"لا تحفروا لي قبرًا / سأرقد في كل شبر من الأرض / أرقد كالماء في جسد النيل / أرقد كالشمس فوق حقول بلادي / مثلي أنا ليس يسكن قبرًا".
بهذه الأبيات خلّد الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري، الملقب بشاعر أفريقيا، انتصار الإنسان كقضية في وجه الحرب وأهوالها. ومع دخول الحرب في السودان من دخول عامها الثالث، يفرض الواقع الإنساني الكارثي في البلاد تساؤلًا ملحًّا: كيف استطاع ملايين السودانيين الذين لم يتمكنوا من النزوح إلى الخارج الصمود؟ وكيف أمكنهم تأمين أساسيات الحياة؛ من رعاية صحية ومياه شرب وغذاء ومأوى، في ظل غياب شبه تام لمؤسسات الدولة وانهيار البنية التحتية منذ الأيام الأولى للصراع؟
تُعدّ الأزمة السودانية اليوم من أسوأ الكوارث الإنسانية على مستوى العالم، وفق تصنيفات الأمم المتحدة، وسط الغياب الكامل للدعم الحكومي، وتراجع فاعلية المنظمات الدولية في مناطق واسعة من البلاد. وما يزيد من حدة الكارثة أن السودان كان يعاني أصلًا من هشاشة مفرطة في قطاع الخدمات حتى قبل اندلاع الحرب، وذلك ما جعل انهيارها أكثر عنفًا، وزاد من معاناة المواطنين في كفاحهم اليومي للبقاء.
ورغم كل ذلك، أبدع السودانيون طرقًا مبتكرة للصمود والتكيّف مع واقع الحرب، فصاروا يصنعون الحياة من قلب الدمار، ويقيمون شبكات تضامن أهلية أعادت تعريف معنى البقاء الجماعي. وقد جاء ترشيح إحدى أبرز هذه المبادرات المجتمعية، "غرف الطوارئ"، لجائزة نوبل للسلام لعامي 2024 و2025، بمنزلة اعتراف دولي بقوة الصمود السوداني، وبقيمة العمل الجماعي في مواجهة آلة القتل والدمار المستمرة منذ عامين.

وطن يتهدّم فوق ساكنيه
بعد مرور عامين من الحرب لا شيء في السودان يشبه الأمس، سوى الألم الذي يتكاثر كل يوم، ويتّسع مثل فم جائع لا يشبع. ففي المدن التي كانت تضجّ بالحياة صار الصمت سيد المكان صمت لا يكسره إلا صدى الانفجارات أو صراخ الناجين، وفي القرى البعيدة التي طالما قاومت الفقر بكرامة حلّ الجوع ضيفًا ثقيلًا لا يغادر.
إعلان
البيوت سُوّيت بالأرض، والمستشفيات أُفرغت من أطبائها، والمدارس هجرتها الضحكات. ملايين الناس تركوا كل شيء خلفهم؛ ذكرياتهم، صورهم، مفاتيح منازلهم، وساروا على الطرقات بحثًا عن مأوى لا يعرفونه. ووسط كل هذا الحطام، تقف الحقيقة مجردة من أي زينة: هذه الحرب لم تدمّر البنية التحتية فقط، بل حطّمت شروط الحياة ذاتها.
في مارس/آذار 2025، صنفت منظمة ACAPS، وهي منظمة غير حكومية دولية معنية بتحليل الأزمات الإنسانية، شدة الأزمة في السودان عند 4.9 من 5 وفقًا لمؤشر INFORM Severity Index، مما جعلها واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميا. وأشار أحدث تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) إلى أن أكثر من 30 مليون سوداني، أي ما يقارب ثلثي السكان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
وفي ختام عام 2024، كُشف عن معاناة 24.6 مليون شخص (ما يعادل نصف سكان السودان) من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، حسب التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الذي أشار إلى وجود مجاعة "المرحلة الخامسة" بالفعل في 5 مناطق، بينها مخيم زمزم في شمال دارفور وأجزاء من غرب جبال النوبة. ومن المتوقع أن تمتد المجاعة إلى 5 محليات إضافية في شمال دارفور خلال الفترة بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ومايو/أيار 2025، مع وجود 17 منطقة أخرى مهددة بالخطر، خاصة تلك التي تستقبل أعدادًا كبيرة من النازحين داخليا.
أكد تقرير IPC أن "المجاعة هي الشكل الأكثر تطرفًا للمعاناة الإنسانية وتمثل انهيارًا كارثيا للأنظمة والموارد الأساسية للبقاء"، مشيرًا إلى أن "الأمر لا يقتصر على نقص الغذاء، بل يشمل أيضًا انهيارًا واسعًا في الصحة وسبل العيش والهياكل الاجتماعية". وعلى الرغم من أن هطول الأمطار فوق المتوسط دعم الزراعة في بعض المناطق، فإن الصراع المستمر عطّل الأنشطة الزراعية، إذ أُجبر المزارعون على هجر الحقول وتعرضت المحاصيل للنهب أو التلف.
إعلان
نتيجة لذلك، تم تصنيف 8.1 ملايين شخص في المرحلة الرابعة (الطوارئ)، و638 ألف شخص في المرحلة الخامسة (الكارثة)، بينما يواجه 15.9 مليون شخص ظروف أزمة "المرحلة الثالثة". وحذّر برنامج الأغذية العالمي من أن السودان معرض لأن يشهد أكبر أزمة جوع في التاريخ الحديث، حيث يعاني أكثر من ثلث الأطفال من سوء تغذية حاد، متجاوزًا عتبة 20% اللازمة لتأكيد وجود المجاعة. وقد تفاقمت الأزمة الغذائية مع انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 46% خلال الموسم الماضي، حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ومن المتوقع أن يتراجع الإنتاج الزراعي بشكل أكبر نتيجة استمرار تدمير البنية التحتية، خاصة في ظل اعتماد المزارعين على الكهرباء في ريّ محاصيلهم.
كما أدي الصراع الي حدوث أكبر أزمة نزوح في العالم تصل الي 13 مليون سوداني داخلياً وخارجياً ، الي جانب العنف الجنسي المروع المستخدم كسلاح في الحرب والموثق في عدد من التقارير الدولية وكان آخرها ما نشرته منظمة العفو الدولية في أبريل 2025، تحت عنوان "لقد اغتصبونا جميعًا" ، شمل حالات اغتصاب جماعي لفتيات لا تتجاوز أعمارهن 15 عامًا، بالإضافة إلى ممارسات أخرى شنيعة مثل الاستعباد الجنسي والتعذيب والقتل من قبل قوات الدعم السريع .
وتتحدث منظمة الصحة العالمية عن دمار واسع أدى إلى انهيار شبه كلي للبنية التحتية للرعاية الصحية، الأمر الذي قلص القدرة على الحصول على الرعاية الصحية بشكل كامل إلى 15 % فقط من إجمالي السكان البالغ عددهم 48 مليون نسمة ،كما أشارت ممثلة اليونيسف في السودان، مانديب أوبراين، إلى أن البلاد تواجه أسوأ أزمة تعليمية في العالم ، أما الخسائر البشرية، فتُقدّر بنحو 150 ألف قتيل منذ اندلاع الحرب، حسب لجنة الإنقاذ الدولية ، ايضاً أدى الدمار الهائل في شبكات الكهرباء والمياه إلى حرمان ملايين السكان من الخدمات الأساسية، وسط عمليات نهب مستمرة وقصف متواصل، حيث دُمّرت 90% من منشآت الكهرباء الأساسية، بالإضافة إلى شبكات المياه في الخرطوم وولايات وسط وغرب السودان.
إعلان
أما على الصعيد الاقتصادي، فتشير التقديرات إلى أن الخسائر المباشرة تراوح بين 180 و200 مليار دولار، والخسائر غير المباشرة تتجاوز 500 مليار دولار، أي نحو 40 ضعفا من الناتج السنوي للسودان، البالغ في المتوسط نحو 36 مليار دولار. كما أدي الصراع الي حدوث أكبر أزمة نزوح في العالم تصل الي 13 مليون سوداني داخلياً وخارجياً ، الي جانب العنف الجنسي المروع المستخدم كسلاح في الحرب والموثق في عدد من التقارير الدولية وكان آخرها ما نشرته منظمة العفو الدولية في أبريل 2025، تحت عنوان "لقد اغتصبونا جميعًا" ، شمل حالات اغتصاب جماعي لفتيات لا تتجاوز أعمارهن 15 عامًا، بالإضافة إلى ممارسات أخرى شنيعة مثل الاستعباد الجنسي والتعذيب والقتل من قبل قوات الدعم السريع .
وتتحدث منظمة الصحة العالمية عن دمار واسع أدى إلى انهيار شبه كلي للبنية التحتية للرعاية الصحية، الأمر الذي قلص القدرة على الحصول على الرعاية الصحية بشكل كامل إلى 15 % فقط من إجمالي السكان البالغ عددهم 48 مليون نسمة ،كما أشارت ممثلة اليونيسف في السودان، مانديب أوبراين، إلى أن البلاد تواجه أسوأ أزمة تعليمية في العالم ، أما الخسائر البشرية، فتُقدّر بنحو 150 ألف قتيل منذ اندلاع الحرب، حسب لجنة الإنقاذ الدولية ، ايضاً أدى الدمار الهائل في شبكات الكهرباء والمياه إلى حرمان ملايين السكان من الخدمات الأساسية، وسط عمليات نهب مستمرة وقصف متواصل، حيث دُمّرت 90% من منشآت الكهرباء الأساسية، بالإضافة إلى شبكات المياه في الخرطوم وولايات وسط وغرب السودان.
ومن المقاومة حياة
في ظل غياب الدولة وتصاعد الحرب، برزت الشخصية السودانية المقاومة، ومعها شبكات المساعدة التطوعية التي تقودها المجتمعات المحلية في السودان، وكانت لاعبا رئيسيا في تقديم خدمات منقذة للحياة لملايين النساء والرجال والأطفال. ففي مختلف أنحاء البلاد، نظّم المواطنون أنفسهم لإيواء النازحين، وإنقاذ الجرحى، وإطعام الجائعين، ودعم النساء المتعرضات للعنف الجنسي، ومساعدة الأطفال في تجاوز الصدمات النفسية. وفي ما يلي صور حية من هذا الصمود الشعبي والإبداع في مواجهة الدمار.
إعلان
البداية مع "غرف الاستجابة للطوارئ" التي تعود جذورها إلى لجان المقاومة التي أُسّست خلال الاحتجاجات الشعبية المناهضة لنظام البشير، وكان لها دور محوري في الإطاحة به في أبريل/نيسان 2019. ومع استمرار الزخم الشعبي خلال الفترة الانتقالية للمطالبة بالحكم المدني، ووسط تزايد القمع واستهداف المتظاهرين، ظهرت مبادرات طبية طارئة مؤقتة لعلاج الجرحى، شكلت النواة الأولى لغرف الطوارئ، بمبادرة من شباب وشابات معظمهم من أعضاء لجان المقاومة، بهدف تقديم العون لمجتمعاتهم. وفي عام 2020، أثناء جائحة كوفيد-19، لعبت هذه الغرف دورًا محوريا في التوعية الصحية، وتطهير المستشفيات، وتوزيع المطهرات والأدوية والإمدادات الإنسانية، مما عزز مكانتها كأداة مجتمعية في مواجهة الأزمات.
ومع مرور الوقت، تطورت غرف الطوارئ لتكون جزءا أساسيا من استجابة المجتمع المحلي للكوارث، وتوسعت بنيتها التنظيمية لتتخذ طابعًا لا مركزيا يمكّنها من تقديم المساعدات الإنسانية في بيئات شديدة التعقيد وشحيحة الموارد. وفي خضمّ الحرب الدائرة حاليا، تكيّفت فرق الاستجابة مع الظروف المستجدة، فأنشأت مطابخ مجتمعية لمواجهة الجوع، وقدمت الدعم الطبي للمحاصرين، وأقامت مراكز للإيواء، وأصبحت شريان حياة للمناطق التي عجزت المنظمات الدولية عن الوصول إليها. ورغم المخاطر، يواصل المتطوعون العمل في مناطق غير آمنة، معرضين أنفسهم للمضايقة والعنف في سبيل خدمة مجتمعاتهم.
ومع اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، بدأت فرق الطوارئ تدخلها منذ اليوم التالي، فنفّذت عمليات إجلاء للمدنيين من مناطق الاشتباك، وأقامت مراكز فرز طبي لتحديد الحالات التي تحتاج إلى الإحالة إلى المستشفيات، بالإضافة إلى إنشاء مراكز إيواء وصل بعضها إلى احتضان مئات الأسر، كما حدث في بابنوسة بولاية غرب كردفان، حيث تم تجهيز مخيمات للنازحين وتوفير الطعام لهم. وبمرور الوقت، أُنشئت مطابخ جماعية تقدم الوجبات مجانًا. وقد ذكر حجوج كوكا، المتحدث باسم غرف الطوارئ في ولاية الخرطوم، أن هناك أكثر من 1460 مطبخًا مجتمعيا في السودان تخدم نحو مليوني شخص، إلى جانب تنظيم جلسات دعم نفسي لضحايا العنف الجنسي، والتنسيق مع منظمات الإغاثة الدولية لإيصال المساعدات.
إعلان
ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تمكّنت غرف الطوارئ خلال عام واحد فقط من تقديم خدماتها لأكثر من 4 ملايين شخص، بدعم من نحو 10 آلاف متطوع، بحسب السنوسي آدم منسق العلاقات الخارجية لغرف الطوارئ.
صورة أخرى للصمود جاءت انطلاقًا من قيم التكافل والتضامن المتأصلة في الثقافة الصوفية، والتي تشكّل جزءًا من الوجدان الشعبي السوداني، بادرت مجموعات تطوعية من قادة دينيين وشعبيين إلى إنشاء مراكز لتقديم الطعام للنازحين جراء الحرب، في ما بات يُعرف بـ"التكايا". وتقوم هذه المبادرات على الجهد التطوعي الخالص، وتعمل في ظروف بالغة القسوة، حيث تُستخدم الأخشاب المجمّعة من الأشجار كوسيلة بديلة للطهو في ظل انعدام مصادر الطاقة الأخرى.
يعتمد تمويل التكايا بالكامل على التبرعات، سواء من أفراد المجتمع المحلي أو من المغتربين، عبر وسائل متعددة تشمل اقتطاع جزء من الوجبات اليومية، أو شراء المواد الغذائية بالدين المؤجل من التجار الذين يسهمون بما يستطيعون رغم تأثرهم المباشر بالحرب. ولا تقتصر جهود المتطوعين على توفير الطعام فقط، بل تشمل أيضًا تأمين المياه الصالحة للشرب، والتي باتت موردًا نادرًا، حيث يُنقل الماء من مصادر بعيدة، أو يُستخرج من آبار قديمة، أو يُجلب مباشرة من النيل.
ففي منطقة شمبات وحدها، وصل عدد التكايا إلى 18 خلال الأيام الأولى من اندلاع الحرب، وذلك يعكس سرعة الاستجابة المجتمعية. وفي مبادرة موازية، نظم سكان محليون أنفسهم لحماية منازل النازحين، فقاموا بإغلاق البيوت وتأمين مقتنياتها بحرص بالغ، لمنع تعرضها للنهب أو التخريب.
وفي مجال توفير الطاقة الأساسية اللازمة للعيش، بادر عدد من فنّيي الكهرباء إلى التوجه إلى غرف الطوارئ والتكايا، مسهمين بوقتهم ومعرفتهم لإصلاح الأعطال، مستعينين بما هو متاح من مواد. وتطوّع آخرون في حمل الوقود والطعام والشراب إلى المحاصرين في القرى والأحياء المتضررة، رغم المخاطر الكبيرة التي كانت تحيط بهم.
إعلان
مع مرور الوقت، تطوّر هذا المجهود ليشمل ابتكار حلول لامركزية لتوليد الطاقة، باستخدام ألواح الطاقة الشمسية وصيانة محركات الديزل. كذلك أقيمت دورات تدريبية للمواطنين لتعليمهم كيفية استخدام هذه المصادر البديلة للطاقة، مما عزز من قدرة المجتمعات على الاستمرار في مواجهة الظروف الصعبة.
تجاوز هذا الإبداع حدود الطاقة ليشمل قطاع الصناعات المحلية. ولمواجهة معضلة تركز الصناعات في العاصمة، بدأ عدد من السودانيين في إنشاء وحدات صناعية صغيرة لتلبية احتياجات الحياة الأساسية، مثل صناعة الألبان والمنظفات والصابون. ووفقًا لدورية "أتر" الأسبوعية الصادرة من داخل السودان، فقد أصبح هذا التحول خطوة حاسمة نحو تعزيز الإنتاج المحلي وتخفيف الاعتماد على الاستيراد في أوقات الأزمات.
