إسرائيل تعيش في مأزِق تاريخي متعدد الأبعاد والأوجه، وبشكل غير مسبوق، وهو ما انعكسَ في حجم الاستقطابات والتعارضات تجاه أهمّ القضايا التي تعني الدولة ومستقبلها.
ورغم أنّ إسرائيل تعيش نوعًا من المأزِق منذ إنشائها على أنقاض النكبة الفلسطينية، فإنّها أفلحت على مرّ السنين في المناورة بين الحرب والسلام، وبين المقتضيات الإقليمية والدولية، والأهم في واقعها الداخلي.
إذ نجحت في عقودها الأولى في تحييد أغلب التناقضات الداخلية، وخلقت نوعًا من بوتقة انصهار لطوائف يهودية من أكثر من 100 دولة و80 لغة. ولكن كل هذا بدأ يتغيّر على نطاق واسع بعد نجاح اليمين في الوصول للحكم في العام 1977.
وعلى مدى عقدين لاحقين، وفي ظل جنوح دائم نحو اليمين انقلبت الصورة تمامًا. وبدلًا من الطليعة الكيبوتسية ذات القيم "الاشتراكية" صارت تنشأ من بين قطعان المستوطنين طليعة استيطانية فاشية دينية.
وتقريبًا بوصول نتنياهو للحكم بدأت تنتهي، حتى في صفوف اليمين، بقايا الليبرالية، إلى أن غدت حكومة نتنياهو الأخيرة عنوان سيطرة هوامش اليمين سابقًا على مركز الحياة العامة في إسرائيل.
وجد اليمين الأشد تطرفًا في شخص نتنياهو زعيمًا بارعًا ومفوّهًا وساحرًا يجيد إدارة اللعبة لمصلحة اليمين وتطلعاته. وفي الطريق إلى هذه الزعامة أجاد نتنياهو استخدام كل الأدوات المتوفرة، وعلى مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".
إعلان
وعندما كان الهدف بلوغ زعامة الليكود بنى ما أسمي في حينه، "الغواصة"، التي قادته ومعه مديره العام حينها، أفيغدور ليبرمان، نحو قمة الليكود. وبأساليب المافيا نجح الرجلان في إبعاد من كانوا يعرفون بـ"الأمراء" من أبناء قادة حيروت التاريخيين، مثل بني بيغن، ودان ميريدور، وإيهود أولمرت، وروبي ريفلين، مع كثيرين غيرهم، عن مواقع النفوذ.
وأحل مكانهم مجموعة من الانتهازيين الذين يأتمرون بأمره، ولا يبدون له اعتراضًا. وكان آخر الأمراء الذين أخرجهم من الليكود جدعون ساعر الذي بعد معارضته له وانضمامه إلى مهاجميه سرعان ما عاد إلى الحكومة.
وفي الطريق إلى الزعامة رفض نتنياهو كلمة "لا" من أي من مقربيه، وهو ما قاد إلى انقلاب أقرب مقربيه عليه، وتحولهم إلى ألد أعدائه، رغم عدم تناقضهم معه في المفاهيم اليمينية. وبين هؤلاء وأبرزهم كل من أفيغدور ليبرمان، ونفتالي بينيت.
وكما سلف، قاد ليبرمان غواصة نتنياهو إلى زعامة الليكود وكان شريكه حتى في الصدام مع أرييل شارون. وغدا المدير العام لديوان رئاسة الحكومة، وأمسك بتلابيب الكنيست ووزارات الدولة لصالح نتنياهو، لدرجة صار يسمى فيها "إيفيت الرهيب" على شاكلة إيفان الرهيب في روسيا القيصرية.
ودبّ الخلاف بينهما فأنشأ ليبرمان ضده حزب "إسرائيل بيتنا" معتمدًا أساسًا على نفوذه في صفوف المهاجرين الروس، قبل أن يتحول إلى حزب يميني عمومًا.
كذلك فإن نفتالي بينيت، الذي كان بين أقرب مستشاريه إليه، سرعان ما خرج بجلده من ديوان نتنياهو ليتحول إلى أحد ألد أعدائه أيضًا. وانضم نفتالي بينيت إلى الصهيونية الدينية ليقودها بالتشارك مع آخرين، لكن معاداة نتنياهو له دفعته لإنشاء أهم ائتلاف تصدّى للأخير بالتعاون مع يائير لبيد زعيم "يوجد مستقبل".
وأفلح بينيت بعدد قليل من المقاعد في الكنيست، في أن يفرض نفسه رئيسًا لحكومة المعارضين لنتنياهو. ومن الجائز أن مرحلة حكومة بينيت- لبيد، التي بيّنت أن بوسع إسرائيل أن تعيش من دون نتنياهو، هي من دفعت نتنياهو واليمين المتطرف لشن أشد الحملات الدعائية قسوة وتشويهًا ضد معارضيهم، ما قاد إلى نجاحهم في الفوز بأغلبية ضئيلة في آخر انتخابات. وهي الانتخابات التي أنجبت حكومة نتنياهو- سموتريتش- بن غفير.
إعلان
ولطبيعة الرجلين، سموتريتش وبن غفير، كان شبه مستحيل أن يلتقيا لولا جهد نتنياهو الذي وعدهما بتحقيق أحلامهما الشخصية والقومية. كان نتنياهو هو الذي جمع هامشَي اليمين المتطرف، سموتريتش وبن غفير، واعدًا إياهما وحزبَيهما بالنصر، واحتلال أعلى المراكز في الدولة.
ووافق فور نجاحه في تشكيل الحكومة على منحهما وزارات ذات أهمية بالغة مثل المالية، وفرع من وزارة الدفاع مسؤول عن الضفة الغربية، وكذلك وزارة الأمن القومي.
وهذا ما كان، ففازا في الانتخابات وباتا عنصرين مركزيين في ائتلاف نتنياهو، وسرعان ما تخاصما داخل الحكومة وتناقضا وانفصلا عن بعضهما. وبينهما سباق دائم على الفوز بقصبة سبق التطرف.
لم يكن نتنياهو مضطرًا لهذه التشكيلة الائتلافية لكنه ليس فقط من اختارها، وإنما كان أصلًا من أنشأها وهي من اعتبرت في نظره "حكومة اليمين المليء". وهي الحكومة القادرة، من دون اعتراضات، على تحقيق أحلام اليمين في بناء إسرائيل الكبرى، وإعادة بناء الهيكل.
وليس صدفة أن نتنياهو كان ينطلق من دوافع شخصية وأيديولوجية في كل مواقفه وتحالفاته. ولعبت زوجته، سارة وابنه يائير، دورًا مركزيًا في موقفه ضد العلمانية واليسار والديمقراطية، وضد كل ما يتعارض مع الفاشية.
وبسبب نزعاته وآل بيته في الإسراف والبذخ أنشأ علاقات مشبوهة مع العديد من كبار رجالات الأعمال والمليارديرات. ودفع بعض هؤلاء إلى شراء عدد من كبريات وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية والمسموعة والمقروءة؛ لإعادة صياغة الرأي العام في إسرائيل لمصلحة اليمين.
بل إن مليارديرًا أميركيًا، هو شلدون أدلسون، أنشأ لحسابه صحيفة مجانية، "إسرائيل اليوم"، لتنافس في انتشارها صحفًا واسعة الانتشار وتاريخية مثل: "يديعوت أحرنوت"، و"هآرتس". وقاد إلى انهيار صحيفة "معاريف" وتغيير وجهتها، وحاول السيطرة على موقع "والا" الإخباري.
إعلان
وفي العموم شكلت علاقاته هذه أرضية لعدد من قضايا الفساد التي يلاحق بسببها نتنياهو. قضية الحصول على هدايا باهظة الثمن من رجال أعمال لتسهيل سيطرتهم على مصالح أو وسائل إعلام.
وبسبب هذه الملاحقات القضائية توافق نتنياهو مع عدد من القوى اليمينية على إحداث انقلاب في الجهاز القضائي بل وانقلاب في بنية الدولة ومؤسساتها بما يخدم هدف إبعاد نار القانون عنه.
وفي البداية، حاول سنّ قانون يمنع محاكمته، وعندما فشل حاول تغيير وجهة وتركيبة القضاء عمومًا وتسليم أمره إلى الكنيست، بما يقضي على استقلالية القضاء وإخضاعه للسلطة التشريعية التي أفلح في تجريفها وإخضاعها لإمرته.
وتقريبًا كل ما نسمعه اليوم في إسرائيل عن صراع بين المستوى السياسي، والمستوى العسكري، وصراعات مع الشاباك حينًا، ومع الموساد حينًا آخر، ومع قيادة الشرطة، والمستشارة القضائية للحكومة، ينبع من هذه النقطة.
نتنياهو- واليمين من خلفه- يريد السيطرة التامة وغير المشروطة على كل مؤسسات الدولة، وتحويلها إلى أدوات لخدمة الزعيم أو اليمين وليس العمل لمصلحة الدولة.
وطبعًا كان هذا التوجه استجلب معارضة واسعة من داخل المؤسسات ومن داخل المجتمع. ومع الوقت بدأ الصراع يزداد احتدامًا عبر تظاهرات واحتجاجات شقت إسرائيل طولًا وعرضًا.
واعتبر البعض أن هذا الانشقاق والصراع كان سببًا رئيسيًا من بين أسباب اندفاع حماس لتفجير طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ولكن الحرب وطولها لم يسهما في إخماد تلك المعارضة بل زاداها إلى حد بعيد. إذ أظهرت الإخفاقات يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول ليس فقط نقاط ضعف في المنظومة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، ولكن أيضًا انهيارًا في المفاهيم التي ارتكزت إليها إسرائيل في تعاملها مع التناقضات.
وتبيّن للجميع أن سد الطريق أمام تسوية سلمية مقبولة إقليميًا ودوليًا لا يضمن الأمن لإسرائيل. كما بيّنت إخفاقات إسرائيل في الحرب وطول مدتها أن التعامل فقط بالقوة واستخدام المزيد من القوة، كلما عجزت القوة الأولية عن تحقيق الهدف، لا يضمن النصر.
إعلان
ولكن إذا كان هذا استخلاص الجمهور الإسرائيلي ومؤسساته المتزنة، فليس هذا استخلاص نتنياهو واليمين الحاكم. وهذا هو المعنى الحقيقي لاستطلاعات الرأي التي تظهر أن أغلبية الإسرائيليين وأكثرية القادة العسكريين والأمنيين السابقين والحاليين يؤيدون وقف الحرب وإبرام صفقة تبادل وتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول وفي الأداء السياسي والحربي قبل ذلك وبعده.
كما أن هذا يظهر سبب تمسك نتنياهو واليمين برفض وقف الحرب بل وتطوير نظرية الحرب الدائمة كوسيلة للبقاء في الحكم؛ لأن وقف الحرب في نظرهم يعني هزيمة نتنياهو ومشروع اليمين السياسي والفكري.
وفي هذ السياق، برزت، وليس فقط في أواخر الشهر الفائت، دعوة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ للتوصل إلى تسوية توفر صفقة يتم بموجبها وقف ملاحقات قضائية لنتنياهو مقابل "إقرار بالذنب"، وخروج من الحياة السياسية.
وطبعًا هذه ليست مجرد دعوة، لأن الرئيس إسرائيلي يمتلك أيضًا صلاحية العفو حتى عن مجرم مدان. ولذلك فهم كثيرون أن هذه دعوة من رئيس وسطي يريد تجنيب إسرائيل استمرار الدوران في حلقة الصراع والانقلاب القضائي والبحث عن "الدولة العميقة" والصدام معها.
وكانت جهات إسرائيلية قد تقدمت بطلب إلى هرتسوغ للبحث في هذا المقترح في أواخر العام الفائت، لكنه اشترط أن يأتيه الطلب من جهات مخولة. ويبدو أن عرض المقترح من جديد يشهد على قتامة الصورة المرتقبة إذا استمر الصراع بين نتنياهو ومؤسسات الدولة الأخرى، وبات الرئيس نفسه يبحث عن مخرج.
لكن ثمة كلمة يمكن أن تقال: نتنياهو الذي صار رئيس الوزراء الأطول ولاية في تاريخ إسرائيل والذي حكم الدولة أكثر من مؤسسيها التاريخيين، يصعب عليه القبول بالطرد من الحياة السياسية. فهو في نظر نفسه، وربما في نظر كثيرين آخرين، أحد أنبياء اليمين الجديد في العالم، وهناك من قرأ وتبنى أفكاره التي عرضها في كتبه عن السياسة، ومكافحة الإرهاب، والصراع الحضاري.
إعلان
كما أن اليمين المتطرف، ليس فقط في إسرائيل وإنما أيضًا في أميركا وربما في بعض الدول الأوروبية، لن يستسيغ مثل هذا الخروج من الحياة السياسية. فهذه هزيمة لفكرة، ستترك خلفها نوعًا من هزة أرضية شديدة التأثير.
في إسرائيل الأمر واضح ولا يحتاج إلى تبيان. نتنياهو ليس مجرد شخص، وإنما هو تعبير عن انتقال اليمين المتطرف من أشد الزوايا بعدًا وهامشية إلى مركز القرار.
في الغالب ما سوف يُسقط نتنياهو هو الصراع داخل اليمين بين مكوناته الحريدية والدينية والقومية الفاشية. وهو ما يتبدى حاليًا في الصراع بين الليكود والحريديم حول قانون التجنيد، حيث بدأ الحريديم في عدم التصويت إلى جانب اقتراحات الحكومة.
وهناك صراع بين حزبَي سموتريتش وبن غفير على من يكون له الغلبة لدى الناخبين في الانتخابات المقبلة. وكثير من أنصار اليمين التقليدي صاروا ينفكون عنه باتجاهات أكثر أو أقل تطرفًا.
كما أن المزاج العام في إسرائيل تحت حكم نتنياهو صار أشد تشاؤمًا، ما يعني أن الانتخابات المقبلة، وكما توضح استطلاعات الرأي غير مبشرة لا لنتنياهو ولا لليمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق