حين تهتز الثقة بقدرة أقوى دولة في العالم على سداد ديونها، لا يبقى الأمر شأنًا داخليا فحسب، بل يمتد صداه إلى الأسواق العالمية، حيث تتقلب المؤشرات، وتضعف العملات، ويعيد المستثمرون حساباتهم. هذا ما حدث بالفعل حين خفّضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأميركية، في خطوة لم تكن مجرد تغيير رمزي، بل إنذار من قلب النظام المالي العالمي بأن أكبر اقتصاد في العالم لم يعد في أفضل حالاته؛ فالدين يتضخم، والعجز يتسع، والثقة تتآكل بهدوء.
ورغم أن وكالات التصنيف الائتماني لا تصدر أحكامًا سياسية، فإنها تُسلّط الضوء بدقة على مواطن الخلل المالي. وعندما تتخذ قرارًا بخفض تصنيف الولايات المتحدة، فالسؤال لا يكون "لماذا حدث ذلك؟"، بل "ما الذي يعنيه هذا للعالم؟".
في هذا التقرير، نطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية لفهم خلفيات هذا الخفض، وتداعياته على الاقتصادين العالمي والعربي، والمسار الذي تسلكه أميركا في ظل هذا التراجع المالي.
ما وكالات التصنيف ولماذا تُعد قراراتها بالغة الخطورة؟
وكالات التصنيف الائتماني هي مؤسسات دولية مستقلة تُقيّم قدرة الدول والشركات على سداد ديونها، وتُصدر درجات تُشبه التقديرات الدراسية؛ من أعلى درجة "ممتاز"، إلى أدنى درجة "خطر مرتفع". وكلما ارتفعت الدرجة، ازدادت ثقة الأسواق وانخفضت كلفة الاقتراض، والعكس صحيح.

أبرز هذه الوكالات: موديز، وستاندرد آند بورز، وفيتش، وتُستخدم تصنيفاتها مرجعا من قبل البنوك المركزية والمستثمرين وصناديق التقاعد، لتقدير أمان الاستثمارات. وتكمن خطورة قرارات هذه الوكالات في أنها قادرة على التأثير الفوري في حركة الأموال، وإعادة تشكيل مسارات الاستثمار العالمية خلال ساعات قليلة.
إعلان
خلفيات خفض التصنيف.. لماذا فقدت أميركا امتيازها الائتماني الأعلى؟
لم يكن خفض تصنيف الولايات المتحدة مفاجئًا، بل نتيجة منطقية لتدهور طويل الأمد في مؤشرات المالية العامة. وقد استندت موديز إلى مجموعة من الأسباب الهيكلية العميقة التي ظهرت بوضوح في البيانات والتوقعات، وسبق أن حذرت منها جهات اقتصادية مرموقة مثل صندوق النقد الدولي، ومعهد بروكنجز، ومكتب الميزانية في الكونغرس. وأبرزها:
عجز مالي مزمن ومتسارعبلغ العجز الفدرالي 6.4% من الناتج المحلي في 2024، مع توقعات بوصوله إلى 9% بحلول 2035، بفعل تضخم الإنفاق على برامج الاستحقاقات مقابل استقرار الإيرادات. هذا الخلل المتزايد يعمّق هشاشة الوضع المالي الأميركي.
تمديد محتمل لتخفيضات ضريبية مكلفةترجّح موديز تمديد قانون "تخفيضات الضرائب والوظائف" لعام 2017، بما قد يُضيف 4 تريليونات دولار للعجز خلال عقد، وهو ما يُعد رسالة تحذير غير مباشرة إلى الكونغرس.
دين عام يتجاوز حدود التحملمن المتوقع أن يبلغ الدين الفدرالي 134% من الناتج بحلول 2035 ارتفاعًا من 98% في 2024، وهي نسبة خطيرة حتى بمقاييس الاقتصادات المتقدمة.
تضخم تكلفة خدمة الدينارتفعت مدفوعات الفائدة من 9% من الإيرادات في 2021 إلى 18% في 2024، مع توقعات بوصولها إلى 30% في 2035، وذلك يعني أن ثلث الإيرادات سيُستهلك في الفوائد فقط.
نفقات إلزامية تقيد المرونة الماليةتتوقع موديز أن تبلغ النفقات الإلزامية 78% من الإنفاق العام في 2035، وذلك يقلص قدرة الحكومة على تعديل السياسات أو تنفيذ إصلاحات.
شلل سياسي مزمنالجمود بين البيت الأبيض والكونغرس في اتخاذ قرارات مالية حاسمة عمّق الأزمة، وأضعف الثقة بقدرة النظام السياسي على إدارة الاقتصاد بفاعلية.
قصور في خطط الإصلاحالحلول المقترحة حاليا تُعد مؤقتة أو غير واقعية، ولا ترتقي إلى مستوى التحديات المالية البنيوية.
عبء فوائد أعلى من نظرائهفي 2024 بلغ عبء الفوائد 12% من الإيرادات، مقارنة بـ1.6% فقط لدى الدول التي ما زالت تحظى بأعلى تصنيف.

إعلان
قفزت عوائد سندات الخزانة لعشر سنوات من 0.9% في 2020 إلى 4.4% في مايو/أيار 2025، وذلك يرفع كلفة الاقتراض بشكل كبير.
تآكل نقاط القوة التقليديةرغم مرونة الاقتصاد الأميركي وحجمه الكبير، لم تعد هذه العوامل كافية لتعويض التدهور الحاد في المؤشرات المالية.
التداعيات.. كيف يؤثر خفض التصنيف على أميركا والعالم والمنطقة العربية؟
التأثير على الاقتصاد الأميركي:
ارتفاع كلفة الاقتراض:يؤدي خفض التصنيف إلى قفزة في عوائد السندات لجذب المستثمرين، مما يُثقل كاهل الميزانية الأميركية.
تضخم مدفوعات الفائدة:وصلت في منتصف 2025 إلى نحو 1.11 تريليون دولار سنويا، أي ما يعادل تقريبًا ميزانية الدفاع أو الصحة، ومع استمرار التصاعد ستبتلع هذه الفوائد 30% من الإيرادات.
تقلص قدرة الحكومة على الإنفاق:يضطر صانعو القرار إلى تقليص الإنفاق على قطاعات مثل التعليم والبنية التحتية، مما يُبطئ النمو الاقتصادي.
الاضطرابات في الأسواق المالية:تراجع الثقة دفع بعض المستثمرين إلى "بيع أميركا"، حيث لم تعد الأصول الأميركية تُعتبر ملاذًا آمنًا. فقد انخفض الدولار بنحو 8% منذ بداية العام، وارتفعت عوائد السندات بشكل ملحوظ.
التأثير على الاقتصاد العالمي:
ارتفاع عالمي في تكاليف الاقتراض:نظرًا لاستخدام السندات الأميركية كمرجع عالمي، فإن ارتفاع عوائدها يؤدي إلى ارتفاع عام في أسعار الفائدة بأنحاء العالم.
تشويش على سياسات البنوك المركزية:البنوك مضطرة إلى موازنة سياستها النقدية بين محاربة التضخم وحماية العملة الوطنية من الضغط الناتج عن السوق الأميركية.
اهتزاز الثقة في الدولار كعملة احتياط:بدأت تتجه دول عديدة إلى تنويع احتياطاتها بعيدًا عن الدولار، وذلك ينذر بتغيرات عميقة في موازين القوى النقدية العالمية.
التأثير على الدول العربية:
خسائر استثمارية مؤقتة:هناك دول عربية تمتلك حيازات ضخمة من سندات الخزانة الأميركية، وقد تتأثر قيمتها السوقية نتيجة تراجع التصنيف.
ارتفاع كلفة الاقتراض السيادي:إعلان
ارتباط السندات العربية بالسوق الأميركية يجعلها عرضة لارتفاع الفائدة العالمية.
ضغوط على السياسة النقدية:قد تضطر البنوك المركزية العربية إلى مسايرة السياسة النقدية الأميركية، مما يُقيد أدواتها لدعم النمو المحلي.
تأثيرات على الأسواق المالية الإقليمية:قد يشهد بعضها تراجعًا في السيولة أو تقلبات مؤقتة إذا ترافق خفض التصنيف مع أخبار اقتصادية سلبية من أميركا.
أخطار إستراتيجية.. إلى أين يقود هذا المسار المالي؟
تضخم الدين العام بشكل خطير:بحسب مكتب الميزانية بالكونغرس، قد يصل الدين إلى 156% من الناتج بحلول 2055، وهي نسبة غير مسبوقة تتجاوز حتى مستويات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الفوائد وحدها قد تستهلك 5.4% من الناتج في 2055، وذلك يعني تراجع الإنفاق على القطاعات الخدمية.
عبء اجتماعي وسياسي متفاقم:الأجيال القادمة ستدفع ثمن العجز الحالي عبر ضرائب أعلى وخدمات أضعف، مما قد يُولّد مشكلات اجتماعية حادة.
تآكل المكانة المالية العالمية لأميركا:الاستمرار في هذا المسار قد يُفقد أميركا موقعها كمركز مالي عالمي، خاصة مع توجه الدول نحو بدائل للدولار.
ضعف قدرة الحكومة على التعامل مع الأزمات:كل أزمة مستقبلية ستجد الحكومة الأميركية أمام خيارات مالية محدودة بسبب تآكل الفوائض والحيز المالي.
هل ينذر خفض التصنيف بأزمة أكبر؟
خفض التصنيف ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة من المؤشرات السلبية المتراكمة. فبين تآكل الثقة، والجمود السياسي، وغياب الإصلاحات الجذرية، تُواجه الولايات المتحدة مسارًا ماليا خطيرًا.
وإذا لم تتخذ خطوات حاسمة وجذرية، فإن السؤال لن يكون: "متى ستُستعاد الثقة؟"، بل: "كم من الوقت يمكن أن يصمد الاقتصاد الأميركي من دون اهتزازات لا يمكن احتواؤها؟".
0 تعليق