ووفقا للدورية ذاتها وفي مجال الأمن الغذائي، اضطر المزارعون الذين هربوا من ولايات الخرطوم وسنار بعد اجتياحها من قبل قوات الدعم السريع في العام الأول من الحرب إلى النزوح نحو ولاية كسلا في شرق السودان. هناك، بدأ هؤلاء المزارعون في تنظيم أنفسهم وابتكار طرق جديدة للري، فضلا عن زراعة محاصيل بستانية لاقت رواجًا في سوق كسلا الذي كان يعجّ بالنازحين من ولايات الوسط المتضررة من الحرب.

مقاومة الجوع بالزراعة المنزلية
على جانب آخر، لجأ العديد من الأفراد إلى الزراعة المنزلية لتأمين احتياجاتهم الغذائية. أصبحت الزراعة المنزلية نقطة تحوّل مهمة في الاقتصاد المنزلي، وانتقلت هذه الفكرة من شخص إلى آخر، حتى باتت أسلوب حياة ضمن الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها البلاد.
وفي دارفور، دفع النزاع الذي اندلع في 15 أبريل/نيسان 2023 حوالي ثلثي سكان مدينة الفاشر وبعض المحليات في شمال دارفور إلى النزوح نحو القرى الصغيرة. ورغم الوضع الاقتصادي الصعب، فقد استغل النازحون الأراضي الجرداء التي كانت مهجورة لسنوات، محوّلين إياها إلى واحات خضراء، رغم التحديات التي واجهوها.
إعلان
ووفقًا لتقرير نشرته مجلة New Internationalist، امتدت جهود التطوع السودانية خارج حدود البلاد لدعم اللاجئين في معسكرات النزوح. ومن أبرز هذه المبادرات كانت "مبادرة إنقاذ الجنينة" التي نجحت في تقديم الطعام لـ150 ألف لاجئ في معسكر "أدري" في تشاد. هؤلاء اللاجئون فروا من مدينة الجنينة، عاصمة إقليم غرب دارفور، في الأيام الأولى للقتال، بعد ارتكاب قوات الدعم السريع لمذبحة مروعة وموثقة راح ضحيتها 15 ألف مدني في فترة زمنية قصيرة.
وفي ظل تصاعد وتيرة العنف والنزاع في السودان، شهد مجال الدعم النفسي تطورًا ملحوظًا من قبل فرق التطوع التي استجابت بسرعة لتلبية احتياجات المتضررين من الحرب. فوفقًا لتقرير نشرته صحيفة عرب نيوز في مطلع هذا الشهر، أشارت مآب لبيب، اختصاصية الصحة النفسية ومنسقة فريق الدعم النفسي والاجتماعي في غرفة طوارئ بحري، إلى أن الفريق قدم خدمات الصحة النفسية المجانية للأفراد والجماعات المتضررة من الحرب. وقالت "لدينا حاليا 25 معالجًا ومتخصصا نفسيا، وقدمنا حتى الآن دعمًا نفسيا فرديا لأكثر من 1500 شخص".
أُسّس الفريق في الأسبوع الأول من الحرب، وسرعان ما توسع ليشمل العديد من المناطق في الخرطوم ومختلف ولايات السودان، معتمدًا على الاستشارات عبر الإنترنت والجلسات الجماعية في مناطق آمنة. هذه المبادرة التي تجمع بين الدعم النفسي الفردي والجماعي تهدف إلى مساعدة ضحايا الصدمة النفسية من مختلف الفئات، بمن في ذلك الناجون من العنف القائم على النوع الاجتماعي والجنود.
بالإضافة إلى ذلك، نظمت مكاتب النساء في غرف الطوارئ جلسات دعم نفسي تتضمن مساحات آمنة و"قعدات جبنة" (جلسات قهوة) للمساعدة في تخفيف آثار الحرب. وتسعى هذه المبادرات إلى تمكين النساء اقتصاديا من خلال دعم مشاريعهن المنتجة وإنشاء غرف ولادة مجهزة، شريطة توفر الدعم الكافي.
إعلان
أما في مجال التعليم فنظمت فرق الطوارئ والتكايا فصولًا لتعليم الأطفال عبر جهود شعبية يقدم فيها بجانب المواد الدراسية جلسات دعم نفسي للأطفال تساعدهم على المرور بسلام وسط أهوال الحرب. وقد نقلت صحيفة "سودان تريبيون" الصادرة من لندن في تقريرها عن التعليم مبادرة طوعية سميت "الشعب المعلم" حيث تم افتتاح مراكز تعليمية للأطفال في مدينة الدمازين، عاصمة إقليم النيل الأزرق. وقد تمكنت المراكز التي أسست لخدمة الأطفال المحليين والنازحين من مناطق مثل الخرطوم وسنار من استقبال 400 طالب عبر 3 مراكز تعليمية.
ومع الانهيار الذي حدث في الرعاية الطبية، قام المتطوعون في ولايات عدة بإنشاء عيادات ومراكز طبية بمجهود طوعي، إلى جانب دعم المستشفيات والمراكز القليلة التي ما زالت تعمل من حيث الوقت والأدوية. ومن أبرز هذه المبادرات كانت مبادرة حي القبة في الأبيض، عاصمة شمال كردفان، التي حوصرت منذ الأيام الأولى للقتال من قبل قوات الدعم السريع. فوفقا لـ" أتر"، بلغ عدد الحالات التي استقبلتها المبادرة أكثر من 10 آلاف و632 حالة، شملت حوالي 3 آلاف حالة في العيادات العامة، و384 حالة في عيادة العيون، و381 حالة أسنان، بالإضافة إلى 5,191 حالة تم تخصيصها للتطعيمات. كما أجرت المبادرة أكثر من 12 فحصًا معمليا وتكفلت بعلاج الأطفال النازحين، إلى جانب إقامة يوم علاجي في دار نسيم للنازحين التي استقبلت 911 حالة في مراكز الإيواء المجانية.
الطب الافتراضي وحملات التبرع
وسط هذه الأخطار المتزايدة والمهددة لحياة المرضى، سواء بقوا في منازلهم من دون علاج أو حاولوا الخروج بحثًا عن علاج، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي مجموعات من الأطباء تضم عددًا كبيرًا من الاختصاصيين والاستشاريين في تخصصات متعددة لتقديم خدمة طبية عبر التواصل، كعيادة افتراضية تمارس "التطبيب عن بعد". وقد وثقتها الإندبندنت العربية في تقرير لها نشر بعد 4 أشهر من اندلاع الحرب إذ بدأت المبادرة بهذا العمل منذ ثاني أيام الحرب في 16 أبريل/نيسان 2023، لأن الفريق العامل كان شبه جاهز بحكم تجربته الممتدة لنحو عام ونصف العام أثناء جائحة كورونا، وهو مدرب تدريبًا ممتازًا على التعامل عن بعد مع المرضى. استطاع الفريق استقبال المكالمات المباشرة أو من خلال رسائل "واتساب"، بحسب الجدول والأرقام الخاصة بكل تخصص من الأطباء الذين يصل عدد المكالمات والرسائل الواردة إليهم يوميا إلى الآلاف.
إعلان
تصنف المكالمات في 3 أنواع، منها الشكاوى المتعلقة بالإصابات المباشرة أثناء الحرب والتي تتطلب تعاملًا خاصًّا مع الجروح والنزف والإصابات التي قد تكون جديدة على الفريق، وهناك أيضًا فريق من الاستشاريين يتعامل مع الحالات المعقدة من خلال مجموعة "واتساب" أخرى، مما يتيح تقديم الإرشادات اللازمة للمريض.
أما عن التمويل، فكانت هذه المبادرات تبتعد عن النموذج التقليدي القائم على الاعتماد الحصري على الدول أو المنظمات الدولية. وبدلا من ذلك، يسهم المواطنون السودانيون أنفسهم وأفراد الشتات بشكل أساسي في التمويل، مع إمكانية التبرع المباشر لأي فرد مهتم. يتيح هذا التدفق المباشر للتمويل تدفقًا أكثر كفاءة للمساعدات مقارنة بالنماذج التقليدية، فالدولار المتبرع به هو دولار يُفيد شخصًا ما على أرض الواقع مباشرة. يتم تمويل هذه الأعمال من التكافل المجتمعي للسودانيين في الخارج، كما وثقت كل من "فورين بوليسي" و"التايم"، وتستخدم التحويلات النقدية لشراء المواد الغذائية، وتشغيل المطابخ الجماعية، وتوفير المستلزمات الطبية اللازمة.
نشرت "واشنطن بوست" بعد مرور 5 أشهر فقط من الحرب تقريرًا عن حملات جمع التبرعات الإنسانية الشعبية العديدة التي قادها المهاجرون السودانيون وأحفادهم في الشتات منذ بداية الحرب. فمن أميركا الشمالية إلى أستراليا، جمع السودانيون تبرعات لشراء أدوية الطوارئ، والغذاء، والإيجار، وضغطوا على المسؤولين لتسهيل دخول اللاجئين، وجمعوا معلومات جماعية عن السلامة على الطرق والرعاية الطبية، بالإضافة إلى جلب الأموال إلى البلاد. وذلك فضلا عن تحويلات السودانيين العاملين في دول الخليج لدعم أهلهم في الداخل.
كانت سامنثا باور، المديرة السابقة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، قد تبنّت قبل مغادرتها منصبها في نهاية فترة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن مطلع هذا العام التعاون مع المجموعات المحلية وتقديم المساعدة المادية لها بجانب المؤسسات الدولية. ولكن هذه الخطوة انقلبت إلى جحيم على المنظمات، إذ قرر الرئيس الأميركي المنتخب ترامب تعليق عمل الوكالة في جميع أنحاء العالم بعد فترة قصيرة، مما أثر بشكل كبير على 80% من المطابخ الجماعية التابعة لغرف الطوارئ.
إعلان
في الختام وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها الشبكات المحلية للتضامن المجتمعي في السودان، سواء داخليا او خارجيا، فإن هذه الشبكات قد استطاعت أن تُثبت نفسها كقوة شعبية حقيقية في مواجهة الأزمة. كانت هذه الشبكات بمنزلة حكومة طوارئ تمثل كل السودانيين، وتجاوزت التقسيمات الجهوية والإثنية والسياسية التي ظلت تقيد المشهد السياسي طوال عقود. وعليه يمكن النظر إلى هذه الأشكال المبتكرة من التنظيمات الشعبية ليس فقط باعتبارها استجابة إنسانية آنية للأزمة، بل على أنها قدمت نموذجًا جديدًا للحكم المستجيب والمتمركز حول الإنسان الذي يستحقه الشعب السوداني.
إنها ليست مجرد بديل للمساعدات التقليدية، بل تمثل أيضًا تحولًا جذريًّا في طريقة توزيع المساعدات الإنسانية على مستوى عالمي، يتجه نحو تقليص دور الوكالات الكبرى لمصلحة تفعيل دور المجموعات المحلية التي تعرف أكثر من غيرها احتياجات شعبها. ولكن هذا التحول لم يُقابل بالاعتراف الدولي الكافي، ففي الوقت الذي شهدت فيه هذه الشبكات إشادات من مختلف الأطراف، كان هناك تردد كبير من المجتمع الدولي في الاعتراف بها كطرف ثالث له دور أساسي في استجابة الأزمة. وأظهرت ذلك التصريحات من ممثلي المنظمات الإنسانية الكبرى مثل ماتيلد فو، المتحدثة باسم المجلس النرويجي للاجئين، التي أشارت إلى أن المجتمع الدولي لا يزال بطيئًا في تخصيص التمويل المستدام والمرن الذي تحتاجه هذه الشبكات؛ فقد قالت فو بوضوح "هذه ليست منظمات غير حكومية، وعلينا أن نكيف أساليب التمويل بما يتناسب مع خصائص هذه الشبكات".
وعلى المجتمع السياسي السوداني أن يعترف بدور هذه الشبكات المحلية ويعمل على تعزيز التعاون معها، ليس فقط في الجوانب الإنسانية، بل أيضًا في بناء المستقبل السياسي للبلاد. فتعزيز دور هذه الشبكات، وتفعيل الشراكة معها، يعدّ خطوة أساسية نحو صياغة عقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات الشعب السوداني نحو حكم عادل ومستجيب للأزمات التي يواجهها.
إعلان
وبشكل عام، أثبتت هذه الصور من الصمود والابتكار في مواجهة التحديات أن الشعب السوداني يستحق الأفضل، ويستحق مستقبلا خاليا من الحرب والصراع والانتهازية السياسية، مستقبلا يبنى على السلام والعدالة والتنمية المستدامة.
0 تعليق