يد إسرائيل الخفية في سوريا - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

لطالما سعت إسرائيل إلى تثبيت موقعها كلاعب إقليمي فاعل في المشرق العربي، ليس فقط عبر أدواتها الأمنية والعسكرية، وإنما من خلال استثمار التحولات البنيوية في الدول المجاورة، وبخاصة تلك المتعلقة بالانقسام الطائفي والتفكك الاجتماعي.

ويُشكّل المشهد السوري، منذ اندلاع أزمته وتحديدًا بعد سقوط النظام في نهاية عام 2024، ساحة مركزية لهذا النوع من الاستغلال الإسرائيلي، الذي أعاد تفعيل مقاربة "تحالف الأقليات" بصورة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، مع توظيف الأدوات الحديثة الناعمة والصلبة في آنٍ معًا.

منذ الانتداب الفرنسي، شكّل تحالف الأقليات في سوريا ولبنان أداة لتأمين السيطرة والتوازن في مواجهة الأكثرية السنية. وكان الفرنسيون حريصين على رعاية هذا التحالف، مستفيدين من التباينات الدينية والمذهبية لتمكين نفوذهم السياسي والعسكري.

إسرائيل، وإن دخلت متأخرة إلى هذا المسار، إلا أنها أعادت بعثه بمقاربة جديدة مستمدة من حاجتها إلى تأمين حدودها الشمالية، وضمان بقاء الدول المحيطة بها ضعيفة ومجزأة.

ومع الانهيار المفاجئ للنظام السوري، وجدت إسرائيل فرصة نادرة لإعادة تشكيل التوازنات الطائفية بطريقة تعزز من مكانتها، وتمنحها ورقة ضغط جديدة في الملف السوري الذي لطالما كان ساحة نفوذ قوى إقليمية ودولية متنافسة.

إعلان

ضمن هذا السياق، برزت الطائفة الدرزية كإحدى أبرز نقاط الاهتمام الإسرائيلي. فقبل سقوط النظام، كان الدروز موزعين على ثلاثة معسكرات رئيسية: معسكر يدور في فلك المحور الإيراني، ويضم جزءًا كبيرًا من دروز السويداء في سوريا والجبل في لبنان، ومعسكر قومي عروبي حاول الحفاظ على استقلاليته بعيدًا عن المحاور الإقليمية، ومعسكر دروز الداخل الفلسطيني الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

كان هذا التوزيع يعكس تعقيدات الهوية والانتماء الدرزي في المنطقة، لكن سقوط النظام السوري وتراجع قوة حزب الله خلقا فراغًا قياديًا سعت إسرائيل إلى ملئه بسرعة.

دفعت إسرائيل بقيادات درزية من داخل حدودها إلى الواجهة، مروّجة لفكرة أن مشيخية الدروز في إسرائيل قادرة على لعب دور جامع للطائفة بأكملها، داخل سوريا ولبنان.

ورافقت ذلك رسائل سياسية وإعلامية متواترة، مفادها أن تل أبيب مستعدة للتدخل عسكريًا لحماية الدروز في سوريا، في حال تعرضهم لأي تهديد. وتم تصوير مشايخ الطائفة في إسرائيل على أنهم يمتلكون نفوذًا كافيًا لتحريك القرار العسكري الإسرائيلي، بما في ذلك الطيران الحربي، وهو ما عزز من مكانة هؤلاء داخل الإقليم، وخلق توازنًا جديدًا في قيادة الحالة الدرزية.

اللافت أن هذه السياسة الإسرائيلية لم تقتصر على الجانب الرمزي أو الدعائي، بل ترافق ذلك مع تحركات استخباراتية ودبلوماسية ضمنية لخلق شبكات تواصل وتأثير داخل المجتمعات الدرزية في السويداء ولبنان.

ورغم أن هذه التحركات ظلت محدودة بسبب الحساسيات الدينية والاجتماعية، فإنها أوجدت واقعًا جديدًا، يتمثل في بروز إسرائيل كلاعب يُحسب له الحساب داخل المعادلة الطائفية السورية.

ومع أن الدروز يمثلون محور التركيز الرئيسي في هذه الإستراتيجية، فإن إسرائيل تتابع من كثب أيضًا الحالة الكردية، وتدعم بعض الفاعلين السياسيين والعسكريين الأكراد، خصوصًا في الشمال الشرقي لسوريا.

إعلان

ويشترك هذا الملف مع الملف الدرزي في الأهداف: تقويض المركزية السياسية في دمشق، ومنع نشوء جيش وطني موحد، والحفاظ على تفوق إسرائيل النوعي في المنطقة.

أما الطائفة العلوية، فإن إسرائيل لم تتدخل مباشرة فيها، لكنها استغلت إعلاميًا أحداث الساحل السوري في مارس/ آذار 2025، حين اندلعت اشتباكات بين فلول النظام والسلطة الجديدة، وقدّمت هذه الأحداث كدليل على عجز الحكومة الجديدة عن حماية الأقليات، وهو ما استخدمته تل أبيب للضغط على دمشق سياسيًا.

في خلفية هذه التحركات، تكمن الإستراتيجية الأعمق لإسرائيل، والمتمثلة في إبقاء سوريا دولة ضعيفة، منقسمة، مرهقة طائفيًا ومجتمعيًا. لذلك، فإن أي مؤشرات على تعافي الدولة السورية، أو تقارب مكوناتها، تُقابل من قبل إسرائيل بقلق ومحاولات للتخريب أو التشويش، سواء عبر الدعم غير المباشر لمجموعات طائفية، أو من خلال تكثيف الحملات الإعلامية والتشويش الدبلوماسي.

ولعل أكثر ما يثير الانتباه في هذا السياق هو استخدام إسرائيل ورقة الأقليات كورقة تفاوضية لفرض نفسها في أي ترتيبات مستقبلية تخص سوريا. فهي تُعارض، بصوت عالٍ أحيانًا أو بضمني أحيانًا أخرى، المقاربة التي تبنّتها إدارة ترامب، والتي تقوم على تسليم الملف السوري لتركيا والسعودية.

وترى تل أبيب أن إقصاءها عن الطاولة سيجعلها في موقع الدفاع بدل الهجوم، ولذلك فهي تعمل على تعزيز أوراقها المحلية داخل سوريا، وخاصة من خلال ورقة الدروز، من أجل القول إنها شريك لا يمكن تجاوزه في أي حل مستقبلي، وهي تسعى لتثبيت هذه المعطيات بشكل مستعجل قبل الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب في الأيام المقبلة إلى السعودية.

ومن هذا المنطلق، تتحول الأقليات من مكوّن اجتماعي إلى أداة ضغط إقليمي في يد إسرائيل، تستخدمها لتثبيت مكانتها وشرعنة تدخلها في ملفات لا تقع ضمن حدودها.

إعلان

ومع أن هذا النهج لا يُعد جديدًا بالكامل، إلا أن الظرف الراهن – بما فيه من انهيار محور إيران في المنطقة، وصعود محاور جديدة في الخليج وتركيا، ووجود فراغ سياسي في سوريا – وفّر لإسرائيل فرصة تاريخية لإعادة تعريف أدوارها، ليس فقط كقوة عسكرية، بل كلاعب سياسي داخل النسيج المجتمعي السوري.

وإذا كانت تل أبيب قد نجحت خلال السنوات الماضية في ترسيخ حضورها في ملفات مثل الملف الفلسطيني واللبناني، فإن محاولتها التوسّع في الملف السوري عبر بوابة الأقليات تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على إدارة ملفات معقدة تقوم على توازنات داخلية دقيقة.

بيدَ أن هذا التوسع يحمل في طياته مخاطر كبيرة أيضًا، خاصة إذا ما تطورت ردود الفعل المحلية داخل سوريا ولبنان، أو إذا أعادت القوى الدولية النظر في الكلفة السياسية لتورط إسرائيل في الملف السوري، لا سيما في ظل إعادة تشكيل النظام الإقليمي برمته.

ومع تشكّل ملامح دولة سورية جديدة في مرحلة ما بعد الصراع، تبدو الحاجة أكثر من أي وقت مضى ملحّة لإعادة بناء عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار الداخلي ويواجه التحديات الإقليمية، وعلى رأسها التمدد الإسرائيلي في الجنوب السوري.

أولًا، لتفكيك الأزمات مع الأطراف الداخلية، ينبغي للدولة الجديدة أن تنتهج نهجًا تصالحيًا شاملًا يبدأ بإطلاق حوار وطني يضم ممثلين عن كافة المكونات السياسية والعرقية والدينية. لا بد من الاعتراف بالتعددية السورية والعمل على صياغة دستور عصري يضمن الحقوق السياسية والمدنية، ويؤسس لحكم لا مركزي يتيح للمناطق قدرًا من الإدارة الذاتية ضمن وحدة الدولة.

إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية لتكون خاضعة لرقابة مدنية ومحاسبة قانونية تشكل مدخلًا أساسيًا لاستعادة ثقة المواطنين. كما أن إطلاق مسار عدالة انتقالية يعالج الانتهاكات السابقة ويعيد الحقوق للمتضررين سيكون عاملًا حاسمًا في تحقيق المصالحة المجتمعية.

إعلان

ثانيًا، لمواجهة خطر التمدد الإسرائيلي، تحتاج سوريا إلى تعزيز تموضعها الدبلوماسي إقليميًا ودوليًا، وتفكيك الذرائع التي تُستخدم لتبرير التدخلات. يتوجب إعادة بناء الجيش السوري على أسس مهنية ووطنية، وتطوير بنية دفاعية متكاملة في الجنوب قادرة على ردع أي محاولات اختراق جديدة.

بالتوازي، من الضروري تفعيل العمل العربي والإقليمي المشترك ودعم المبادرات الإقليمية التي تمنع تحويل سوريا إلى ساحة صراع دائم. فدولة سورية جديدة، مستقرة ومتصالحة داخليًا، هي الحصن الأهم لمواجهة الأطماع الخارجية وصون سيادة البلاد.

وفي النهاية، فإن ما تقوم به إسرائيل في سوريا لا يمكن قراءته فقط من زاوية أمنها القومي، بل يجب فهمه ضمن سياق أوسع يتعلّق بإعادة توزيع النفوذ في المنطقة، ومحاولة كل طرف تثبيت موقعه في الخريطة الجديدة.

وإسرائيل، وإن كانت لا تمتلك اليد العليا في الملف السوري، إلا أنها تعمل بصمت وفاعلية على أن تكون رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله، مستخدمة في ذلك ما تملكه من أوراق طائفية وإستراتيجية، لفرض شروطها على الطاولة المقبلة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق