كتب يوسف الشايب:
"حصل تغيّر مركزيّ في شعري بداية من العام 2013، قبلها كانت قصائدي عبارة عن كتلة واحدة، لها بداية ونهاية واضحة، بمعنى أن هناك تسلسلاً ما قصصياً أو منطقياً تبدأ به القصيدة بطريقة منظمة وعقلانية حتى الوصول للنتيجة النهائية.. بعدها أصبحت لا أعرف ما الهدف من القصيدة، حيث تذهب باتجاهات متضاربة ومتعاكسة، لدرجة أنني أحياناً لا أعرف ما القصد فيما أقوله ولا المعنى النهائي لما أقوله.. هذا هو الفرق الجوهري بين قصائدي في الدواوين الخمسة الأولى، ودواويني الأربعة الأخيرة".
كان هذا شيئاً ممّا قاله الشاعر الفلسطيني زكريا محمد، في قاعة مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، قبل عشرة أشهر على رحيله، وتحديداً في تشرين الأول 2022، خلال أمسية حوارية تخللتها قراءات شعرية، أدارتها الشاعرة داليا طه، لمناسبة صدور مجموعته الشعرية الأخيرة "تمرة الغراب" وكتابه "سَنَة الحيّة: روزنامات العصور الحجرية"، عن دار "الناشر" في رام الله.
وفي ذات الإطار، أضاف زكريا محمد: أصبحت قصيدتي تبحث عن إحساس ما عند القارئ، تسعى لإيصال القارئ لأن يشعر بشوق ما غامض، أن يحس بإحساس غامض، لكنه ممتع بنفس الوقت. لم تعد قصيدتي تقول أشياء واضحة وملموسة، ليس بالنسبة للقارئ فقط، ولكن بالنسبة لي أيضاً.
وأشار زكريا إلى أن هذا التعديل الجوهري في شعره بدأ منذ بدء كتابته للشعر دون توقف على حائطه في "فيسبوك"، مؤكداً أن قصائده أصبحت تُدوّن على "فيسبوك"، ولذا باتت غير واضحة المعالم.. وشدّد، وقتذاك: "الفيسبوك أحدث انقلاباً كبيراً في الشعر، ففي الماضي كنت أكتب القصيدة وأرسلها إلى مجلة أو جريدة وأنتظر نشرها بعد عدة أسابيع، ثم يراها القارئ وأنتظر وصول القليل من آرائهم بعد أشهر، وبالتالي فإن دورة إنتاج القصيدة كانت طويلة جداً. مع الفيسبوك حدث اختلاف جذريّ، حيث أصبحت دورة إنتاج القصيدة سريعة جداً، فأنا الآن أكتب القصيدة وأضعها على حائطي، تصل القارئ بعد عشرين ثانية، وبعد دقيقة على نشرها تصلني ردود أفعال القرّاء عليها. وهذا يعتبر شيئاً خرافياً لم يسبق له مثيل، ولا يمكن إلا أن يكون له تأثير على اللغة، وعلى شكل القصيدة، وعلى الكاتب أو الشاعر، وعلى حجم إنتاجه، فأنا على سبيل المثال ازداد حجم إنتاجي الشعري الضعف، منذ أن بدأت أكتب على فيسبوك".
وأكد أن من بين الفنون كلها، الشعر هو المستفيد الأكبر من "الفيسبوك"، مؤكداً أن "فيسبوك" أحدث نهضة جدية في مجال الشعر.
غياب "تمرة الغراب"
ولا أدري لماذا غابت مجموعة "تمرة الغراب"، وهي المجموعة الأخيرة للشاعر الفلسطيني الراحل أخيراً زكريا محمد، عن سيرته التي انتشرت في وسائل الإعلام المحلية والعربيّة، والتي شدّدت على أن له ثماني مجموعات شعرية، متجاهلين التاسعة هذه، الصادرة عن "دار الناشر" في مدينة رام الله، قبل عام من رحيله، في غلافٍ رسم لوحته بنفسه.
في هذه المجموعة، يتمرّد زكريا محمد على الشِّعر والقصيدة لجهة الشكل والمضامين، بمعنى الخروج على المألوف، في تجاوز لا يمكن أن يشكّل ترفاً إبداعيّاً بقدر ما هو تعبير عن موقف يشتمل على غضبٍ، ومعارضةٍ، واحتجاج، وهي نتيجة ليست مستهجنة، بل تأتي متماهية مع طبيعة تكوينه على أكثر من مستوى، فالتمرّد في حالته تكوين إبداعيّ.
واللافت في هذه المجموعة، التي تتوزّع نصوصها على 220 صفحة، أن أيّاً من نصوصها لا يحمل عنواناً، في حين تظهر بعض العبارات كفواصل ما بين مجموعة نصوص وأخرى، تحمل من النثر كثيراً، بحيث تلامس السرد القصصي في عدد منها، أو بمعنى أدق في غالبيّتها.
ومن هذه الفواصل المُفترضة، التي يتضح أنها تتخذ شكل الحِكَم، أو عبارات تتأرجح ما بين شِعر وشِعر يمزج ما بين حِكَم ورؤى فلسفية: "حرف العطف هو الكلب الوحيد الذي أثق به، ويجمع لي شتات بهائمي"، أو "الأنا مثل ظهر المرآة لا تستطيع أن تثبت نفسها ولا براءتها"، أو "الحصان هو الموحّد الوحيد على وجه الأرض، لذا كان دوماً شهيداً، وكان دمه فصيداً"، أو "الوجود في قفص، والعدم في قفص، وانظر أنت أي الطائرَين تريده أن يغني لك".
الموت الحاضر شِعراً
ويحضر "الموت" في هذه الفواصل بشكل لافت، حيث كتب: "أحببتُ أن يكون موتي دائرة واسعة يستطيع الحصان أن يجري على محيطها شوطاً أو شوطين، وهناك أطرح فراشي بين المركز والمحيط، ثم أتمدّد مثل نصف قطر بينهما"، أو حين "صاح الموت: سأكسر الإيقاع، وأكتب لكم على الصخرة رجزاً لا يفهم"، أو الفاصل الأخير حيث يقول: "بيني وبين الموت حرب أقفال.. لن يستطيع فتح قبضتي إن أقفلتها، ولن أستطيع إقفالها إن فتحها".
و"الموت" في "تمرة الغراب" ثيمة محورية، نجدها بين نصّ وآخر بكثرة... "كلام الموتى أشدّ عمقاً من كلام الأحياء، كأن الموت يضيف معنى فائضاً إليه، أو كأنه يكشف أسراره التي تضيّعها الحياة.. من أجل هذا أذهب إلى حوائط الموتى، وأقرأ بوستاتهم كلها بالترتيب، أتصيّد الموتى تصيّداً، وأمضى إلى حدائقهم المخلوعة الأبواب.. أقعد هناك لساعات، فأجدهم مكتملين كأنهم ذاهبون إلى حفل رسمي، وأجد أقوالهم مضيئة مثل فصوص من ماس.. لم يعودوا بحاجة إلى كلمات أخرى، وكل ما يمكن أن يقال زائد عن المطلوب، ويجرح كلامهم.. لقد وضعوا نقطة كبيرة صامتة في آخر السطر، ومضوا.. والنقطة الأخيرة هذه هي التي خلقت المعنى، هي التي جعلت كلامهم وثيقة مصدّقة لا يرقى إليها الشك".
ويؤكد في ذات الموضع: "الحياة ليست خالقة معانٍ، فكل ما تقدمه مجرد اقتراحات واجتهادات.. الموت هو الخالق الحقيقي للمعاني، يمسك بها بين يديه ثم يختمها ويصدّقها.. لا تقلقوا بشأن البوستات الجديدة يا أصدقائي الموتى، فقد تمّ كلامهم واكتمل، وإن كان هنا من حاجة إلى بوستات تعليقاً على ما سيحدث فسنكتبها نحن نيابة عنكم.. فما زلنا أحياء وقادرين على صياغة جمل مضطربة وفقرات ناقصة المعاني.. اتركوا النقص لنا نحن، أما أنتم فقد اكتملتم، لذا اجعلوا همّكم أن تنفخوا في أكفكم، كي تدفئوا أصابعكم في البرد الجليدي حولكم.. أما نحن فسنحاول ما أمكننا أن نتذكر أعينكم، وأن ننصبها في قلوبنا مصابيح لا تنطفئ أبداً"ً.
ويمكن وصف المجموعة التاسعة الغائبة عن سيرة زكريا محمد بـ"نصوص الموت"، فهو يتناوله كثيراً، مقحماً إيّاه وقرّاءه في جدلية البقاء والفناء، كأن يجزم: "يجلس الموتى على دكك عالية، ينسجون سلال من قصب في غسق رمادي، فالليل لا يصل إليهم، والنهار لا يطلّ عليهم.. وهناك يعاكسون أوراق القصب المنقوعة، ويصنعون بها معينات، كل معين رأسه فوق رأس أخيه، وكل معين مثل أخيه، فالموت معينات متسلسلة لا تنتهي.. الأحياء لا يعرفون هذه الوقائع، يظنون أن الموت فراغ كبير.. لا الموت سُخرة عظيمة، يصنع فيها الموتى سلالاً لا يخزّن فيها تمر، ولا يشتريها أحد، إنه تقريباً طراز من الفن للفن لا غير (...) كما أنه ليس هناك نوم أيضاً، لأنه ليس هناك قناديل تطفأ بنفخة من الفم، وليس هناك ريح في الرحبة العريضة التي يعملون فيها... الجو هادئ كامد، وكلّ شيء يسبح مثل ضفادع في ماء فاتر".
الشعر والموت والتسمية
وفي رد على سؤال محاورته، في "عليّة"، مركز خليل السكاكيني، أجاب زكريا، وقتها: الطبيعة هي أول ما يشدني للكتابة، فهي تعيدني للطفولة، وتشعرني بالحزن بسبب أن الطبيعة، خاصة في الضفة الغربية، أصبحت تموت عملياً، ولا أحد يفعل شيئاً لوقف هذا، وبالتالي أغلب ما أكتبه هو رثاء للطبيعة، مضيفاً: من ناحية أخرى أشعر أن الشعر بشكل من الأشكال هو نوع من التسمية، بمعنى أنه إذا أتقنت تسمية الأشياء بشكل صحيح، فكأنك تخلقها وتجعل الناس يرون هذا الخلق.. إن تسمية الأشياء بالشكل السليم أعتبرها جوهر الشعر، ومن هنا فإن جزءاً كبيراً من قصائدي هو محاولة لتسمية دقيقة للأشياء.
أخبار متعلقة :