لماذا أعجب روي كاساغراندا بالصحابي خالد بن الوليد؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

قبل عدة سنوات لقي مقطع مصور تداولا واسعا يظهر فيه روي كاساغراندا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوستن في الولايات المتحدة، وهو يتناول بالتحليل القدرات الإستراتيجية لخالد بن الوليد رضي الله عنه، من خلال استعراض جملة من المعارك والفتوحات التي خاضها بنفسه في العراق، وقد ركّز الأكاديمي الأميركي في حديثه بشكل خاص على معركة "الفِراض"، التي وقعت في المنطقة الممتدة بين القائم والبوكمال على الحدود العراقية السورية الحالية، وذلك في أواخر عام 12هـ/ 634م، حين اتحدت جيوش الفرس والروم لمواجهة قوات المسلمين.

ما أثار الاهتمام في حديث كاساغراندا، وأسهم في انتشار المقطع على نطاق واسع؛ مقارنته حجم القوات الإسلامية المحدود آنذاك وتجهيزاتها العسكرية المتواضعة بما لدى القوى الكبرى التي واجهتها من جيوش وعتاد، في ظل طبيعة جغرافية معقدة وصعبة، وبرغم هذه المعطيات أبرز حديثه كيف استطاع خالد بن الوليد أن يحقق نصرا حاسما في تلك المعركة، ممهّدا بذلك الطريق لفتح غرب العراق بأسره.

إن تتبّع سيرة خالد بن الوليد رضي الله عنه يفتح أمامنا أبوابا متعددة لفهم شخصية متعددة المواهب، خاصة في الفترة الممتدة بين آخر عهد الجاهلية وبداية الدولة الإسلامية، فثمّة تساؤلات تفرض نفسها عند استعراض التحوّل الجذري الذي طرأ على هذا القائد، إذ يلفت النظر إلى أنه أمضى قرابة عقدين من الزمن مناهضا للإسلام، منخرطا في معاركه الأولى ضد المسلمين، دون أن يبدو عليه التردد أو الميل إلى المصالحة.

هذا العداء الشرس لم يكن موقفا فرديا عابرا، بل شاركه فيه والده الوليد بن المغيرة، أحد وجهاء قريش وأكثرهم نفوذا، مما يطرح تساؤلا حقيقيا عن العوامل التي دفعت خالدا لاحقا إلى اتخاذ قرار الانضمام إلى الإسلام طواعية، وتحوله من خصم عنيد إلى واحد من أعظم فرسانه.

إعلان

بين كنف التربية العسكرية

ينتمي خالد بن الوليد إلى بني مخزوم، أحد أبرز بطون قريش التي أدّت دورا مركزيا في الحياة السياسية والعسكرية قبل الإسلام، وقد وُلد قبل البعثة النبوية بثلاثين عاما، في بيت من بيوت السؤدد والمكانة، فوالده الوليد بن المغيرة كان من زعماء مكة وأهل الرأي والثراء فيها.

ومن المعروف أن قريشا كانت تتوزع إلى عشرة بطون كبرى، أبرزها بنو هاشم، وبنو أمية، وبنو مخزوم، ولكل منهم دور تقليدي في نظام مكة الاجتماعي والوظيفي قبل الإسلام، فقد عُهد إلى بني هاشم أمر سقاية الحجيج، وتميز بنو أمية بحمل راية الحرب، وكان لبني مخزوم ومنهم خالد قيادة "القبة" و"أعنة الخيل"، أي الإشراف على إعلان الحرب وتسيير فرسانها، مما جعلهم عماد القوة العسكرية في قريش.

وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن خالد بن الوليد تولى بالفعل قيادة القبة وأعنّة الخيل في مرحلة الجاهلية، وهو ما يعكس مكانته العسكرية المبكرة ودوره البارز في إدارة شؤون الحرب قبل أن يعتنق الإسلام، الأمر الذي مهّد لاحقا لتحوّله إلى أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي.

لقد كان من حظ خالد بن الوليد، ومن حسن طالع المسلمين من بعده، أن نشأ في بيت يفيض بالثراء والجاه، إذ كان والده الوليد بن المغيرة أحد أعمدة الثراء والنفوذ في مكة، وتشير الروايات إلى أن الوليد لم يكن مجرد زعيم من زعماء قريش، بل كان يُعدّ أغناهم قاطبة، حتى قيل إنه كان يتكفّل بكسوة الكعبة وحده عاما كاملا، بينما تتقاسم قريش بأسرها هذه المهمة في العام التالي، وعند ترميم الكعبة قبيل البعثة النبوية تولى الوليد بناء ربعها وحده، بينما تكفّلت بطون قريش الأخرى ببقية البناء، وهو ما يعكس ضخامة ثروته ومكانته الاجتماعية.

وبينما يتنافس الوليد وقومه على الزعامة مع بني هاشم وبني أمية، نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدأ يدعو إلى الإسلام علنا، عندئذ ظهرت ملامح الرفض الشرسة في موقف الوليد بن المغيرة، وكان الرفض بسبب ما رآه اختلالا في ميزان المكانة والنفوذ داخل قريش، ويروى عنه كلمته الشهيرة التي تكشف عن حجم النقمة لديه: "أيُنزل على محمد وأُترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويُترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيمَا القريتين؟".

لقد مثّلت هذه الجملة موقفا مكثفًا من الرفض النخبوي الذي واجه به قادة مكة دعوة الإسلام، عندما رأوا فيها تهديدا لمكانتهم التاريخية، لا مجرد خلاف ديني أو عقدي.

رغم مواقف الوليد بن المغيرة المعروفة في معاداة الإسلام، فإنه كان أول من شهد بعلوّ شأن القرآن حين سمعه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: "والله لقد سمعتُ منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما يقول هذا بشر".

هذا الاعتراف الصريح أثار استياء قريش التي اتهمته بالميل إلى الإسلام، فخشي على مكانته بين الزعماء وعاد إلى موقعه الرافض، مستكبرا عن اتباع الحق رغم إدراكه له.

وفي ظل هذه الحياة المترفة وُلد خالد بن الوليد ونشأ، فكانت حياته منذ بداياتها تتجه نحو ميدان القتال، بعيدا عن التجارة والزراعة التي لم يُعرف أنه انشغل بهما في جاهليته، حيث انصبّ اهتمامه على صقل مهاراته في الفروسية في أوقات السلم، وعلى قيادة الجيوش وتوجيه المعارك في أوقات الحرب، وقد تلقّى تعليمه العملي في مكة حيث كان محاطا بكبار رجال السياسة والزعامة أمثال أبي سفيان، ووالده الوليد، وعتبة بن ربيعة، وغيرهم من أهل الرأي والحرب، غير أن معركة بدر جاءت لتقلب المشهد، إذ أودت بحياة معظم هؤلاء القادة من كبار قريش، وفتحت الطريق أمام جيل شاب من أتراب خالد، مثل عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، ممن تميزوا بكفاءة عسكرية عالية، وسيؤدّون لاحقا أدوارا محورية في حروب الردة والفتوحات الكبرى في العراق والشام ومصر، وسيكون خالد أبرز هؤلاء القادة وأكثرهم دهاء وجرأة.

روي كاساغراندا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوستن في الولايات المتحدة (حساب روي كاساغراندا على فيسبوك)

خالد في مواجهة الإسلام

كانت موقعة أحد في السنة الثالثة للهجرة أول مواجهة عسكرية يشتبك فيها خالد بن الوليد مباشرة مع جيش المسلمين، وقد جاءت في سياق رغبة قريش في الثأر لهزيمتها الساحقة في بدر قبل عام، حيث جاءت قريش إلى أحد وهي تفوق المسلمين عددا وعتادا، إذ بلغ عدد فرسانها نحو مئتي فارس تحت قيادة خالد، وقد اصطف المسلمون في موقع دفاعي عند سفح جبل أحد، تاركين الجبل خلف ظهورهم، في حين تقدمت قريش من جهة بطن الوادي.

إعلان

وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين الجبهة الخلفية، فوضع على جبل الرماة خمسين رجلا بقيادة عبد الله بن جبير الأنصاري، وأوصاهم قائلا: "قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تنصرونا".

غير أن معظم الرماة خالفوا هذه التعليمات مع أولى بشائر النصر حين رأوا المشركين يتراجعون، فنزلوا إلى أرض المعركة طمعا في الغنيمة، مما فتح ثغرة في الجبهة الخلفية للمسلمين، ولم يكن خالد غافلا عن هذا المشهد بل التقط الفرصة بسرعة وحسم، فقاد التفافا خاطفا بفرسانه من خلف الجبل، وضرب مؤخرة الجيش الإسلامي في لحظة حرجة، مما أدى إلى قلب المعركة بالكامل وانتهت بهزيمة المسلمين وصعود النبي صلى الله عليه وسلم مع عدد من أصحابه إلى الجبل دفاعا عن النفس، ولم تكن معركة أحد مجرد نصر تكتيكي لقريش، بل شكّلت بالنسبة لخالد لحظة مفصلية في ترسيخ مهاراته الميدانية، وأكسبته تجربة إضافية عمّقت من قدراته القتالية، قبل أن يدخل في الإسلام.

يرى المؤرخ أحمد عادل كمال في كتابه "الطريق إلى المدائن" أن خالد بن الوليد استوعب من موقعة أُحد درسا عسكريا بالغ الأهمية، تمثل في إدراك قيمة الثغرات الخلفية ومفاصل القيادة في حسم المعارك، وهو الدرس الذي سعى لاحقا إلى تطبيقه بوعي عميق، ووفقا لرؤية كمال فقد وظّف خالد هذه "النظرية في الحرب" بشكل عملي في موقعة اليمامة أثناء حروب الردة حين اندفع بقواته مباشرة نحو فسطاط مسيلمة الكذاب، مركز قيادته ومصدر تماسك جيشه، وتمكّن من تدميره وانتزاع النصر من قلب خطوط العدو رغم ضراوة المقاومة.

ويشير أحمد عادل كمال أيضا إلى أن خالدا استخدم المنهج ذاته لاحقا في معركة اليرموك، حين اخترقت فرسان الروم فسطاطه فاضطر إلى تحويل الخطر إلى فرصة عسكرية، فأعاد توجيه الهجوم بمرونة قلبت كفة المواجهة لصالح المسلمين. وبهذا المزج بين التجربة المبكرة في أُحد والقدرة على الاستفادة منها عمليا تعزّزت خبرة خالد الحربية.

تُظهر التجربة العسكرية لخالد بن الوليد نمطا واضحا في تعامله مع سير المعارك، خاصة تلك التي بدأت تميل الكفة فيها لصالح الخصم ثم ما لبث أن قلب نتائجها لصالح المسلمين، وهو ما تكرّر في ثلاث معارك مفصلية: أحد، واليمامة، واليرموك، فعلى الرغم من التقدم الأولي للعدو في كل منها، فإن خالدا استطاع بمرونته وسرعة بديهته أن يحوّل مسار الأحداث بشكل دراماتيكي، معتمدا على أسلوب خاص صاغه منذ أولى تجاربه في معركة أحد.

ويقوم هذا الأسلوب على "البحث عن الخلل في صفوف عدوّه المنتصر، واختطاف الموقف بسرعة"، كما وصفه المؤرخون، لقد أتقن خالد فن استغلال الثغرات والانهيارات الجزئية في بنية العدو، ثم البناء عليها بخطوات حاسمة تقلب موازين المعركة، ولهذا لا تُذكر هذه المعارك الثلاث إلا واقترن بها اسم خالد، بوصفه صانع النصر الذي لا يكتفي بالمجابهة المباشرة، بل يشتغل على استثمار الفوضى والخلل لتحويل الهزيمة إلى انتصار.

في العام الخامس للهجرة، واجه المسلمون واحدة من أخطر التحديات العسكرية والسياسية، حين تحالفت قريش مع غطفان وعدد من قبائل الشرك بدعم وتحريض مباشر من اليهود، بهدف القضاء على الإسلام واستئصال وجوده من المدينة المنورة.

هذا التحالف غير المسبوق الذي بلغ عدد مقاتليه نحو عشرة آلاف رجل شكّل تهديدا وجوديا للدولة الإسلامية الفتية، في وقت لم يكن لدى المسلمين فيه القدرة على مواجهة هذا الحشد مواجهة تقليدية، وأمام هذا الواقع لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى إستراتيجية دفاعية جديدة تمثلت في حفر الخندق، في سابقة لم تعرفها الجزيرة العربية من قبل، مما أربك صفوف المشركين وأفقدهم عنصر المباغتة.

