قطع الطرفان؛ الأميركي والإيراني في ثلاث جولات من التفاوض بالوساطة، وذلك في نصف شهر، ما تطلّب قطعه أشهرًا في المفاوضات المنتهية بتوقيع اتفاق عام 2015. فقد اتفقا بعد جولتين فقط على بدء التفاوض الفني. والبادي توفُّر الإرادة السياسية لدى الجانبين للتوصّل لتفاهم يفضي إلى اتفاق. ولم يأتِ ذلك من فراغ.
فها هو الرئيس الأميركي المفتقر للصبر في تعاطيه مع القضايا الدولية، يُبرز نزوعًا جمًّا لإبرام اتفاق وبعاجلة. فللرجل حساباته الداخلية التي تتطلب، كما يبدو، إنجازًا في السياسة الخارجية يمكّنه من بيعه في الداخل وهو مقبلٌ على الانتخابات النصفية للكونغرس. كما أن وضع سقف على تقدم إيران النووي ووضعه تحت رقابة صارمة يمثّل هدفًا عابرًا للأحزاب في واشنطن.
وأمام ذلك، تُبدي إيران المضغوطة اقتصاديًا بعقوبات متشعّبة، استعدادًا للتفاهم. ورغم إبرازها شيئًا من التمنّع أمام تسرّع إدارة ترامب، فإن لإدارة الرئيس بزشكيان أجندة اقتصادية توجّه سياسته وتدفعه للتسرّع في إبرام اتفاقٍ يلغي العقوبات.
وإن لم يكن ذلك، لما أقدمت إيران على التفاوض مع رئيسٍ جمع كل الصفات التي لا تحبذها طهران. ورغم جنوح الطرفين للتفاوض بغية الحل، فإن المخرجات المرجوّة لدى الجانبين قد تأتي على العملية التفاوضية برمتها إن لم يتراضَ الطرفان على حلول وسط.
إعلان
ويوحي تأجيل الجولة الرابعة للتفاوض "لأسباب لوجيستية" بصعوبة تخطي التفاصيل المختلف عليها. وتراجعت – ولو إلى حين – الإيجابية في فعل وحديث الجانبين في الجولات السابقة.
فها هي واشنطن تفرض عقوبات جديدة على إيران ومواطنيها، وهي تتوعّد المتعاملين اقتصاديًا مع طهران بعقوبات ثانوية. ويبدو وزير الخارجية الإيراني أكثر دقة في طرح المختلف عليه، حين أكّد في مهاتفته الأمين العام للأمم المتحدة، إصرارَ طهران على استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وما يتطلبه ذلك من تخصيب لليورانيوم.
وإن وُضع ذلك إلى جانب كلام وزير الخارجية الأميركي حول عدم حاجة إيران إلى التخصيب على أراضيها للاستفادة من الطاقة النووية، يتّضح وجه الخلاف الرئيسي. بذلك يصبح التخصيب أو عدمه حجر العثرة الأولى في المفاوضات.
وبما أن القانون الدولي يعطي أعضاء معاهدة عدم الانتشار NPT (معاهدة عدم الانتشار النووي) الحق في التخصيب للأغراض السلمية، لا تبدو طهران في طور التراجع أمام المطلب الأميركي. وكانت المناكفات قد استغرقت عشرة أعوام من 2003 حتى 2013، لتتوج بمفاوضات جادة أفضت إلى اتفاق أتى بعد قبول واشنطن وحلفائها الأوروبيين بالتخصيب على الأراضي الإيرانية كحق مكفول قانونيًا.
وإلى جانب التخصيب في إيران، ثمة قضايا شائكة ستعقّد المفاوضات وقد تأتي عليها، تشمل الضمانات وسبل إلغاء العقوبات ونسبة التخصيب، وسبل استعادة الثقة بسلمية البرنامج النووي وغيرها.
وكان متوقعًا منذ بدء المفاوضات مرورها بمطبّات وضغوط متبادلة. فالمختلف عليه كبيرٌ متعدد الأبعاد وبين أطراف تتعاطى دبلوماسيًا دون ثقة متبادلة.
وغني عن القول بأن أي اتفاق سيمرّ بتعديلات في الموقفين والبحث عن أرضية مشتركة بينهما، وذلك فيما يخص الضمانات المطلوبة إيرانيًا من جهة، وقبول إيران تقييد برنامجها النووي ووضعه تحت رقابة "استثنائية" من جهة أخرى.
إعلان
وتدرك طهران ضرورة عدم الاكتفاء بالتفاهم مع واشنطن مستقبلًا، ولذلك تفتح أبواب أسرار مفاوضتها واشنطن على جاراتها العربيات وشركائها الدوليين – روسيا والصين.
وتنطلق بذلك من واقع الاتفاق السابق وعمل الآخرين ضده. فهي تحاول الطمأنة حول سلوك طهران بعد أي اتفاق مع واشنطن من جهة، واستخدام علاقاتها الإقليمية والدولية لموازنة الضغوط الغربية من جهة أخرى.
والواضح أن المنطقة – إن قيست بالعام 2015 – أكثر انفتاحًا على تفاهم إيراني- أميركي باستثناء إسرائيل ورئيس وزرائها بشكل محدد، وهو الذي كان وما زال يدفع باتجاه صدام بين طهران وواشنطن. وها هو يطرح النموذج الليبي لتفكيك البرنامج النووي، وهو يعلم استحالة قبول طهران به، ويضغط في ذات الوقت لحل عسكري يبحث عمن يبتاعه في واشنطن كحل أمثل للحد من "طموح إيران النووي".
وبينما لنتنياهو مصلحة في الصدام، لا تبدو الدولة العميقة في إسرائيل معارضة لفكرة لجم ومراقبة برنامج إيران النووي عبر اتفاق مع واشنطن.
ومن الواضح أيضًا، أن العبور من حقل ألغام التفاصيل يشمل لجم العدو الرئيس للتفاهم الإيراني- الأميركي: رئيس الوزراء الإسرائيلي. وإن صحّ ما تردد عن سبب عزل مستشار الأمن القومي الأميركي والتز، أنه كان بسبب استمراره في محادثة نتنياهو حول توجيه ضربة لمنشآت إيران النووية، فإن حظوظ الأخير باتت ضئيلة في التأثير السلبي على الموقف الأميركي في المفاوضات. بيدَ أن أطروحة النموذج الليبي ومنع التخصيب في إيران قد أسعفت داعمي إسرائيل في إدارة ترامب في وقف العملية التفاوضية – ولو إلى حين.
وفي ظل المتغيّرات المتعددة التي تؤثر على الموقفين الإيراني والأميركي، تُعتبر خبرة الاتفاق النووي لعام 2015 ومخرجاته أحد المتغيّرات المعقّدة التي تأتي بمطالب جديدة لطاولة التفاوض.
ولأنها لُدغت مرّة بتنصّل واشنطن من اتفاق 2015، تعود طهران للتفاوض بهواجس ترتبط بالضمانات لا الاتفاق نفسه. تفاوض إيران للتوصّل إلى اتفاق مضمون المخرجات يصعب على واشنطن التملّص من استحقاقاته بعد وفاء إيران به. فقد انتهى المطاف باتفاق 2015 بخروج أميركيٍ توّجَ بعقوباتٍ وُسمت بـ"القصوى"، أتت على الاقتصاد الإيراني بأثقال غير معهودة.
إعلان
ترى طهران في التسرّع غير المحسوب خطرًا قد يأتي على حساب ضمانة مستقبل أي اتفاق مقبل. ويُطرح إطاران لضمان امتثال واشنطن بمستقبل الاتفاق العتيد: الأول مرحلي، والثاني مستقبلي.
ففي الإطار المرحلي، ترى إيران في ابتناء أي اتفاق على التدرّج بدل العمل به دفعة واحدة، آلية ضامنة لحصول إيران على المخرجات المرجوّة منه.
ويكون ذلك بعودة إيران ببرنامجها النووي للوراء خطوة بخطوة، إزاء خطوات موازية تخطوها واشنطن في إلغاء العقوبات، ما يمكّن الطرفين من التحقّق من وفاء الآخر بالتزاماته قبل البدء بالخطوة التالية.
بذلك، تضمن إيران عمل واشنطن بمخرجات الاتفاق أثناء مراحله المتدرّجة، لا بعد وضعها هي سقفًا على تقدمها النووي على أمل وفاء واشنطن بالتزاماتها.
ويأتي الإطار المستقبلي في جانبين: قانوني وفني. الإطار الأول يرتبط بالعملية القانونية الحاكمة للمعاهدات الدولية داخل الولايات المتحدة. يطالب البعض بضرورة تمرير الاتفاق – إن كُتب له أن يكون – كمعاهدة في الولايات المتحدة عبر مصادقة الكونغرس الأميركي عليه.
هذا، بينما يرى أصحاب رؤية الضمان الفني أن العملية القانونية غير مجدية، وللرئيس الأميركي الحالي أو المقبل المقدرة على إلغاء معاهدةِ مصادقِ عليها من قبل الكونغرس إن هو أراد ذلك.
بذلك، يفضّل هؤلاء تضمين أي اتفاق ضمانات فنية. أهم تلك الضمانات: الإبقاء على اليورانيوم عالي التخصيب على الأراضي الإيرانية، وإن تحت تصرف ورقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
سيدفع ذلك الإدارات الأميركية على الوفاء بالتزاماتها نتيجة مقدرة إيران على استعادة ذلك المخزون بسرعة حال تنصُّل واشنطن. كما تُطرح فكرة بقاء أجهزة الطرد المركزي المتطورة كـ IR6 في المنشآت الإيرانية؛ لضمان عودة إيران إلى التخصيب عالي النسبة حال تراجع واشنطن عن الاتفاق المقبل.
إعلان
على الجانب الآخر، تأتي واشنطن للتفاوض للحد من تطور طهران النووي ووضعه تحت رقابة دولية تراجعت بعد عام 2019. وهي تأتي للمفاوضات برئيس سيئ السمعة في طهران، يرى في حل الملف النووي الإيراني مصلحة شخصية له.
وتُبدي واشنطن، كما يؤشر الراشح من جولات التفاوض، تفهّمًا مع مطلب التدرّج في العمل بالاتفاق كضمان لامتثال واشنطن له. وهي ترى الفرصة سانحة لضمان مستقبل الاتفاق بمصادقة الكونغرس، نظرًا لاستيلاء الجمهوريين على المجلسين. بيدَ أنها، وكما يبدو من النقاشات في واشنطن، تعارض الضمانات الفنية، وترى فيها خطرًا داهمًا حال ارتطام مركب الاتفاق المقبل، لأي سبب من الأسباب، بصخور قد تأتي عليه كسلفه.
ولا تقف التفاصيل لدى واشنطن عند ضمان مستقبل الاتفاق، وهي التي شهدت التزام طهران بالاتفاق السابق ما دام التزام واشنطن قائمًا. فهي تطرح بين الحين والآخر، نقاطًا لا ترتبط مباشرة بالبرنامج النووي، بل بقدرات إيران الدفاعية وسياستها الإقليمية.
ولا تأتي تلك من رؤى مُجمع عليها في واشنطن. فالمستشف اختلاف أطراف إدارة ترامب حول الطريقة المثلى للتعاطي مع إيران وملفها النووي. فمنهم المرجّح لربط كل تلك الملفات، ومنهم الراغب بمعالجة الملف النووي كنقطة انطلاق لتفاهم أوسع.
ولأن البادي يُظهر الرئيس ترامب في المعسكر الثاني، تحاول طهران دغدغة مشاعره بالتحدّث بلغته الاقتصادية، عند وضعها أرقام الاستثمار والمصالح الاقتصادية التي ستنبع من أي اتفاق يُلغي العقوبات، كما تُبدي ميلها للعمل الاقتصادي والتجاري مع واشنطن.
ويذهب وزير خارجيتها أبعد من ذلك بالقول إن واشنطن يمكن أن تكون صانعة سلام، وهو يعلم مدى تحبيذ ترامب الحصول على جائزة نوبل للسلام.
بشكل عام، خرجت العملية التفاوضية من حاجة متبادلة لتفاهم يحد من المجابهة؛ نوويًا واقتصاديًا. وتلك حاجة كفيلة بتزويد الجانبين بدوافع الاستمرار، إلا أنها أيضًا كفيلة بتعقيد تفاصيل التفاهم بينهما.
إعلان
وإن عبرنا بتفاصيل تلك القضايا كمطبّات قد تعقّد التفاوض مستقبلًا، تبقى الإرادة السياسية، خاصة لدى الجانب الأميركي المنقسم كما يبدو على أعلى المستويات حول الطريقة المثلى للتعاطي مع طهران، أهم من كل تلك التفاصيل. فهي إرادة بمقدورها لجم أعداء الاتفاق – ونتنياهو بشكل محدد – من جهة، أو استخدام تفاصيل الخلاف لتمرير اتفاق وسطي يرضي الطرفين من جهة أخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق