية في شبكة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها اقتحام مخيم جنين، حيث أُصيبت برصاصة قاتلة رغم وضوح هويتها الصحفية.
وبعد أقل من شهر، قتلت قوات الاحتلال الصحفية غفران وراسنة في الخليل أثناء توجهها إلى عملها، برصاصة اخترقت صدرها من الجهة اليسرى وخرجت من اليمنى، ما أدى إلى استشهادها في 1 يونيو/حزيران 2022.
إعلان
وعقب اغتيالها، قمعت قوات الاحتلال موكب جنازتها ومنعت دخوله إلى مخيم العروب، وهاجمته بعنف، في مشهد أعاد للأذهان الهجوم على جنازة شيرين أبو عاقلة.
قانون ينتهك علنا
وتنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 على أن الصحفيين يعاملون كمدنيين، ما داموا لا يشاركون في الأعمال القتالية، وتوجب حمايتهم وضمان تمكينهم من أداء مهامهم دون تعريضهم للخطر.
كما تؤكد القاعدة رقم 34 من الدراسة العرفية للجنة الدولية للصليب الأحمر أنه "يجب احترام وحماية الصحفيين المدنيين العاملين في مهام مهنية أثناء النزاعات المسلحة، ما داموا لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية".
لكن الاحتلال يخرق هذه المواثيق بشكل منهجي، فهو يسمح لصحفييه بممارسة أدوار عسكرية وتحريضية تسقط عنهم الحماية القانونية، فيما يستهدف الصحفيين الفلسطينيين الملتزمين تماما بمهامهم المهنية، في واحدة من أوضح صور التناقض والاستخفاف بالقانون الدولي الإنساني.
0 تعليق