إعلان

اصطف الطرفان في حالة من الجمود العسكري لأسابيع، وتبادلوا الرمي بالنبل والسهام دون خوض معركة حاسمة، وقد تولى قيادة جبهة المشركين عدد من أبرز قادتهم، فتناوب على قيادة الهجمات كل من أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهُبيرة بن وهب، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، في محاولة لاختراق دفاعات المسلمين أو إحداث ثغرة تقلب الموقف، إلا أن الظروف المناخية القاسية من البرد والنقص الشديد في الطعام والماء، وتزامن ذلك مع هبوب رياح عاصفة أربكت المعسكر، كل ذلك أدى إلى اضطرار الأحزاب في النهاية إلى فك الحصار والانسحاب من أطراف المدينة.

وفي العام السادس للهجرة، خرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بصحبه قاصدا مكة لأداء العمرة، في خطوة سلمية تحمل رمزية دينية وسياسية عميقة، غير أن قريش منعتهم من دخول المدينة المقدسة، مما أدى إلى مفاوضات أفضت إلى إبرام صلح الحديبية، وقد نص الاتفاق على أن يعود المسلمون إلى المدينة ذلك العام، على أن يُسمح لهم بالعمرة في العام التالي، وهو العام السابع للهجرة بشرط ألا يدخلوا مكة إلا بثياب الإحرام، وألا تكون سيوفهم إلا في أغمادها، وألا تزيد مدة مكوثهم داخل مكة على ثلاثة أيام.

هذا الاتفاق الذي مثّل تراجعا في موقف قريش من القوة الإسلامية الصاعدة أثار حفيظة خالد بن الوليد، الذي لم يكن قد أسلم بعد فغضب غضبا شديدًا وأقسم أن لا يراهم ولا يطيق وجودهم طوال مقامهم في مكة إلا أن هذا المشهد الذي انطوى على اعتراف ضمني من قريش بقوة المسلمين المتنامية، دفع خالدا إلى إعادة النظر في موقعه من هذا الصراع، وبدأت في نفسه تلوح أسئلة جديدة حول ثبات هؤلاء القوم وشجاعتهم وبأسهم في سبيل دينهم، فكان صلح الحديبية، وإن بدا انتقاصا للوهلة الأولى، أحد المنعطفات التي مهّدت الطريق لتحول خالد الكبير نحو الإسلام، حين لمس قوة العقيدة قبل أن يختبرها بنفسه في ميادين الفتح.

وفي أعقاب صلح الحديبية بدأ خالد بن الوليد يخوض مراجعة داخلية عميقة لمواقفه السابقة من الإسلام، فبدا له أن الحق الذي طالما واجهه في ميادين القتال قد بدأ يتغلغل إلى قلبه وعقله معا، وأن الكفة بدأت تميل لصالح دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لا بقوة السلاح وحدها، بل بثبات العقيدة واتساع تأثيرها.

التحول إلى الإسلام وبزوغ نجم سيف الله

ويروي خالد بنفسه لحظة التحول هذه، كما ينقل ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، قائلا: "لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي الإسلامَ وحَضَرَني رُشْدي، وقلتُ: كنت في هذه المواضع كلّها على محمد، وليس موطنٌ أحضره إلا وأنصرف وأنا أرى في نفسي أنني مُوضِعٌ في غير شيء، وأن محمدا سيظهر، ودافَعَتْه قريشٌ يوم الحديبية بالراح فقلتُ: أين المذهب؟ أَخرج إلى هرقل فأدخل في النصرانية وأترك ديني وأقيم مع عجمٍ رومٍ أصير تبعا لهم وذلك عيب علي؟ ودخل رسول الله مكة عام عُمرة القضاء فتغيَّبْتُ، فكتب إليّ أخي (الوليد بن الوليد وقد أسلم قبل خالد): لم أرَ أعجبَ من ذهاب رأيك عن الإسلام وعَقْلُكَ عَقْلُكَ، ومِثْلُ الإسلام يجهله أحد؟ وقد سأل رسول الله عنك فقلتُ: يأتي الله به فقال: "ما مثلُ خالدٍ مَن يَجْهَلُ الإسلامَ" فاستَدْرِكْ يا أخي ما فاتك".

هذا النداء الأخوي الصادق، إلى جانب التحولات الكبرى في موازين القوى والوعي الداخلي المتنامي لدى خالد، مهّد الطريق لانقلابه الروحي والفكري، فكان إسلامه ليس مجرد خطوة شخصية، بل لحظة فارقة في تاريخ الإسلام العسكري والسياسي.

عقب تلقّيه رسالة أخيه الوليد بن الوليد التي حملت دعوة صادقة ولفتة مؤثرة من النبي صلى الله عليه وسلم، تحرك في قلب خالد بن الوليد شعور باليقين، فاستشعر أن لحظة التحول قد حانت، وسُرّ بكلمات النبي عنه، مما دفعه إلى اتخاذ قراره بالخروج إلى المدينة ولقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ يبحث عمّن يرافقه، فصادف عثمان بن طلحة، فأخبره بعزمه على الإسلام، فاستجاب عثمان على الفور، وخرجا معًا قُبيل الفجر، وأثناء مرورهما بمنطقة الهَدّة شمال مكة التقيا عمرو بن العاص، الذي كان بدوره في طريقه إلى المدينة وقد اتخذ القرار ذاته، فانضم إليهما في الرحلة.

وصل الثلاثة إلى المدينة في مستهلّ شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة، وتوجه خالد مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحيّاه بتحية النبوة، فقابله الرسول بوجه بشوش ونفس منفتحة، فطلب منه خالد أن يغفر له ما سلف من عداوته، فقال له النبي: "الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه"، أي يمحو ما كان قبله، حينها أسلم خالد وتبعه عمرو وعثمان، وكان إسلامهم جماعيا إيذانا بمرحلة جديدة من التحولات في صفوف النخبة المكية.

إعلان

ويروي خالد أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ذلك اليوم لم يكن يعدل به أحدا من أصحابه، في إشارة إلى المكانة الرفيعة التي حظي بها فور دخوله الإسلام، لما عُرف عنه من صدق التوجه، وحنكته القتالية، واستعداده التام لوضع كل ما يملك في خدمة الإسلام والمسلمين.

في العام الثامن للهجرة، اندلعت غزوة مؤتة (تقع في الأردن حاليًّا) لمواجهة الروم، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة زيد بن حارثة، فإن سقط شهيدا يخلفه جعفر بن أبي طالب، فإن سقط فعبد الله بن رواحة، وكان خالد ضمن هذا الجيش، وقد استشهد القادة الثلاثة واحدا تلو الآخر.

وكاد الجيش يتفكك تحت ضغط الروم لولا أن تولّى خالد القيادة، فأعاد تنظيم الصفوف بذكائه العسكري، فبدّل المقدمات والمؤخرات والميمنة والميسرة ليظن العدو أن مددًا قد جاء، مع أن العدد بقي على حاله، وثلاثة آلاف مقاتل لا يمكنهم الصمود أمام حشود قدرتها بعض الروايات بمئة ألف من الروم.

عندئذ أدرك خالد أن الانسحاب التكتيكي بأقل الخسائر هو الأجدى للتحضير لمواجهة مقبلة، ولما عاد الجيش إلى المدينة استقبله الأطفال بكلمة "يا فرّار"، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي فهم أبعاد القرار قال مطمئنًا خالد والجيش: "بل الكُرّار إن شاء الله".

وفي أثناء غزوة مؤتة وقف النبي صلى الله عليه وسلم ينعى الشهداء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، ثم أثنى على خالد بن الوليد لتسلمه القيادة فقال: "نِعْمَ عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله، سلّه الله عز وجل على الكفار والمنافقين"، وهو وصف خلّده الصحابة وكرروه في معارك الردة وفتوحات العراق والشام لاحقا، كما جعله الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه معيارا للاعتماد على خالد، فكان هذا الحديث دافعًا مباشرا لتكليفه بقيادة العمليات العسكرية الكبرى في تلك الأقاليم، حيث ثبتت كفاءته وشجاعته، حتى صار يُعرف بعد ذلك بلقب "سيف الله المسلول".

يتوقف أحمد عادل كمال أمام قرار النبي صلى الله عليه وسلم بعدم اختيار خالد بن الوليد قائدا لجيش مؤتة منذ البداية، ويتساءل عن دلالة هذا الترتيب الذي قدّم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، على خالد رغم كفاءته العسكرية، فهو لا يفسر الأمر بمجرد الأقدمية في الإسلام أو التفوق القتالي، بل ينظر إليه من زاوية تربوية وروحية أعمق، قائلا:

"فهل كان اختبارا وتمحيصا وإثباتا لحسن إسلام خالد أو ترويضا له؟ ربما كان ذلك والله أعلم، فقد كان صدّ خالد عن الإسلام من قبلُ يستند إلى كبريائه وإلى صلف بني مخزوم، والإسلام يساوي بين المسلمين، فهم سواسية كأسنان المشط، فليكن خالد جنديا في جيشٍ يقوده زيد بن حارثة عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويرى كمال أن خالدا رضي الله عنه، بقبوله لهذا الموقع دون تردد ثم بقيادته للمعركة بكفاءة نادرة بعد استشهاد القادة الثلاثة، قد برهن على صدق إسلامه، ونفى عن نفسه شبهة الطمع في جاه أو مقام، خاصة في لحظة تاريخية بدأت قريش فيها تفقد مكانتها أمام صعود الدولة الإسلامية.

بعد نجاح خالد بن الوليد في قيادة عملية الانسحاب المنظّم من غزوة مؤتة، وفي ظل استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة عقب نقض قريش للعهد، كلّفه النبي بقيادة الجيش القادم من الجنوب، ضمن خطة عسكرية لدخول المدينة من جهاتها الأربع، وقد تمكن خالد من اقتحام مكة من جهته، والتعامل بحسم مع المقاومة المحدودة التي ظهرت بقيادة عدد من رجالات قريش المعروفين، مثل عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية.

وبعد دخول مكة وانتهاء مظاهر الشرك فيها، أوفد النبي خالدا على رأس ثلاثين فارسا إلى منطقة بطن نخلة حيث كلّفه بهدم صنم "العزّى"، أحد أعظم أصنام قريش وكنانة، فقام بذلك وأزاله من الوجود، كما أرسله بعد ذلك قائدا على قوة من ثلاثمئة وخمسين من المهاجرين والأنصار، متوجها إلى ديار بني جذيمة بن عمار من كنانة، في مهمة دعوية لتبليغهم الإسلام وإقامة العدل بينهم.

في معركة حُنين التي دارت بين المسلمين وقبيلتي هوازن وثقيف، وهما من أكبر قبائل عرب غرب الجزيرة، واجه المسلمون لحظة حرجة كادت تتحول إلى هزيمة، حيث باغتتهم القبائل في وادٍ ضيق يتساقط فيه وابل من السهام، فتراجع كثير من الجنود تحت وقع المباغتة، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الميدان، وهو ينادي قائلًا: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، محرضا المسلمين على الثبات والعودة للقتال.

وكان خالد بن الوليد آنذاك مع قواته محاطا في الوادي بسيل من سهام ثقيف، وقد أُصيب بجروح متعددة أثخنته، لكنه بعد سماع نداء النبي، تمكن من شق طريقه والالتحاق به مع ما بقي من رجاله، وفيما بعد اشتد القتال من جديد، وتضاعفت جروح خالد حتى زاره النبي بنفسه في خيمته بعد انتهاء المعركة، ليطمئن عليه ويدعو له بالشفاء والعافية، في لفتة تُبرز مكانته الخاصة ودوره في حسم المعارك الصعبة.

اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات الأخيرة من حياته على خالد بن الوليد في قيادة عدد من السرايا العسكرية التي اتسمت بالدقة والسرعة، فأرسله إلى بني المصطلق، ثم إلى أكيدر بن عبد الملك حاكم دومة الجندل في شمال غرب الجزيرة، كما أوفده لاحقا لهدم صنم "اللات" الذي كانت قبيلة ثقيف تبجّله، ثم أرسله إلى بني الحارث بن كعب في نجران ومنها إلى اليمن، وقد نجح خالد في تنفيذ جميع هذه المهام بما فاق التوقعات، فحقق الأهداف التي كُلّف بها على المستويين العسكري والدعوي، مما أكسبه ثقة النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة، ثم ثقة الخليفة أبي بكر الصديق من بعده، الذي أوكله إليه قيادة جيوش الردّة في نجد واليمامة، فتمكّن من القضاء على تمرد المرتدّين.

وبانتهاء هذه المرحلة، تولّى خالد قيادة حملات فتوح العراق، ثم الشام، وحقق خلالها انتصارات بارزة لفتت أنظار عدد من المستشرقين والمؤرخين الغربيين، الذين اعتبروا إنجازاته العسكرية دليلا على مكانته وعبقريته العسكرية الفذة التي أشار إليها الباحث الأميركي روي كاساغراندا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق