كيف تتلاعب النظم المستبدة بماضي الشعوب تمهيداً لقمعها؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة
د. رشيد بوطيب

أستاذ فلسفة اجتماعية في معهد الدوحة للدراسات العليا

8/5/2025-|آخر تحديث: 19:41 (توقيت مكة)

لم يبالغ المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف، وهو يتحدث عن خوف الجماهير من فقدان ذاكرتها، وهو خوف يعبّر عن نفسه ـ غالبًا ـ بشكل باثولوجي، ويفتح الباب على مصراعيه، كما يقول، "لتجار الحنين للماضي، الأمر الذي جعل الذاكرة والحنين إلى الماضي واحدة من أكثر الأشياء الرائجة في المجتمع الاستهلاكي".

وللسبب ذاك، ولأسباب أخرى، يجب ألا نترك الذاكرة مطية لتجار الحنين أو حراس المعابد القديمة، كما يتوجب ألا نتركها فريسة للعبث السياسي وللسلطوية والفلكلورية والانتقائية.

إن العمل الذي صدر مؤخرًا للباحث المغربي زهير سوكاح : "دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. مقاربات وقضايا جديدة" (دار خطوط وظلال 2025) يندرج في إطار هذا السياق، وهو جاء ليردم فجوة كبيرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية بشأن هذا الموضوع، وذلك على الرغم من أن الحرب المعلنة وغير المعلنة على المجتمعات العربية هي حرب على ذاكرتها أيضًا.

ففي مكان ما، هم بصدد صناعة ذاكرة جديدة لنا، ذاكرة بلا ذاكرة أو ذاكرة مشوهة، غربلتها النيوليبرالية وعبثت بهويتها المتعددة عقود الاستبداد والتخلف، عاجزة ليس فقط عن التذكر ولكن أيضًا عن النسيان.

يمتلك سؤال الذاكرة الجمعية، إذن، أهمية قصوى في السياق العربي اليوم. إنه سؤال يتقاطع عنده مجموع الأسئلة الأخرى: أي علاقة بالحداثة الغربية؟ كيف نقرأ تراثنا الحضاري؟ في أي مجتمع نريد أن نعيش؟ أي شكل من أشكال السلطة السياسية وأي علاقة بها؟

إعلان

وما يتفرع عن هذه الأسئلة من قضايا أخرى، كثيرة، تمتد من العلاقات بين الجنسين، بين الأجيال داخل الأسرة وخارجها، القيم التي تسود المجتمع، بنية المؤسسات الاجتماعية، العلاقة بين الدين والسياسة.. إلخ.

والواقع أننا إذا التفتنا إلى قرن من التفكير العربي، فسنجده قد انشغلَ منذ بداياته بهذا السؤال، وكان واعيًا بمركزيّته، ولكنّه في أغلب الأحيان سينحو منحًى توفيقيًا أو استغرابيًا أو سلفيًا، فتلك هي الأجوبة الثّلاثة التي سيقدّمها عن هذا السؤال.

دون أن يعني ذلك أنّنا لا نقف أيضًا على تيار رابع داخل الفكر العربيّ، وهو الذي يمكننا – ولا غروَ- أن نصفه بالنقدي، ذلك الذي نلتقيه مع محمد أركون و"نقد العقل الإسلامي" أو "الجابري و"نقد العقل العربي" وعبدالله العروي، والذي يمكننا أن نقرأ مشروعه باعتباره "نقدًا للعقل اللاتاريخي". إذ أدرك هؤلاء المفكرون أنّ الموقف من الماضي يحدد بشكل عضوي موقفنا من الحاضر والمستقبل.

ولكن، وعلى الرغم من أهمية هذه المساهمات الفكرية وغيرها، من مثل تلك التي قدمها الخطيبي في تفكيكه لذاكرة الجسد، هذا الغائب الكبير، للثقافة العربية المعاصرة، فإنّ الأوان قد آن لنتجاوز اللغة النضالية والروح الأيديولوجية والتشرذم الإبستمولوجي التي طبعت قرنًا من التفكير العربي، وبلغة أخرى، لقد آن الأوان لنفكر في الذاكرة بشكل علمي، وبتعبير آخر: إن علينا أن نؤسس نوعًا من علم الذاكرة.

وهو علم يتوجب أن ينبثق من السياق العربي وأسئلته، وفي حوار نقدي مع حقل دراسات الذاكرة في الغرب، ولمّا أقول نقديًا، أعني أنه يجب ألا نتعامل مع المنجز الغربي في هذا السياق بمنطق الموضة، كما درجنا على فعل ذلك، بل أن نكون على وعي شديد، بأن أسئلتنا قد تختلف كما قد تلتقي مع أسئلته، وأن الأجوبة التي قد ننتهي إليها في مرحلة معينة، لن تكون بالضرورة نسخة طبق الأصل عن تلك التي انتهوا إليها في الغرب.

إعلان

إن هذا الكتاب- والذي أنجزه باحث متمرّس بالموضوع، انتبه إلى ضرورة تبيئة هذا العلم عربيًا، لما له من أهمّية قصوى بالنسبة لسياقنا- يمثل أول مدخل باللغة العربية حول حقل "دراسات الذاكرة" Memory Studies، وهو ينفتح على مقاربات بتخصصية، تمتد من التاريخ إلى الأدب والسوسيولوجيا.. إلخ.

ويتوقف عند مختلف الأبعاد الاجتماعية والثقافية والتاريخية للذاكرة، مؤكدًا أن حقل دراسات الذاكرة لا يهتم بالتمثلات الفردية والجمعية للماضي فقط، بل يتوقف عند نتائج تلك التمثلات على حاضر الناس وينعكس أيضًا في تصوراتهم للمستقبل.

إن استدعاء الماضي يرتبط بالحاضر وحاجاته، والمؤرخ، كما كتب جاك لوغوف، "خاضع للزمن الذي يعيش فيه"، وهو يكرّر هنا ما أشار إليه موريس هالبڤاكس، وهو يؤكد أن "الذاكرة لا تُحيي الماضي ولكن تُعيد تشكيله".

لا يمثل الماضي كُلًا جوهرانيًا، كما تحاول أن تقنعنا بذلك القراءات الأرثوذكسية أو الأيديولوجية أو حتى الانتقائية وغير المنهجية، فالأمر لا يتعلق هنا بذاكرة تابثة، فالذاكرة، شأنها في ذلك شأن كل الأشياء الأخرى، لا تسلم من لعبة التاريخ ومكره.

إنها تخضع لتحولات مستمرة، وقد تتعرض لاستعمالات وتأويلات مغرضة، مثل تلك الذاكرة الطائفية التي تلقي بظلالها المقفرة اليوم على الحاضر العربي.

ألم يكتب المؤرخ الفرنسي جان شينو أن الطبقات المهيمنة تتلاعب بالماضي، وأن "النظام السياسي ينظم الزمن الماضي ويشكل صورته وفقًا لمصالحه السياسية والأيديولوجية"؟، مؤكدًا أن قراءات الماضي أو المعرفة التاريخية، "يمكن أن تعمل في خدمة المحافظة الاجتماعية وفي خدمة النضالات الشعبية… وكل واحد يختار ماضيه، وهذا الاختيار ليس بريئًا".

يتحول الماضي دومًا إلى نوع من الوصاية أو الإكراه، حين نربطه بقراءة محددة، مُختزَلة ومُختزِلة، أو حين نصبغ عليه صلاحية فوق تاريخية. فبقدر ما تؤدي خسارة الذاكرة الجمعية عند الشعوب والأمم إلى اضطرابات خطيرة في الهوية الجمعية، كما يؤكد ذلك لوغوف، بقدر ما يهدد تضخمها، أو تحولها، في تعبير هيغل، إلى " عبء تاريخي"، ما يمكن أن نصطلح عليه بـ "الحقوق التاريخية للأجيال المقبلة"، ويحكم على هذه الهوية الجمعية بالجمود.

إعلان

ولقد كان لوغوف منتبهًا إلى ذلك، وهو يدعونا إلى العمل من أجل "أن تستخدم الذاكرة الجمعية لتحرير البشر، لا استعبادهم"، وهو الأمر نفسه الذي سيتوقف عنده بول ريكور وهو يتحدث عن "الذاكرة المتلاعب بها"، وعن سوء استعمال الذاكرة والنسيان من طرف السلطة، أو ما يسميه بالذاكرة المجروحة أو الأداتية، لأنه قد تم الانحطاط بها إلى مستوى الأداة الأيديولوجية، وهنا يقف ريكور على ذلك التداخل "بين إشكالية الذاكرة وإشكالية الهوية، الجمعية منها والشخصية"، وهي إشكالية تطرح نفسها بقوة في السياق العربي، ولكن بشكل مؤدلج ومزيف، أو بشكل يجعلنا نعيش الذاكرة باعتبارها هوية، وليس في هوية لها ذاكرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق