مراكش- عندما تزور مدينة مراكش التاريخية، حري بك أن تتأمل في تفاصيلها الأكثر خصوصية، أبواب المنازل التقليدية وغرفها ونوافذها، إنها بوابات إلى عالم آخر، تحكي قصصا عن تاريخ المدينة وثقافتها الغنية.
ولتعلم أن سحر مراكش لا يقتصر على مآثرها التاريخية العريقة وجوها المعتدل، وأسواقها النابضة بالحياة بألوانها وعبق توابلها، وكرم أهلها، وأجواء ساحة جامع الفنا الليلية، بل يمتد ليشمل جمال أبواب المنازل التقليدية بتصاميمها الفريدة.
فحين تتجول في أزقة المدينة العتيقة، أو تقيم في أحد رياضاتها أو تزور أحد متاحفها، سيبدو لك كل باب تمر به لوحة فنية فريدة، تحمل نقوشا وزخارف تحكي حرفية، وتأثيرات تاريخية متنوعة، وهي تعبير عن الثراء الثقافي للمغرب، ورمز كرم الضيافة المغربية الأصيلة.
ستكتشف أسرار هذه الأبواب، وأنماطها المتنوعة، وتقنيات تصنيعها، ودلالتها الثقافية، وتغوص في عالم جميل، حيث يتحول كل باب إلى حكاية، وكل نقشة إلى رمز يحمل بين طياته تاريخا عريقا.

إمتاع بصري وإبداع
من يتأمل في تلك الأبواب يجدها فيها مهارة وإبداع الحرفيين في العديد من التفاصيل الدقيقة. وإن كانت الأبواب تبدو متشابهة، ويطلق عليها عموم الناس لفظ "القوس السباعي" إلا أن الباحث في الهندسة المعمارية محمد جمال الدين بنعطية يرى فيها تنوعا يضاهي تنوع الفكر الإنساني وإبداعيته.
يقول بنعطية للجزيرة نت "حسب تقسيم الخط المرجعي، وهو الخط الذي يُعتمد عليه لتحديد مواقع مراكز رسم الأقواس أثناء إنشائها، يجدر بالمتأمل أن يميز بين القوس الدائري، والقوس المدبب ذو نقطتين وهو مدبب رباعي المركز".

ويأتي جزء حدوة الحصان من القوس مع مركز يبعد قليلا عن خط المرجع، والقوس الخماسي (الخموسي) حيث يتم تقسيم خط المرجع إلى 5 لتجاوز القوس، والقوس السداسي (السدوسي) حيث يتم تقسيم الخط المرجعي إلى 6، والقوس السباعي، وفيه يتم تقسيم خط المرجع إلى 7.
إعلان
زخارف الأقواس
وفيما يخص الزخارف المرافقة لقوس الأبواب يتم التمييز بين الأنواع التالية:
قوس الخيط: قوس منخفض على شكل مقبض سلة. المخوسر: هو شكل هندسي يتكون من أربعة أجزاء من دائرة مرتبة على شكل حرف "إس" (S) قوس بالرخوي: قوس مزخرف بزخارف الهوابط تسمى الرخوي. قوس بالخرسنة: قوس متعدد الفصوص مزخرف بزخارف تسمى (الخرسنة)، يستخدم على اغلب الواجهات المعمارية وكذا الخشبية.
علاوة على ذلك، حري بكل زائر للمغرب، وخاصة المتأمل في روعة المعمار والزخرفة المغربية، أن ينتبه إلى تفاصيل بناء وتصميم وحدات الزخرفة، إذ كثيراً ما تكشف عن تحف فنية نادرة.
ومن أروع الأمثلة على ذلك ما يظهر في بعض الأبواب، حيث يبرز بنعطية مثلا، براعة أحد الحرفيين المهرة في باب مدرسة ابن يوسف في مراكش؛ إذ استطاع بفضل مهارته أن يتغلب على صعوبة المجال وتحدياته دون أن يخلّ بمبادئ الزخرفة الأصيلة، مما يدل على حس فني رفيع ومهارة لا تتاح لأي كان.
أبواب المدن
تحافظ أبواب المنازل المغربية بشكلها الحالي على تقليد قديم، والتأمل فيها يقود حتما إلى أبواب المدن التاريخية في مراكش ومكناس والرباط وفاس وغيرها.
ويلاحظ الباحث في التاريخ المغربي هشام الأحرش في تصريح للجزيرة نت أن أبواب المنازل لا تحتوي على أبراج، لكن في جانبيها نجد ما يسمى "التاج"، وكأن وجودها يعوض تلك الأبراج.

بالإضافة إلى ذلك، هناك الزخارف النباتية التي تعلو القوس حدوة الحصان، ثم "الحامل" الذي يحمل الأجزاء العلوية، والذي غالبا ما يكون شكله مربعا.
ويبرز الباحث المغربي أن الباب الرئيس للمنازل يتكون من جزأين منفصلين يحيط أحدها بالآخر، تسمى الصغرى منهما بالخوخة أو الفرخة. ويكون هذا الباب بسيطا ومصنوعا من الخشب وخاليا من الزخرفة، إلا من مسامير حديدية وإطار خارجي مصنوع من الحجر المنحوت، يبرز الخصوصية ويدفع الزائر الى عدم الاقتراب دون إذن.
إعلان
ويفتح على اليمين تيمنا، ويليه انعراج أولي أو أكثر قبل الوصول الى الفناء الداخلي حفاظا على خصوصية البيت.

عبارات ترفع الكلفة
لكن هذا الحرص على خصوصية البيت، سيتحول إلى شيء آخر حين يستقبل أهل المنزل الضيف بترحاب لا يخلو من عبارات "ترفع الكلفة وتشيع الألفة" في الأجواء، حتى كأن الزائر يشعر بأنه في بيته أو أكثر.
وأما الأبواب الداخلية للمنازل، فتتكون من جزأين متماثلين، تفتح الخوختان منها خلال الأيام العادية، أما الباب كاملا فيفتح خلال المناسبات في إشارة إلى انفتاح البيت كاملا ترحيبا بضيوفه.

ومما يثير الانتباه في الأبواب، يقول الأحرش، أن فخامة هذه الأبواب تعكس ثراء أصحابها ومكانتهم، فقد نجد الأبواب المتوسطة أو المنخفضة كما نجد الأبواب المرتفعة التي تشبه تلك الموجودة في مدرسة بن يوسف التاريخية، وهي أبواب احتفالية كانت في الأصل مرتبطة بالمساجد، ولكنها تأثرت أيضا ببعض وجهاء رجال السلطة، وعلى رأسهم السلطان.
ويشير الباحث الأحرش إلى أنه غالبا ما يدون تاريخ البناء، وهو تقليد موحدي موجود أيضا في المساجد والمدارس باقي المعالم الكبرى.
ومن يريد أن يرى هذا الجمال ويكتشف سر تلك الأبواب عليه أن يقصد دورا تقليدية أصبحت مزارات سياحية ومنتديات ثقافية، والتي كان الباحث في التراث عبد اللطيف آيت بن عبد الله وراء ترميم الكثير منها بمدينة مراكش.

فن العيش التقليدي
ويقول آيت بن عبد الله للجزيرة نت إن الأبواب المغربية في هذه المباني انعكاس لفن العيش التقليدي، وإبراز جمالها للسائح والزائر، وهو يسهم في الحفاظ على النسيج الاجتماعي للمدينة العتيقة، والمدرجة على قائمة منظمة التربية والعلم والثقافة (يونسكو) منذ سنة 1985، وهي أيضا ضاربة في التاريخ ويعود تاريخ تأسيسها الى القرن السادس الهجري.
إعلان
ويضيف بن عبد الله أنه لا يمكن لعاشق لكل هذا الجمال في التراث المغربي أن يبقى محايدا أمام اندثار عدد من معالمه في المدينة التاريخية.

وعند زيارة رياض دار شريفة مثلا أو رياض متحف الشاي أو دار الزليج في المدينة القديمة لمراكش ستجد لمسة "المعلمين" الخبراء، والذين بعث فيهم عبد اللطيف آيت بن عبد الله روح الإبداع.
وقد حرص الباحث المغربي إلى جانب المهندس المعماري البلجيكي كوينتين ويلبو على الحفاظ على كل الأشكال والديكورات الأصلية، ومستعملة التقنيات التقليدية مع إعادة كل الخصائص التاريخية لكل أجزاء المياني، بما فيها الأبواب والنقوش بصفتها جزء من هوية المدينة، ومساهما في بقاء مدينة مراكش وجهة سياحية جاذبة.
0 تعليق